المَطلَبُ الرَّابِعُ: الرِّثاءُ
الرِّثاءُ هو بُكاءُ المَيِّتِ ومَدْحُه، فيُذكَرُ ما فَقَدَه الشَّاعِرُ أو فَقَدَتْه القَبيلةُ بفَقْدِه.
ولمَّا كانَ ذلِك النَّوْعُ مِن المَدْحِ إنَّما يَتعلَّقُ بمَيِّتٍ لا يُرْجى مِنه عَطاءٌ أو نَفْعٌ، كانَ الرِّثاءُ قَديمًا أصْدَقَ الشِّعْرِ وأنْقاه وأخْلَصَه؛ إذِ الدِّافِعُ إلى الرِّثاءِ إكْبارٌ يُخالِطُه الوَفاءُ والجَزَعُ، أو حُبٌّ يُساوِرُه التَّفجُّعُ والتَّحسُّرُ، فدافِعُ الرِّثاءِ نَبيلُ المَنشَأِ، شَريفُ المَقصَدِ، يَنبُعُ مِن حُزْنِ الشَّاعِرِ على إنْسانٍ قطَعَ المَوْتُ صِلَتَه بالأحْياءِ.
قالَ الباهِليُّ: قيلَ لأعْرابيٍّ: ما بالُ المَراثي أجْوَدَ أشْعارِكم؟ قالَ: لأنَّا نقولُ وأكْبادُنا تَحْتَرقُ
[182] ينظر: ((البيان والتبين)) للجاحظ (2/218). .
وقدْ عَرَفَ العَصْرُ الجاهِليُّ ألْوانًا مِنَ الرِّثاءِ، وكانَ للنِّساءِ يَدٌ عُلْيا في ذلِك النَّوْعِ مِن الأدَبِ؛ إذِ النِّساءُ بطَبْعِهنَّ (أشْجى النَّاسِ قُلوبًا عنْدَ المُصيبةِ، وأشَدُّهم جَزَعًا على هالِكٍ، لِما ركَّبَ اللهُ عزَّ وجَلَّ في طَبْعِهنَّ مِن الخَوَرِ وضَعْفِ العَزيمةِ)
[183] يُنظر: ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (2/ 153). .
فممَّن اشْتَهرَ أمْرُها في الرِّثاءِ: دَخْنَتوسُ بِنْتُ لَقيطِ بنِ زُرارةَ في أبيها، ورِثاءُ عَزَّةَ بْنْتِ مُكَدَّمٍ في أخيها رَبيعةَ، والخَنْساءُ في رِثاءِ أخيها صَخْرٍ الَّذي ظلَّتْ تَبكيه طَويلًا، ومِن ذلِك قولُها
[184] ((ديوان الخنساء)) (ص: 46). :
قَذًى بعَيْنِكِ أمْ بالعَيْنِ عُوَّارُ
أمْ ذَرَفَتْ إذْ خَلَتْ مِن أَهْلِها الدَّارُ
كأنَّ عَيْني لذِكراهُ إذا خَطَرَتْ
فَيْضٌ يَسيلُ على الخَدَّينِ مِدْرارُ
تَبكي لصَخْرٍ هي العَبْرى وقدْ وَلِهتْ
ودونَهُ مِن جَديدِ التُّربِ أسْتارُ
تَبكي خُناسٌ فما تَنفَكُّ ما عمَرَتْ
لها عليهِ رَنينٌ وهْيَ مِفْتارُ
تَبكي خُناسٌ على صَخْرٍ وحُقَّ لها
إذْ رابَها الدَّهْرُ إنَّ الدَّهْرَ ضَرَّارُ
لا بُدَّ مِنْ مِيتةٍ في صَرْفِها عِبَرٌ
والدَّهْرُ في صَرْفِهِ حَوْلٌ وأطْوارُ
قدْ كانَ فيكمْ أبو عَمْرٍو يَسودُكمُ
نِعْمَ المُعَمَّمُ للدَّاعينَ نَصَّارُ
صُلْبُ النَّحيزةِ وَهَّابٌ إذا مَنَعوا
وفي الحُروبِ جَريءُ الصَّدْرِ مِهْصارُ
يا صَخْرُ وَرَّادَ ماءٍ قد تَناذَرَهُ
أهْلُ المَوارِدِ ما في وِرْدِهِ عارُ
مشى السَّبَنْتى إلى هَيْجاءَ مُعْضِلةٍ
لهُ سِلاحانِ أنْيابٌ وأظْفارُ
وما عَجولٌ على بَوٍّ تُطيفُ بِهِ
لها حَنينانِ إعْلانٌ وإسْرارُ
