المَطلَبُ السَّابِعُ: الهِجاءُ
الهِجاءُ عَكْسُ المَدْحِ والفَخْرِ، وهو أن يَتَناوَلَ الشَّاعِرُ غيْرَه بالسَّبِّ والذَّمِّ، والتَّشْهيرِ بالعُيوبِ الجَسَديَّةِ والمَعْنويَّةِ.
وهو مِن أسْلحةِ العَربِ في حُروبِهم ومُنافراتِهم؛ حيثُ يَذكُرُ الشَّاعِرُ قَبيحَ صِفاتِ المَهْجوِّ ورَديءَ أفْعالِه، وعُيوبَ قَوْمِه وسوءَ نَسَبِه، وما نزَلَ بقَبيلتِه مِن الهَزائِمِ في الحُروبِ، وما لحِقَها مِن المَساوِئِ والعُيوبِ، وكَثيرًا ما كانَ يَتَخلَّلُ هِجاءَهم وَعيدٌ وتَهْديدٌ، وقدْ كانَ الهِجاءُ يُوجَّهُ إلى الأعْداءِ في مَعرِضِ الفَخْرِ، أو في أثْناءِ المَدْحِ
[201] ينظر: ((في تاريخ الأدب الجاهلي)) لعلي الجندي (373). .
وكانَ العَربُ يَهْجو بعضُهم بعضًا بكلِّ مَذْمومٍ مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ والأخْلاقِ؛ كالهَزيمةِ في الحُروبِ، والجُبْنِ، والضَّعْفِ، والفِرارِ مِن المَيْدانِ، والقَتْلِ، والأسْرِ، والسَّبْيِ، ودَفْعِ الفِديةِ، والنَّفْيِ مِن المَوطِنِ، وخِسَّةِ الأصْلِ، ولؤْمِ الطَّبْعِ، والبُخْلِ، والشُّحِّ والحِرْصِ، والاعْتِداءِ على الجارِ واللَّاجِئِ، والهَرَبِ مِن الضِّيفانِ، والحُمْقِ، والغَدْرِ، وإنْكارِ الجَميلِ، وكُفْرانِ المَعْروفِ، وأخْذِ الدِّيَةِ، والجُوعِ، وسوءِ الغِذاءِ، ونَحْوِ ذلِك.
ولا يكونُ الشَّاعِرُ هَجَّاءً إلَّا إذا كانَ مُؤرِّخًا عالِمًا بالأنْسابِ؛ لِئلَّا يَصِلَ في هِجائِه إلى هِجاءِ نفْسِه وقَبيلتِه، إذا هَجا ما يَلتَقي فيه الفَرْعانِ؛ ولِهذا قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لحَسَّانَ حينَ أرسَلَ إليه ليَهْجوَ المُشْرِكينَ:
((لا تَعجَلْ؛ فإنَّ أبا بَكْرٍ أَعلَمُ قُرَيشٍ بأنْسابِها، وإنَّ لي فيهم نَسَبًا، حتَّى يُلَخِّصَ لكَ نَسَبي ))، فأَتاه حَسَّانُ، ثُمَّ رجَعَ فقالَ: يا رَسولَ اللهِ قدْ لَخَّصَ لي نَسَبَك، والَّذي بَعَثَك بالحَقِّ لأَسُلَّنَّك مِنهم كما تُسَلُّ الشَّعرةُ مِنَ العَجينِ
[202] أخرجه مسلم (2490)، عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. [203] ينظر: ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/60). .
