المَطْلَبُ الثَّاني: الفَرَزْدَقُ
هو
أبو فِراسٍ،
هَمَّامُ بنُ غالِبِ بنِ صَعْصَعةَ بنِ ناجِيةَ بنِ عِقالِ بنِ مُحمَّدِ بنِ سُفْيانَ بنِ مُجاشِعِ بنِ دارِمٍ، وكانَ جَدُّه صَعْصَعةُ بنُ ناجِيةَ عَظيمَ القَدْرِ في الجاهِليَّةِ، افْتَدى (104) بَناتٍ أرادَ آباؤُهن وَأْدَهنَّ، وفيه يقولُ الفَرَزْدَقُ:
ومِنَّا الَّذي مَنَعَ الوائِداتِ
وأحْيا الوَئيدَ فلم يُوأَدِ
[472] ((ديوان الفَرَزْدَق)) (ص: 155). ثُمَّ لمَّا ظَهَرَ الإسلامُ أتى صَعْصَعةُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأسْلَمَ
[473] يُنظر: ((الاستيعاب في معرفة الأصحاب)) لابن عبد البر (2/ 718)، ((الأعلام)) للزركلي (3/ 205). .
والفَرَزْدَقُ: الرَّغيفُ الَّذي يَتَّخِذُ مِنه النِّساءُ الفُتوتَ، لُقِّبَ به لأنَّ وَجْهَه كانَ غَليظًا جَهْمًا يُشبِهُ الفَرَزْدَقةَ.
كانَ الفَرَزْدَقُ مُعظِّمًا قَبْرَ أبيه، فما أتاه أحَدٌ يَسْتَجيرُ بقَبْرِ أبيه إلَّا أنْفَذَ مَطْلَبَه وقَضى له ما يُريدُ، فلمَّا اسْتَعرَتِ الخُصومةُ بَيْنَه وبَيْنَ بَني جَعْفَرِ بنِ كِلابٍ، وعَزَمَ على هِجائِهم، قامَتِ امْرأةٌ مِن رُؤَسائِهم وضَرَبَتْ فُسْطاطًا على قَبْرِ أبيه، ومَكَثَتْ عليه أيَّامًا ثُمَّ أتَتْ مِنه بشيءٍ مِن تُرابٍ، ووَضَعَتْه أمامَ
الفَرَزْدَقِ وقالت: سألتُك بصاحِبِ هذه التُّرْبةِ إلَّا أعْفَيْتَني مِن ذِكْرِك في هِجائِك، فقالَ: ورَبِّ الكَعْبةِ لا ذَكَرْتُكِ بسوءٍ أبدًا، فهَجا بَني جَعْفَرٍ جَميعًا، فلمَّا صارَ إليها قالَ:
عَجوزٌ تُصلِّي الخَمْسَ عاذَتْ بغالِبٍ
فلا والَّذي عاذَتْ به لا أَضيرُها
لئنْ نافِعٌ لم يَرْعَ أرْحامَ أمِّه
وكانَت كدَلْوٍ لا يَزالُ يُعيرُها
لبِئْسَ دَمُ المَوْلودِ مسَّ ثِيابَها
عَشيَّةَ نادى بالغُلامِ بَشيرُها
وإنِّي على إشْفاقِها مِن مَخافَتي
وإن عَقَّها بي نافِعٌ لمُجيرُها
[474] ((ديوان الفَرَزْدَق)) (ص: 318). كانَ الفَرَزْدَقُ عَظيمَ الأثَرِ في اللُّغةِ، كانَ يقالُ: لولا شِعْرُ
الفَرَزْدَقِ لذَهَبَ ثُلُثُ لُغةِ العَربِ، ولولا شِعْرُه لذَهَبَ نِصْفُ أخْبارِ النَّاسِ.
وكانَ يُشَبَّهُ بزُهَيْرِ بنِ أبي سُلْمى، وكِلاهما مِن شُعَراءِ الطَّبَقةِ الأُولى؛ زُهَيْرٌ في الجاهِليِّينَ، والفَرَزْدَقُ في الإسلاميِّينَ.
اشْتَهرَ بنَقائِضِه معَ
جَريرٍ والأخْطَلِ، وكانَ مُقذِعَ الهِجاءِ، حادَّ اللِّسانِ، أفَخْرَ أهْلِ زَمانِه
[475] يُنظر: ((الشِّعْر والشُّعَراء)) لابن قتيبة (1/ 462)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (74/ 48). .
