المَطْلَبُ الخامس: حذفُ العامِلِ في المفعولِ المُطْلَق
أولًا: حَذفُ العامِلِ في المَصْدَرِ المُؤَكِّد:اختلف النُّحاةُ في حُكمِ حَذفِ العامِلِ -سواءٌ كان الفِعْل، أم المَصْدَرَ، أم اسمَ الفاعِل أم اسمَ المفعولِ- في المفعول المُطْلَق الذي أتى للتأكيدِ، والغالبيَّةُ منهم على أنَّ ذلك لا يجوزُ؛ إذ الغَرَضُ من هذا المَصْدَر هو التوكيدُ، وحَذفُ العامِلِ ينافي مقتضى التوكيدِ؛ فلذلك لم يجُزْ أن تَقولُ: محمَّدًا ضربًا؛ بحذف الفِعْل (اضرِبْ).
ولا يَرِدُ عليه قَولُهم: أنتَ سيرًا سيرًا؛ لأنَّ المَصْدَر هنا نائبٌ عن الفِعْل لا معمولٌ له
يُنظَر: ((إرشاد السالك إلى حل ألفية ابن مالك)) لبرهان الدين ابن القيم (1/ 358)، ((تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد)) لناظر الجيش (4/ 1847). .
ثانيًا: حَذفُ العامِلِ في المَصْدَرِ المُبَيِّنِ للعَدَدِ أو النَّوعِ:أولًا: الحذفُ الجائزُ:وذلك إذا دلَّ الدليلُ عليه؛ كقَولِك: ضربًا شديدًا، لمن قال: ما ضربتَ؟ وتَقولُ: ضَربتَينِ، لمَن قال: كم ضربتَ فلانًا؟ وتقول لمن قدِم من السَّفَرِ: قدومًا مباركًا، أي: قدِمْتَ، وكذا قولُك: حَجًّا مبرورًا، للرَّاجِعِ من مناسِكِ الحَجِّ، أي: حَجَجْتَ.
ثانيًا: الحَذفُ الواجِبُ: وهو ما حُذفَ فيه العامِلُ، وجعلوا المَصْدَر بدلًا عنه، ولا يجوزُ الجمعُ بين البَدَلِ والمبدَلِ منه، وذلك في:
1- الأساليبِ الإنشائيَّةِ الطَّلَبيَّةِ؛ كالأمرِ والنَّهيِ والدُّعاءِ ونحوها؛ كقَولِك للجالسين عند دخولِ أحدِ الأعيانِ: قيامًا، وكذلك قولُك لهم: جُلوسًا. فكلٌّ من الكلمتين مفعولٌ مُطْلَق لفعلٍ محذوفٍ وجوبًا. ومنه قَولُه تعالى:
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد: 4] ، أي: فاضرِبوا الرِّقابَ.
ومِثْلُه في النَّهيِ قولك: سكوتًا لا تكلُّمًا، أي: اسكُتْ سُكوتًا، ولا تتكلَّم تَكَلُّمًا.
ومِثْلُه في الدُّعاءِ: اللهُمَّ نصرًا لعبادِك، وهلاكًا لأعدائك؛ فكَلِمَتا (نصرًا) و(هلاكًا) كلاهما مفعولٌ مُطْلَق لفِعلٍ مَحذوفٍ وجوبًا.
ومنه ما سُمع عن العرب: سَقيًا لك ورَعْيًا.
ومِثْلُه في الاستفهامِ التوبيخيِّ: أبخلًا وأنت واسعُ الغنى؟! أي: أتبخَلُ بخلًا.
2- الأساليبُ الإنشائيَّةُ غير الطلبيَّةِ: وهي المصادِرُ الدالَّةُ على معنى يريدُ المُتكَلِّمُ إعلانَه وإقرارَه والتسليمَ به.
وأكثَرُ هذا مسموعٌ عن العَرَبِ؛ كقَولِهم عند حُصولِ النِّعمةِ: حمدًا وشكرًا لا كُفرًا، أي: أحمد اللهَ وأشكُرُه ولا أكفُرُ به.
وقولهم عند حُصولِ الشِّدَّةِ: صبرًا لا جَزَعًا، أي: أصبِرُ ولا أجزَعُ.
3- الأساليبُ الخَبَريَّةُ: وهي قياسيَّةٌ يُشترط فيها أن يكونَ العامِلُ من لفظ المَصْدَرِ ومادَّتِه، ومنها:
أ- الأسلوبُ المشتَمِلُ على مَصْدَرٍ يوضِّحُ أمرًا مبهَمًا مُجمَلًا، تتضمَّنُه جُملةٌ قبل هذا المَصْدَر، ويُفَصِّلُ عاقِبَتَها، أي: يُبَيِّنُ الغايةَ منها؛ نَحوُ قَولِه تعالى:
حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد: 4] ؛ فالمَصْدَران: (مَنًّا، فداءً) تفصيلٌ لشدِّ الوَثاقِ السَّابق ذِكْرُه، أي: شُدُّوا وثاقَهم بالأسْرِ، ويكونُ التصَرُّفُ فيهم إمَّا بالمنِّ عليهم وإما بفدائِهم بالأَسرى المُسلِمين أو بالأموالِ.
