ازْدَهَرَ شِعْرُ المَدْحِ ازْدِهارًا عَظيمًا في زَمانِ العبَّاسيِّينَ، وكانَ سَبَبُ ذلك أنْ أجْزَلَ الخُلَفاءُ والأُمَراءُ العَطايا للشُّعَراءِ، فانْهالَ الشُّعَراءُ في مَديحِهم وبَيانِ فَضائِلِهم ليَتَقرَّبوا إليهم زُلْفى ويَنالوا هِباتِهم وعَطاياهم، مِن غيْرِ أن يُبالوا بصِدْقِ ذلك المَديحِ أو كَذِبِه؛ فكانَ المَدْحُ مَرْمى أسْهُمِ الشُّعَراءِ وغَرَضَهم الأوَّلَ، بلْ إنَّ بعضَ الشُّعَراءِ وَقَفَ شِعْرَه على المَديحِ يَسْتَجدي به مِن الخُلَفاءِ والأُمَراءِ، ومِنهم مَن طافَ الأرْضَ يَمدَحُ في كلِّ بُقْعةٍ أميرَها، كما فَعَلَ أبو الطَّيِّبِ المُتَنبِّي.
وقد سارَ شِعْرُ المَدْحِ على نفْسِ طَريقةِ الأقْدَمينَ في الإطْراءِ والمُبالَغةِ، معَ تَجْديدٍ يَسيرٍ في مَعانيهم وألْفاظِهم، فقدْ كانَ الشَّاعِرُ الجاهِليُّ والإسلاميُّ يَرسُمُ في مَمْدوحِه المِثاليَّةَ الخُلُقيَّةَ الرَّفيعةَ الَّتي تُقدِّرُها الجَماعةُ، وقد مَضى الشُّعَراءُ العبَّاسيُّونَ في مَديحِ الخُلَفاءِ والوُلاةِ على هذا الرَّسْمِ مِن مَدْحِ أُصولِ المَمْدوحِ مِن آبائِه وأجْدادِه، وأنَّه شَريفُ النَّسَبِ، رَفيعُ المَقامِ، كَريمٌ جَوادٌ مِفْضالٌ، حَليمٌ على رَعيَّتِه، شَديدُ الوَطْأةِ على أعْدائِه، مُوَطَّدُ الأرْكانِ، مُسَدَّدٌ في حُكْمِه، مُضيفينَ إلى هذه المِثاليَّةِ ما يَنْبغي أن يقومَ عليه مِن الأخْذِ بدُسْتورِ الشَّريعةِ والعَدالةِ، فَضْلًا عن تَقْواهم ووَرَعِهم ونُصْرتِهم لدينِ اللهِ تعالى، إضافةً إلى وَصْلِ نَسَبِهم بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ومِن ذلك قَوْلُ مَرْوانَ بنِ أبي حَفْصةَ في مَدْحِ الخَليفةِ المَهْديِّ:
‌أحْيا ‌أميرُ ‌المُؤْمِنينَ ‌مُحمَّدٌ
سُنَنَ النَّبيِّ حَرامَها وحَلالَها
مَلِكٌ تَفرَّعَ نَبْعُه مِن هاشِمٍ
مَدَّ الإلهُ على الأنامِ ظِلالَها
جَبَلٌ لأمَّتِه تَلوذُ برُكْنِه
رادى جِبالَ عَدوِّها فأزالَها
لم تَغْشَها ممَّا تَخافُ عَظيمةٌ
إلَّا أجالَ لها الأمورَ مَجالَها
حتَّى يُفرِّجَها أغَرُّ مُبارَكٌ
ألْفى أباه مُفرِّجًا أمْثالَها
ثَبْتٌ على زَلَلِ الحَوادِثِ راكِبٌ
مِن صَرْفِهنَّ لكلِّ حالٍ حالَها
كِلتا يَديكَ جَعَلْتَ فَضْلَ نَوالِها
للمُسلِمينَ وفي العَدُوِّ وَبالَها
وَقَعَتْ مَواقِعَها بعَفْوِك أنْفُسٌ
أذْهَبْتَ بعْدَ مَخافةٍ أوْجالَها
أمَّنْتَ غيْرَ مُعاقِبٍ طُرَّادَها
وفَكَكْتَ مِن أُسَرائِها أغْلالَها
ونَصَبْتَ نفْسَك خيْرَ نفْسٍ دونَها
وجَعَلْتَ مالَك واقِيًا أمْوالَها [547] ((ديوان مروان بن أبي حفصة)) (ص: 97).