تَرْتَعُ ما رَتَعَتْ حتَّى إذا ادَّكَرَتْ
فإنَّما هي إقْبالٌ وإدْبارُ
لا تَسمَنُ الدَّهْرَ في أرضٍ وإنْ رَتَعَتْ
فإنَّما هي تَحْنانٌ وَتَسْجارُ
يَوْمًا بأوْجَدَ منِّي يَوْمَ فارَقني
صَخْرٌ وللدَّهْرِ إحْلاءٌ وَإمْرارُ
وإنَّ صَخْرًا لَوالينا وسَيِّدُنا
وإنَّ صَخْرًا إذا نَشْتو لَنَحَّارُ
وإنَّ صَخْرًا لمِقْدامٌ إذا رَكِبوا
وإنَّ صَخْرًا إذا جاعوا لَعَقَّارُ
وإنَّ صَخْرًا لَتَأتَمُّ الهُداةُ بِهِ
كَأنَّهُ عَلَمٌ في رأسِهِ نارُ
في حينِ اخْتَلفَ رِثاءُ الرِّجالِ عن النِّساءِ؛ فإنَّ الرِّجالَ قد جَمَّدَتْ صَلابةُ الحَياةِ أعْيُنَهم، فلا يَبكونَ على مَيِّتٍ، وإنَّما يَمْدَحونَه، كما أنَّهم لا يُبالِغونَ مُبالَغةَ النِّساءِ، فلا يُنزِلونَ المَيِّتَ فوقَ مَنزِلتِه، فإن كانَ مِن الصَّعاليكِ لم يَمدَحْه مَدْحَ المُلوك؛، ولِهذا لمَّا ماتَ الشَّنْفَرى رَثاه تَأبَّطَ شَرًّا بقولِه
[185] يُنظر: ((الأدب الجاهلي قضاياه أغراضه أعلامه فنونه)) لزكي طليمات وعرفات الأشقر (ص: 199). :
فإنْ تَكُ نفْسُ الشَّنْفَرى حُمَّ يَوْمُها
وراحَ له ما كانَ مِنهُ يُحاذِرُ
فما كانَ بِدْعًا أن يُصابَ فمِثُلُه
أُصيبَ وحُمَّ المُلتَجون الفوادِرُ
قَضى نَحْبَهُ مُستَكْثِرًا مِن جَميلِهِ
مُقِلًّا مِن الفَحْشاءِ والعِرْضُ وافِرُ
يُفرِّجُ عنه غُمَّةَ الرَّوْعِ عَزْمُه
وصَفْراءُ مِرنانٌ وأبْيَضُ باتِرُ
وأشْقَرُ غَيْداقُ الجِراءِ كأنَّه
عُقابٌ تَدلَّى بيْنَ نيقَينِ كاسِرُ
يَجُمُّ جُمومَ البَحْرِ طالَ عُبابُهُ
إذا فاضَ مِنه أوَّلٌ جاشَ آخِرُ
فيَكفي الَّذي يَكفي الكَريمُ بحَزْمِه
ويَصبِرُ إنَّ الحُرَّ مِثلَكَ صابِرُ
فلو نبَّأَتْني الطَّيرُ أو كنْتُ شاهِدًا
لآساكَ في البَلْوى أخٌ لك ناصِرُ
وخَفَّضَ جأشِي أنَّ كلَّ ابنِ حُرَّةٍ
إلى حيثُ صِرْتَ لا مَحالةَ صائِرُ
وإنَّ سَوامَ المَوْتِ تَجْري خِلالَنا
رَوائِحُ مِن أحْداثِه وبَواكِرُ
وكانَ رِثاءُ المُلوكِ مُخْتلِفًا تَمامًا عن رِثاءِ العامَّةِ والصَّعاليكِ، فدَوْمًا ما كانَ يَعْتبِرُ الشُّعَراءُ فَقْدَهم فَقْدَ أمَّةٍ، وأنَّ مُصابَ القَبيلةِ فيهم جَلَلٌ، ومِن ذلِك رِثاءُ النَّابِغةِ الذُّبْيانيِّ النُّعْمانَ بنَ الحارِثِ بنِ أبي شَمِرٍ الغَسَّانيَّ، حينَ قالَ:
فلا يَهْنِئِ الأعْداءَ مَصرَعُ مَلْكِهم
وما عَتَقَتْ مِنه تَميمٌ ووائِلُ
وكانَ لهم رِبعيَّةٌ يَحْذَرونَها
إذا خَضْخَضَتْ ماءَ السَّماءِ القَبائِلُ
يَسيرُ بها النُّعْمانُ تَغْلي قُدورُه
تَجيشُ بأسْبابِ المَنايا المَراجِلُ