ب- الأسلوبُ الذي يكون فيه المَصْدَرُ مُكَرَّرًا؛ نحو قولك: المطرُ سَحًّا سَحًّا. المطر: مُبتَدَأٌ مَرفوعٌ، وعَلامةُ رَفعِه الضَّمَّة، سحًّا: مفعول مُطْلَق لفِعلٍ مَحذوفٍ وجوبًا، تقديره: يسِحُّ، منصوبٌ، وعَلامةُ نَصبِه الفتحةُ، سحًّا الثانية: توكيدٌ لفظيٌّ منصوبٌ، وعَلامةُ نَصبِ الفتحةُ.
ج- الأسلوبُ الذي يكونُ فيه المَصْدَر محصورًا، نحو قولِك: ما الأسدُ مع فريستِه إلَّا فتْكًا؛ فالمَصْدَر هنا مفعولٌ مُطْلَق لفِعلٍ مَحذوفٍ وجوبًا. والحَصرُ يقومُ مقامَ التَّكرارِ.
د- كَلِماتٌ تؤكِّدُ نَفْسَها، ويكونُ معناها معنى الجُملةِ التي قبلها، مِثلُ: اعترافًا. تَقولُ: له عليَّ ألْفٌ اعترافًا؛ فالاعترافُ هو أنَّ له على الرَّجُلِ ألفًا.
هـ- كَلِمات (قطْعًا، حقًّا، يقينًا)، وهي كَلِماتٌ تؤكِّدُ غيرها؛ بأن يكون المَصْدَر واقعًا بعد جُملةٍ معناها ليس نصًّا في أمرٍ واحدٍ يقتصر عليه، ولا يحتَمِلُ غيرَه، وإنما يحتَمِلُ عِدَّةَ معانٍ مختلفةٍ؛ منها المعنى الذي يدُلُّ على المَصْدَر عليه قبل مجيئه، فإذا جاء بَعْدَها منع عنها الاحتمالَ، وأزال التوهُّمَ، كقَولِك: هذا بيتي قَطْعًا، أي: أقطع بذلك قطعًا، وتَقولُ: سُرِرتُ برؤيتِك حَقًّا، أي: أُحِقُّ حَقًّا، وكذلك تَقولُ: هذا بيتي يقينًا
يُنظَر: ((شرح ألفية ابن مالك)) لابن الناظم (ص: 193)، ((توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك)) للمرادي (2/ 650). .
و- أسلوبُ التشبيهِ، نَحوُ قَولِك: للشُّجاعِ زئيرٌ زئيرَ الأسَدِ، وللحزينِ أنينٌ أنينَ الجريحِ، أي: يزأرُ زئيرَ، ويئنُّ أنينَ.
ز- كَلِمات (وَيْحَ ووَيْسَ، ووَيْلَ ووَيْبَ): وهي كَلِماتٌ سماعيَّةٌ تُستعمَلُ بلا عاملٍ، ويُستعمَلُ (وَيْحَ ووَيْسَ) في الترَحُّمِ، و(وَيْلَ ووَيْبَ) في العذابِ. تَقولُ: ويحَ فلانٍ ما أفْقَره، وويلَ فلانٍ ما أخبَثَه!
ح- كَلِمات مسموعة على صيغة المُثَنَّى، مِثلُ: لبَّيك وسَعْديك، وحَنانيك، ودَواليك؛ فقولك: لبَّيك اللَّهُمَّ لبَّيك. لبَّيك: مفعولٌ مُطْلَق لفِعلٍ مَحذوفٍ وجوبًا منصوبٌ، وعَلامةُ نَصبِه الياء؛ لأنَّه مُلحَقٌ بالمُثَنَّى، والمعنى من التثنيةِ: تلبيةً بعْد تلبيةٍ، وهكذا تَقولُ: لبَّيك وسَعْدَيك، غالبًا ما يقترنانِ معًا، وتَقولُ: خُذِ الكتابَ فاقرَأْه ثم أعِدْه إليَّ وخُذْ غيره دَوالَيكَ، أي: متداولًا مرةً بعد أُخرى.
ط-كَلِمات ملازمة للإضافة، مِثلُ: سُبحانَ الله، عِياذًا بالله، مَعاذَ الله، حاشَ اللهِ
يُنظَر: ((شرح ألفية ابن مالك)) لابن الناظم (ص: 193)، ((توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك)) للمرادي (2/ 650)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/ 219). .