المَبحَثُ الثَّاني: مَوقِفُ الإسْلامِ مِن الشِّعْرِ
ذَمَّ بعضُ النَّاسِ الشِّعْرَ كلَّه وذَمُّوا أهْلَه، ورَمَوهم بما هُمْ مِنه بَراءٌ، وتَمَسَّكوا ببعضِ الأدِلَّةِ الَّتي حَملوها على غيْرِ وَجْهِها، فقالوا: إنَّ اللهَ تَعالى قد ذَمَّ الشُّعَراءَ وذَمَّ مَن يَتَّبِعُهم مِن النَّاسِ فقالَ تعالى:
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * ألَمْ تَرَ أنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [الشُّعَراء: 224 - 226] .
ونزَّهَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أن يقولَ شِعْرًا، فقالَ:
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس: 69] ، فدَلَّ ذلك على تَنَقُّصِ الشِّعْرِ وقائِلِه.
واسْتَدلُّوا أيضًا بقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
((لأنْ يَمْتلِئَ جَوْفُ أحَدِكم قَيْحًا حتَّى يَرِيَه خيْرٌ له مِن أن يَمْتلِئَ شِعْرًا )) [328] أخرجه البخاري (6154) عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ومسلم (2258)، عن سعد بن أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وهذا دَليلٌ واضِحٌ على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد ذَمَّ الشِّعْرَ، وذَمَّ مَن يَحفَظُه ويَشغَلُ به وَقْتَه.
والأمْرُ بخِلافِ ذلك؛ فإنَّ الإسلامَ ما حرَّمَ الشِّعْرَ ولا عابَه، بلْ كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَسْتنشِدُ الشِّعْرَ، وكانَ أصْحابُه رُواةً للشِّعْرِ، وكانَتْ
عائَشةُ رَضيَ اللهَ عنها راوِيةً لشِعْرِ لَبيدٍ، وما برِحَ الصَّحابةُ والتَّابِعونَ يَسْتدِلُّونَ على تَفْسيرِ القُرآنِ بدَواوينِ الشِّعْرِ.
أمَّا اسْتِدلالُهم بالقُرآنِ والحَديثِ فإنَّه قاصِرٌ؛ فإنَّ اللهَ تَعالى لم يَعِبِ الشُّعَراءَ مُطلَقًا، وإنَّما عابَ على المُشْرِكينَ، بدَليلِ ما بعْدَ ذلك مِن الآياتِ؛ قالَ تَعالى:
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * ألَمْ تَرَ أنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشُّعَراء: 224 - 227] .
وقد كانَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شُعَراءُ يُدافِعونَ عنه ويَهْجونَ المُشْرِكين، ولمَّا دخَلَ مَكَّةَ في عُمْرةِ القَضاءِ، كانَ عبْدُ اللهِ بنُ رَواحةَ يُنشِدُ بيْنَ يَدَيه:
خَلُّوا بَني الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
اليَوْمَ نَضْرِبْكم على تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الهامَ عن مَقيلِهِ
وَيُذهِلُ الخَليلَ عن خَليلِهِ
فقالَ له عُمَرُ: يا بنَ رَواحةَ، بيْنَ يَدَيْ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفي حَرَمِ اللهِ عزَّ وجَلَّ تقولُ الشِّعْرَ؟! قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
((خَلِّ عنه، فلَهو أسرَعُ فيهم مِن نَضْحِ النَّبْلِ )) [329] أخرجه الترمذي (2847)، والنسائي (2873) عن أنس رضي الله عنه .
وكانَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ لحسَّانَ بنِ ثابِتٍ:
((اهْجُهم -أو هاجِهم- وجِبْريلُ معَك )) [330] أخرجه البخاري (3213) ومسلم (2486)، عن البراء بن عازبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وأمَّا الاسْتِدلالُ بأنَّ اللهَ نزَّهَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنِ الشِّعْرِ، وأنَّ ذلك دَليلٌ على قُبْحِ الشِّعْرِ وكَراهتِه وانْحِطاطِ مَنزِلتِه؛ فغيْرُ صَحيحٍ؛ إذِ الآيةُ في مَعرِضِ الانْتِصارِ للقُرآنِ والدِّفاعِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ممَّا اتَّهمَه به المُشْرِكونَ، حينَ قالوا: هو شاعِرٌ، فذَكَّرَهم اللهُ أنَّه لم يكنْ لِيقولَ الشِّعْرَ يَوْمًا، وما أقامَ قافِيةً يَوْمًا ما، فَضْلًا عن أنَّه أمِيٌّ لا يَقرَأُ ولا يَكتُبُ، فأنَّى لمِثلِه أن يُؤلِّفَ مِثلَ هذا القُرآنِ؟!
وأمَّا اسْتِدلالُهم بقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
((لأنْ يَمْتلِئَ جَوْفُ أحَدِكم قَيْحًا حتَّى يَرِيَه خيْرٌ له مِن أن يَمْتلِئَ شِعْرًا ))، فإنَّما هو فيمَن غلَبَ الشِّعْرُ على قَلْبِه، ومَلَكَ نفْسَه حتَّى شَغَلَه عن دينِه وإقامةِ فُروضِه، ومَنَعَه مِن ذِكْرِ اللهِ تَعالى وتِلاوةِ القُرآنِ، وأمَّا غيْرُ ذلك ممَّن يَتَّخِذُ الشِّعْرَ أدَبًا وفُكاهةً وإقامةَ مُروءةٍ، فلا جُناحَ عليه
[331] ينظر: ((العمدة)) لابن رشيق (1/31)، ((كنز الكتاب ومنتخب الأدب)) لأبي إسحاق البونسي (1/ 143). .