لمَّا ماتَتْ النَّوَّارُ مُطلَّقتُه سارَ في جَنازتِها يَبْكي، فقالَ له
الحَسَنُ البَصْريُّ: ما أعْدَدْتَ لِهذا اليَوْمِ يا أبا فِراسٍ؟ قالَ: شهادةَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ مُنْذُ ثَمانينَ سَنَةً، ثُمَّ أنْشَأَ يقولُ:
أخافُ وَراءَ القَبْرِ إن لم يُعافِني
أشَدَّ مِن القَبْرِ الْتِهابًا وأضْيَقا
إذا جاءَني يَوْمَ القِيامةِ قائِدٌ
عَنيفٌ وسَوَّاقٌ يَسوقُ
الفَرَزْدَقالقد خابَ مِن أوْلادِ آدَمَ مَن مَشى
إلى النَّارِ مَشْدُودَ القِلادةِ أزْرَقا
يُساقُ إلى نارِ الجَحيمِ مُسَرْبَلًا
سَرابِيلَ قَطْرانٍ لِباسًا مُخرَّقَا
إذا شَرِبوا فيها الحَميمَ رَأيْتَهم
يَذوبونَ مِن حَرِّ الصَّديدِ تَمَزُّقا
[476] ((ديوان الفَرَزْدَق)) (ص: 399). وقد حَبَسَ الفَرَزْدَقُ نفْسَه مَرَّةً، ونَذَرَ أن يَحفَظَ القُرآنَ، وألَّا يَهْجوَ أحَدًا أبدًا، فبيْنَما هو كذلك إذ جاءَتْه نِساءُ بَني مُجاشِعٍ مِن قَوْمِه، وقُلْنَ له: قبَّحَ اللهُ قَيدَك، فقدْ هَتَكَ
جَريرٌ عَوْراتِ نِسائِك، فلُحِيتَ شاعِرَ قَوْمٍ! فأثارَ ذلك حَفيظتَه، وأنْشَأَ يقولُ:
ألَا اسْتَهْزأَتْ مِنِّي سُوَيدةُ أن رَأَتْ
أسيرًا يُداني خَطْوَه حَلَقُ الحِجْلِ
ولو عَلِمَتْ أنَّ الوَثاقَ أشَدُّه
مِن النَّارِ قالَت لي مَقالةَ ذي عَقْلِ
لَعَمْري لئِنْ قَيَّدْتُ نفْسي لَطالما
سَعَيْتُ وأوْضَعْتُ المَطيَّةَ في جَهْلِ
ثَلاثينَ عامًا ما أرى مِن عَمايةٍ
إذا بَرَقَتْ إلَّا شَدَدْتُ لها رَحْلي
أتَتْني أحاديثُ البُعَيثِ ودونَه
زَرودُ فشاماتُ الشَّقيقِ إلى الرَّمْلِ
فقلتُ أظَنَّ ابنُ الخَبيثةِ أنَّني
شُغِلْتُ عنِ الرَّامي الكِنانةَ بالنَّبْلِ
فإن يَكْ قَيْدي كان نَذْرًا نَذَرْتُه
فما بيَ عن أحْسابِ قَوْميَ مِن شُغلِ
أنا الضَّامِنُ الرَّاعي عليهم وإنَّما
يُدافِعُ عن أحْسابِهم أنا أو مِثلي
ولو ضاعَ ما قالوا ارْعَ مِنَّا وَجَدْتَهم
شِحاحًا على الغالي من الحَسَبِ الجَزْلِ
إذا ما رَضُوا مِنِّي إذا كنْتُ ضامِنًا
بأحْسابِ قَوْمي في الجِبالِ وفي السَّهلِ
فمَهْما أعِشْ لا يَضْمَنوني ولا أضَعْ
لهم حَسَبًا ما حَرَّكَتْ قَدَمي نَعْلي
[477] ((ديوان الفَرَزْدَق)) (ص: 487). تُوفِّيَ الفَرَزْدَقُ في باديةِ البَصْرةِ، وقد قارَبَ المِئةَ، فلمَّا بَلَغَ
جَريرًا مَوْتُه قالَ:
هَلَكَ الفَرَزْدَقُ بعْدَما جَدَّعْتُه
ليت
الفَرَزْدَقَ كانَ عاشَ قَليلا
[478] ((ديوان جَرير بشرح مُحمَّد بن حَبيب)) (2/1023). ثُمَّ أطْرَقَ طَويلًا وبَكى، فقيلَ له: يا أبا حَزْرةَ ما أبْكاك؟ قالَ: بَكيْتُ لنفْسي، إنَّه واللهِ قلَّما كانَ اثْنانِ مِثلَنا أو مُصْطَحِبانِ أو زَوْجانِ إلَّا كانَ أمَدُ ما بيْنَهما قَريبًا، ثُمَّ أنْشَأَ يقولُ راثِيًا له:
فُجِعْنا بحَمَّالِ الدِّيَاتِ ابنِ غالِبٍ
وحامي تَميمٍ عِرْضِها والبَراجِمِ
بَكَيناكَ حِدثانَ الفِراقِ وإنَّما
بَكَيْناكَ إذ نابَتْ أمورُ العَظائِمِ
فلا حَمَلَتْ بعْدَ ابنِ لَيلى مُهَيْرةٌ
ولا شُدَّ أنْساعُ المَطِيِّ الرَّواسِمِ
[479] ((ديوان جَرير بشرح مُحمَّد بن حَبيب)) (2/976).