والهِجاءُ نَوْعانِ:الأوَّلُ: الهِجاءُ الشَّخْصيُّوفيه يَهْجو الشَّاعِرُ شَخْصًا بعَيْنِه ليَحُطَّ مِن قَدْرِه دونَ التَّعرُّضِ لقَبيلتِه، ولا المِساسِ بأهْلِه، ومِن ذلِك هِجاءُ طَرَفةَ بنِ العَبْدِ لعَمْرِو بنِ هِنْدٍ، وقدْ كانَ عَمْرٌو مَلِكًا على الحِيرةِ، قَدِمَ عليه طَرَفةُ وخالُه المُتَلَمِّسُ، فأمَرَهما بلُزومِ أخيه ووليِّ عَهدِه قابوسَ، وكانَ قابوسُ قد قسَمَ الدَّهْرَ يومَ صَيْدٍ ويومَ شَرابٍ؛ فإذا كانَ يومُ الصَّيْدِ خَرجا معَه فيَظلَّانِ يَجريانِ حتَّى العَشيِّ، ثُمَّ يُصْبِحانِ في يومِ الشَّرابِ فيَقفانِ ببابِه حتَّى يَأذَنَ لهما، فوَقَفا مَرَّةً إلى العَشيِّ ولم يَأذَنْ لهما، فأنْشَأَ طَرَفةُ في هِجائِه
[204] يُنظر: ((الفاخر)) للمفضل بن سلمة (ص: 74)، ((شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات)) لأبي بكر الأنباري (ص: 118). :
فليتَ لنا مَكانَ المَلْكِ عَمْرٍو
رَغوثًا حَوْلَ قُبَّتِنا تَخورُ
مِنَ الزَّمِراتِ أسْبَلَ قادِماها
وضَرَّتُها مُرَكَّنَةٌ دَرُورُ
يُشارِكُنا لنا رَخِلانِ فيها
وتَعْلوها الكِباشُ فما تَنُورُ
لَعَمْرُكَ إنَّ قابوسَ بنَ هِنْدٍ
لَيَخْلِطُ مُلكَهُ نَوكٌ كَثيرُ
قَسَمْتَ الدَّهْرَ في زَمَنٍ رَخِيٍّ
كذاك الحُكْمُ يَقصِدُ أوْ يَجورُ
لنا يَوْمٌ، ولِلكِرْوانِ يَوْمٌ
تَطيرُ البائِساتُ ولا نَطِيرُ
فأمَّا يَوْمُهُنَّ فيَوْمُ نَحْسٍ
تُطارِدُهُنَّ بالحَدَبِ الصُّقورُ
وأمَّا يَوْمُنا فنَظَلُّ رَكْبًا
وُقوفًا ما نَحُلُّ وما نَسيرُ
[205] ((ديوان طرفة بن العبد)) (ص: 38). والثَّاني: الهِجاءُ القَبَليُّوهو أن يَهْجوَ الشَّاعِرُ قَبيلةً بأسْرِها، فيَحُطَّ مِن شأنِها ويُبرِزَ مَثالِبَها، وأَكْثَرُ ما يكونُ ذلِك في أثْناءِ الحُروبِ والمُناوَشاتِ بيْنَ القَبائِلِ.
ومِن ذلِك قولُ الأعْشى يَهْجو عامِرَ بنَ الطُّفَيلِ وقَوْمَه حينَ هدَّدَه:
أتاني وَعيدُ الحُوصِ مِن آلِ جَعفَرٍ
فيا عبْدَ عَمْروٍ لو نَهيْتَ الأحاوِصا
فما ذَنْبُنا أنْ جاشَ بَحْرُ ابنِ عمِّكم
وبَحْرُكَ ساجٍ لا يُواري الدَّعامِصا
كِلا أبَوَيكم كانَ فَرْعَ دِعامةٍ
ولكنَّهم زادوا وأصْبَحْتَ ناقِصا
تَبيتونَ في المَشْتى مِلاءً بُطونُكم
وجاراتُكم غَرْثى يَبِتْنَ خَمائِصا
يُراقِبْنَ مِن جوعٍ خِلالَ مَخافةٍ
نُجومَ العِشاءِ القائِماتِ الشَّواخِصا
رَمى بكَ في أُخراهُمُ تَرْكُكَ النَّدى
وفَضَّلَ أقْوامًا عليك مَراهِصا
فعَضَّ حَديدَ الأرْضِ إِنْ كنْتَ ساخِطًا
بِفيكَ وأحْجارَ الكِلابِ الرَّواهِصا
[206] ((ديوان الأعشى)) (ص: 149). ولمَّا سمِعَ عَلْقَمةُ بنُ عُلاثةَ هذا البَيْتَ بَكى، وقدْ كانَ البُكاءُ عنْدَهم عَيْبًا أَكْثَرَ مِن الهِجاءِ نفْسِه، فلو ضُرِبَ أحَدُهم بالسَّيْفِ ما قالَ: حَسِّ
[207] يُنظر: ((ديوان المعاني)) لأبي هلال العسكري (1/ 173)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/ 274). .
وقدْ كانَ العَربُ يَخشَونَ الهِجاءَ أشَدَّ الخَشيةِ، خاصَّةً الأشْرافَ؛ فقدْ كانوا يَبكونَ بالدُّموعِ كما بَكى عَلْقَمةُ، وقدْ كانَ مِن خَوْفِهم مِن الهِجاءِ وأثَرِه في النُّفوسِ أنَّهم إذا هَجاهم شاعِرٌ بسَوأةٍ -ولو مُفْتراةً- فإنَّهم يَتوارَونَ خَجَلًا.