يقولُ رِجالٌ يَجهَلونَ خَليقتي
لعلَّ زِيادًا لا أبا لكَ غافِلُ
أَبي غَفْلةٌ أنِّي إذا ما ذَكَرْتُه
تَحرَّكَ داءٌ في فُؤاديَ داخِلُ
وأنَّ تِلادي إن ذَكَرْتُ وشِكَّتي
ومُهْري وما ضَمَّتْ إليَّ الأنامِلُ
حِباؤُك والعيسُ العِتاقُ كأنَّها
هِجانُ المَها تُحْدى عليها الرَّحائِلُ
فإن كنْتَ قد ودَّعْتَ غيْرَ مُذمَّمٍ
أَواسيَ مُلْكٍ ثَبَّتَتْها الأوائِلُ
فلا تَبْعُدَنَّ إنَّ المَنيَّةَ مَنهَلٌ
وكلُّ امْرِئٍ يَومًا به الحالُ زائِلُ
فما كانَ بيْنَ الخَيْرِ لو جاءَ سالِمًا
أبو حَجَرٍ إلَّا لَيالٍ قَلائِلُ
فإن تَحْيَ لا أمَلَلْ حَياتي وإن تَمُتْ
فما في حَياةٍ بعْدَ مَوْتِك طائِلُ
فآبَ مُصلُّوه بعَيْنٍ جَليَّةٍ
وغُودِرَ بالجَوْلانِ حَزْمٌ ونائِلُ
سقى الغَيْثُ قَبْرًا بيْنَ بُصْرى وجاسِمٍ
بغَيْثٍ مِن الوَسْميِّ قَطْرٌ ووابِلُ
ولا زالَ رَيْحانٌ ومِسْكٌ وعَنْبَرٌ
على مُنْتَهاهُ دِيمةٌ ثَمَّ هاطِلُ
ويُنبِتُ حَوذانًا وعَوْفًا مُنوِّرًا
سأتْبَعُه مِن خيْرٍ ما قالَ قائِلُ
بكى حارِثُ الجَوْلانِ مِن فَقْدِ ربِّه
وحَوْرانُ مِنه مُوحِشٌ مُتَضائِلُ
قُعودًا له غَسَّانُ يَرْجونَ أَوْبَه
وتُرْكٌ ورَهْطُ الأعْجَمينَ ووائِلُ
[186] ((ديوان النابغة الذبياني)) (ص: 118). كما عَرَفَ العَرَبُ كذلِك رِثاءَ أنْفُسِهم؛ فإنَّ الشَّاعِرَ إذا رأى قُرْبَ أجَلِه أو أَحَسَّ بِذلِك، أنْشَدَ يُعَزِّي نفْسَه، كما فعَلَ المُمَزَّقُ العَبْديُّ حينَ قالَ
[187] يُنظر: ((المفضليات)) للمفضل الضبي (ص: 300)، ((شرح المفضليات)) لأحمد شاكر وعبد السلام هارون (ص: 218). :
هلْ لِلفَتى مِن بَناتِ الدَّهْرِ مِن واقِ
أمْ هلْ لهُ مِن حِمامِ المَوْتِ مِن راقِ
قد رَجَّلُونِي وما رُجِّلْتُ مِن شَعَثٍ
وأَلْبَسونِي ثِيَابًا غيْرَ أَخْلاقِ
ورَفَعونِي وقالوا أيُّما رَجُلٍ
وأدْرَجُوني كأنِّي طَيُّ مِخْراقِ
وأَرسَلوا فِتيةً مِن خَيْرِهمْ حَسَبًا
لِيُسْنِدوا في ضَريحِ التُّرْبِ أطْباقي
هَوِّنْ عليكَ ولا تُولَعْ بإِشْفَاقِ
فإِنَّما مالُنا لِلوارِثِ الباقي
كأنَّني قد رَماني الدَّهْرُ عن عُرُضٍ
بِنافِذاتٍ بِلا رِيشٍ وأَفْواقِ
وقد ظهَرَ مِن الرِّثاءِ أيضًا الرِّثاءُ الجَماعيُّ، وهو أن يَرثيَ الشَّاعِرُ عِدَّةَ أبْطالٍ في قَبيلتِه، إذا فقَدَتْهم القَبيلةُ في الحَرْبِ أو نَحْوِ ذلِك، فمِثْلُ ذلِك قولُ أُمَيمةَ بِنْتِ عبْدِ شَمْسٍ تَرثي مَن ماتَ مِن قَوْمِها يوْمَ الحُرَيرةِ
[188] يُنظر: ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصفهاني (22/ 320). :
أبى لَيلُكَ لا يَذهَبْ