وقولُ أبي الطَّيِّبِ المُتَنبِّي في مَدْحِ سَيْفِ الدَّوْلةِ الحَمْدانيِّ:
على قَدْرِ أهْلِ العَزْمِ تَأتي العَزائِمُ
وتَأتي على قَدْرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وتَعظُمُ في عَيْنِ الصَّغيرِ صِغارُها
وتَصغُرُ في عَيْنِ العَظيمِ العَظائِمُ
يُكلِّفُ سَيْفُ الدَّوْلةِ الجَيْشَ هَمَّه
وقد عجَزَتْ عنه الجُيوشُ الخَضارِمُ
ويَطلُبُ عنْدَ النَّاسِ ما عنْدَ نفْسِهِ
وذلك ما لا تَدَّعيه الضَّراغِمُ
يُفَدِّي أتَمُّ الطَّيْرِ عُمرًا سِلاحَه
نُسورُ المَلا أحْداثُها والقَشاعِمُ
وما ضَرَّها خَلْقٌ بغيْرِ مَخالِبٍ
وقد خُلِقَتْ أسْيافُه والقَوائِمُ
هل الحَدَثُ الحَمْراءُ تَعرِفُ لَوْنَها
وتَعلَمُ أيُّ السَّاقيَينِ الغَمائِمُ
سَقَتْها الغَمامُ الغُرُّ قبْلَ نُزولِهِ
فلمَّا دَنا مِنها سَقَتْها الجَماجِمُ
بَناها فأعْلى والقَنا يَقرَعُ القَنا
ومَوْجُ المَنايا حَوْلَها مُتلاطِمُ
وكانَ بها مِثلُ الجُنونِ فأصْبَحَتْ
ومِن جُثَثِ القَتْلى عليها تَمائِمُ
طَريدةُ دَهْرٍ ساقَها فرَدَدْتَها
على الدِّينِ بالخَطِّيِّ والدَّهْرُ راغِمُ [548] ((ديوان المتنبي)) (1/ 374).
وقولُ أبي دُلامةَ:
لو كانَ يَقعُدُ فوقَ الشَّمْسِ مِن كَرَمٍ
قَوْمٌ لقيلَ اقْعُدوا ‌يا ‌آلَ ‌عَبَّاسِ
ثُمَّ ارْتَقَوا في شُعاعِ الشَّمْسِ كلُّكمُ
إلى السَّماءِ فأنتم أكْرَمُ النَّاسِ [549] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/219).
ولم يكنِ الشَّاعِرُ يَأبَهُ أن يكونَ شِعْرُه كاذِبًا أو مُبالَغًا فيه فوقَ الحَدِّ المَعْقولِ؛ إذ كانَ غايةُ ما يَطلُبونَ أن تَنْهالَ عليهم أُعْطياتُ المَمْدوحينَ، الَّذين كانوا يُحِبُّونَ المَدْحَ والتَّعْظيمَ؛ ولِهذا تَرى الإفْراطَ في المَدْحِ في قَوْلِ البُحْتُريِّ يَمدَحُ المُتوَكِّلَ:
اللهُ مَكَّنَ للخَليفةِ جَعْفَرٍ
مُلْكًا يُحسِّنُهُ الخَليفةُ جَعْفَرُ
عَمَّتْ فَواضِلُك البَريَّةَ فالْتَقى
فيها المُقِلُّ على الغِنى والمُكثِرُ
بالبِرِّ صُمْتَ وأنتَ أفْضَلُ صائِمٍ
وبسُنَّةِ اللهِ الرَّضيَّةِ تُفطِرُ
فانْعَمْ بِيَوْمِ الفِطْرِ عَيْنًا إنَّهُ
يَوْمٌ أغَرُّ مِن الزَّمانِ مُشهَّرُ
أظْهَرْتَ عِزَّ المُلْكِ فيه بجَحْفَلٍ
لَجِبٍ يُحاطُ الدِّينُ فيه ويُنصَرُ
خِلْنا الجِبالَ تَسيرُ فيه وقدْ غَدَتْ
عَدَدًا يَسيرُ بها العَديدُ الأكْثَرُ
فالخَيلُ تَصهِلُ والفَوارِسُ تَدَّعي
والبِيضُ تَلمَعُ والأسِنَّةُ تُزهِرُ
والأرْضُ خاشِعةٌ تَميلُ بثِقْلِها
والجَوُّ مُعتَكِرُ الجَوانِبِ أغْبَرُ
حتَّى انْتَهَيْتَ إلى المُصلَّى لابِسًا
ثَوْبَ الهُدى يَبْدو عليك ويَظْهَرُ
ومَشَيْتَ مِشْيةَ خاشِعٍ مُتَواضِعٍ
للهِ لا تَزْهى ولا تَتَكبَّرُ
فلوَ انَّ مُشْتاقًا تَكلَّفَ فوقَ ما
في وُسْعِهِ ‌لسَعى ‌إليك ‌المِنبَرُ [550] ((ديوان البحتري)) (ص: 1071).
ومِنه كذلك قَوْلُ أبي نُواسٍ:
لقد اتَّقيتَ اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ
وجَهَدْتَ نَفْسَك فوقَ جَهْدِ المُتَّقي
‌وأخَفْتَ ‌أهْلَ ‌الشِّرْكِ حتَّى إنَّهُ
لتَخافُك النُّطَفُ الَّتي لم تُخلَقِ [551] ((ديوان أبي نواس)) (452).