ولا أدَلَّ على ذلِك مِن أنَّ الحارِثَ بنَ وَرْقاءَ أغارَ على بَني غَطَفانَ، ونهَبَ إبِلًا لزُهَيْرٍ، واسْتَرقَّ راعيَه يَسارًا، فأرسَلَ إليه زُهَيْرٌ بأبْياتٍ مِنها
[208] ((ديوان زهير)) (ص: 44). :
يا حارِ لا أُرْمَيَنْ مِنكمْ بداهِيةٍ
لم يَلْقَها سُوقةٌ قَبْلي ولا مَلِكُ
ارْدُدْ يَسارًا ولا تَعنُفْ عليهِ ولا
تَمْعَكْ بعِرْضِكَ إنَّ الغادِرَ المَعِكُ
لئِنْ حَلَلْتَ بجَوٍّ في بَني أسَدٍ
في دِينِ عَمْرٍو وحالَتْ بيْنَنا فَدَكُ
لَيأتِيَنَّكَ مِنِّي مَنْطِقٌ قَذِعٌ
باقٍ، كما دنَّسَ القُبطيَّةَ الوَدَكُ
فخَشيَ الحارِثُ مِن هِجائِه وأطْلَقَ غُلامَه وإبِلَه
[209] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (1/ 197). .
ولِهذا فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَّا دخَلَ مَكَّةَ في عُمْرةِ القَضاءِ، كانَ عبدُ اللهِ بنُ رَواحةَ يُنشِدُ بيْنَ يَديه:
خَلُّوا بَني الكُفَّارِ عَنْ سَبيلِهِ
اليَوْمَ نَضرِبْكمْ على تَنْزيلِهِ
ضَرْبًا يُزيلُ الهامَ عنْ مَقيلِهِ
ويُذهِلُ الخَليلَ عَنْ خَليلِهِ
فقالَ له عُمَرُ: يا بنَ رَواحةَ بيْنَ يَدَيْ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفي حَرَمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ تقولُ الشِّعْرَ؟! قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
((خَلِّ عنْه، فلَهُوَ أَسرَعُ فيهم مِن نَضْحِ النَّبْلِ! )) [210] أخرجه الترمذي (2847)، والنسائي (2873) عن أنس رضي الله عنه .
خَصائِصُ الهِجاءِ:يَتَميَّزُ الهِجاءُ الجاهِليُّ ببعضِ المُميِّزاتِ والسِّماتِ العامَّةِ، ومِنها:
- ضَآلةُ ذلِك النَّوْعِ مِن الأدَبِ: فالقَصائِدُ الَّتي أُنْشِئَتْ في الهِجاءِ قَليلةٌ، والمَقْطوعاتُ المَوْجودةُ قَليلةُ العَدَدِ قَصيرةٌ، ورُبَّما كانَ هذا السَّبَبَ في حِفْظِها وبَقائِها، وإنَّما كانَ الهِجاءُ باقيًا؛ لأنَّه وَسيلةٌ للدِّفاعِ عن القَبيلةِ والنَّفْسِ، لا غايةٌ يَرْمي إليها الشُّعَراءُ.
- مُجانَبةُ الفُحْشِ في الهِجاءِ: وهذه سِمةٌ غالِبةٌ على أَكْثَرِ الشِّعْرِ؛ فإنَّ العَربَ كانوا يُحِبُّونَ الصِّدْقَ ويُبْغِضونَ الكَذِبَ والإقْذاعَ؛ ولِذا لا تَجِدُ في أَكْثَرِ الشِّعْرِ ذِكْرَ عَورةٍ أو التَّنْديدَ، أو اتِّهامًا في الأنْسابِ، إلَّا ما ندَرَ وشَذَّ مِنه.
- الواقِعيَّةُ والصِّدْقُ: فما كانَ الشَّاعِرُ يَهْجو رَجُلًا بما ليس فيه، بلْ كانوا يُعَيِّرونَه بما فيه مِن العُيوبِ، ولولا ذلك لاحْتَدمَتْ مَعاركُ بيْنَ الشُّعَراءِ لا تَنْتهي، ولحَرَصَ كلُّ واحِدٍ على أن يُخرِسَ خَصْمَه بما ليس فيه مِن المَثالِبِ والعُيوبِ
[211] يُنظر: ((الأدب الجاهلي؛ قضاياه أغراضه أعلامه فنونه)) لزكي طليمات وعرفات الأشقر (ص: 191). .