ونِيطَ الطَّرْفُ بالكَوْكَبْ
ونَجْمٌ دوْنَه الأهْوا
لُ بيْنَ الدَّلْوِ والعَقْرَبْ
وهذا الصُّبْحُ لا يَأتي
ولا يَدْنو ولا يَقْرُبْ
بعُقْرِ عَشيرةٍ مِنَّا
كِرامِ الخِيمِ والمَنصِبْ
أحالَ عليهمُ دَهْرٌ
حَديدُ النَّابِ والمِخلَبْ
فحَلَّ بِهم وقد أمِنوا
ولم يَقصُرْ ولم يَشطُبْ
وما عنه إذا ما حَلَّ
مِن مَنْجًى ولا مَهرَبْ
ألَا يا عَيْنُ فابْكيهمْ
بدَمْعٍ مِنك مُستَغْرَبْ
فإنْ أبْكي فهُمْ عِزِّي
وهُمْ رُكني وهُمْ مَنكَبْ
وهُمْ أصْلي وهُمْ فَرْعي
وهُمْ نَسَبي إذا أُنسَبْ
وهُمْ مَجْدي وهُمْ شَرَفي
وهُمْ حِصني إذا أَرهَبْ
وهُمْ رُمْحي وهُمْ تُرْسي
وهُمْ سَيْفي إذا أغْضَبْ
خَصائِصُ الرِّثاءِ:يَتَميَّزُ الرِّثاءُ الجاهِليُّ ببعضِ الخَصائِصِ؛ مِنها:
- امْتِزاجُه بالأغْراضِ الأخرى؛ كالحَماسةِ والفَخْرِ، والحَرْبِ في بعضِ الأحْيانِ، وإفْرادُه بقَصائِدَ ومَقْطوعاتٍ في أحْيانٍ أُخرى.
- الشَّاعِرُ الرَّاثي يَتَجنَّبُ الكَلامَ الغَريبَ والوَحْشيَّ؛ فإنَّه ليس في مَعرِضِ التَّباهي والإغْرابِ، وإنَّما تَحمِلُه الفِطْرةُ على البُكاءِ والحُزْنِ.
- يَظهَرُ في أشْعارِ الرِّثاءِ تَعلُّقُ الجاهِليِّينَ بالحَياةِ، وخَوْفُهم مِن المَوْتِ، ويُقوِّي ذلِك عَدَمُ إيْمانِهم بالبَعْثِ والجَزاءِ.
- غِيابُ المُقدِّماتِ الطَّلَليَّةِ والغَزَليَّةِ في هذا الغَرَضِ؛ إذ للمَوْتِ هَيبةٌ، وللحُزْنِ أحْكامٌ تَتَنافى معَ الوُقوفِ على الأطْلالِ والتَّغزُّلِ بالمَحْبوبِ.
- إشْراكُ الطَّبيعةِ في الحُزْنِ، فلا بُدَّ أن تَرى في أشْعارِ الرِّثاءِ الجاهِليِّ حُزْنَ الشَّمْسِ وانْكِسافَها لمَوْتِ الفَقيدِ، وذُبولَ النَّباتِ، وجَفافَ الأرْضِ، وقد كانَ لِهذا أثَرٌ في صَدْرِ الإسْلامِ؛ حينَ ماتَ إبْراهيمُ ابنُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وانْكَسفَتِ الشَّمْسُ حينَئذٍ، فقالَ النَّاسُ: انْكَسفَتِ الشَّمْسُ لمَوْتِ إبْراهيمَ، فقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
((إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ لا يَنكَسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَياتِه، فإِذا رَأيْتُم فَصَلُّوا، وادْعوا الله )) [189] أخرجه البخاري (1043)، ومسلم (915)، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. .
- الواقِعيَّةُ والزُّهْدُ في الرِّثاءِ، والبُعْدُ عنِ المُبالَغةِ ومَدْحِ المَيِّتِ بما ليس فيه
[190] يُنظر: ((الأدب الجاهلي قضاياه أغراضه أعلامه فنونه)) لزكي طليمات وعرفات الأشقر (ص: 204). .