المَطْلَبُ السَّادِسُ: الهِجاءُ
عَرَفَ الأدَبُ العَربيُّ مِن قَديمٍ غَرَضَ الهِجاءِ، وكانَتْ تُؤَجِّجُه نيرانُ العَصَبيَّةِ القَبَليَّةِ أو المُنافَراتِ الفَرْديَّةِ، وقد جاءَ الإسلامُ فخَفَّفَ مِن حِدَّةِ ذلك، وصَرَفَ الهِجاءَ إلى هِجاءِ أعْداءِ اللهِ تعالى، بَيْدَ أنَّ الأمْرَ لم يَدُمْ طَويلًا حتَّى اسْتَعَرَتْ نيرانُ العَصَبيَّةِ بَيْنَ القَبائِلِ، الَّتي أشْعَلَ لَهيبَها الأُمَوِيُّونَ ليَصْرِفوا النَّاسَ بها عن مُشْكلاتِ الخِلافةِ ووِلايةِ العَهْدِ، وقد اسْتَمرَّتْ تلك العَصَبيَّةُ في زَمانِ العبَّاسيِّينَ، وأذْكى لَهيبَها تَيَّاراتُ الشُّعوبيَّةِ ومُحاوَلاتُ التَّنقُّصِ مِن الجِنْسِ العَربيِّ وإعْلاءِ قَدْرِ الفُرْسِ والتُّرْكِ وغيْرِهم؛ فقدْ كانَ هناك شُعَراءُ كَثيرونَ يَنْحازونَ إلى العَجَمِ ويَهْجونَ العَربَ، مِثلُ بشَّارِ بنِ بُرْدٍ؛ إذ كانَ العَصْرُ العبَّاسيُّ قد شَهِدَ الاسْتِكثارَ مِن الأجانِبِ، واعْتَمدَ عليهم في أمورِ الجَيْشِ والسِّياسةِ، حتَّى صارَتْ لهم القُوَّةُ الغالِبةُ، فزادَ على الهِجاءِ القَبَليِّ والفَرْديِّ هِجاءٌ جَديدٌ، أثارَتْه المُنافَراتُ والرُّدودُ بَيْنَ العَربِ والعَجَمِ.
دَخَلَ أعْرابيٌّ على مَجْزأةَ بنِ ثَوْرٍ السَّدوسيِّ، وبشَّارُ بنُ بُرْدٍ عنْدَه، وعليه بَزَّةُ الشُّعَراءِ، فقالَ الأعْرابيُّ: مَن الرَّجُلُ؟ فقالوا: رَجُلٌ شاعِرٌ، فقالَ أمَوْلًى أم عَربيٌّ؟ قالوا: بلْ مَوْلًى، فقالَ الأعْرابيُّ: وما للمَوالي والشِّعْرَ؟! فغَضِبَ بشَّارٌ، وسَكَتَ هُنَيْهةً، ثُمَّ قالَ: أتَأذَنُ لي يا أبا ثَوْرٍ؟ قالَ: قُلْ ما شِئْتَ يا أبا مُعاذٍ، فأنْشَأَ يقولُ:
خَليلي لا أنامُ على اقْتِسارِ
ولا آبى على مَوْلًى وجارِ
سأُخْبِرُ فاخِرَ الأعْرابِ عنِّي
وعنهُ حينَ تَأذَنُ بالفَخارِ
أحينَ كُسِيتَ بعْدَ العُرْيِ خَزًّا
ونادَمْتَ الكِرامَ على العُقارِ
تُفاخِرُ يا بنَ راعيةٍ وراعٍ
بَني الأحْرارِ؟ حَسْبُك مِن خَسارِ!
وكنْتَ إذا ظَمِئْتَ إلى قَراحٍ
شَرِكْتَ الكَلْبَ في وَلْغِ الإطارِ
تُريدُ بخَطْبِهِ كِسَرَ المَوالي
ويُنْسيك المَكارِمَ صَيْدُ فارِ
وتَغْدو للقَنافِذِ تَدَّريها
ولم تَعقِلْ بدُرَّاجِ الدِّيارِ
وتَتَّشِحُ الشَّمالَ للابسيها
وتَرْعى الضَّانَ بالبَلَدِ القِفارِ
مَقامُك بيْنَنا دَنَسٌ علينا
فليتَك غائِبٌ في حَرِّ نارِ
[572] ((ديوان بشار بن برد)) (ص: 122). فقالَ مَجْزأةُ للأعْرابيِّ: قَبَّحَك اللهُ! فأنت كَسَبْتَ الشَّرَّ لنفْسِك وأمْثالِك.
ومِن الشُّعَراءِ الَّذين اشْتَهروا بالهِجاءِ في هذا العَصْرِ ابنُ الرُّوميِّ؛ فقدْ كانَ حادَّ اللِّسانِ شَديدَ الهِجاءِ، ومِن ذلك قَوْلُه في هِجاءِ الأخْفَشِ النَّحْويِّ:
ألَا قُلُ لنَحْويِّك الأخْفَشِ
أنِسْتَ فأقْصِرْ ولا توحِشِ
وما كُنْتَ عن غيَّةٍ مُقْصِرًا
وأشْلاءُ أمِّك لم تُنبَشِ
أمَا والقَريضِ ونُقادِّهِ
ونَجشِك فيه معَ النُّجَّشِ
ودَعْواك عِرفانَ نُقَّادِهِ
بفَضْلِ النَّقيِّ على الأنْمَشِ
لَئِنْ جئْتَ ذا بَشرٍ حالِكٍ
لقد جئْتَ ذا نَسَبٍ أبْرَشِ
وما واحِدٌ جاءَ مِن أمِّهِ
بأعْجَبَ مِن ناقِدٍ أخْفَشِ
كأنَّ سَنا الشَّتْمِ في عِرْضِهِ
سَنا الفَجْرِ في السَّحَرِ الأغْبَشِ
أقولُ وقد جاءَني أنَّهُ
يَنوشُ هِجائِي معَ النُّوَّشِ
إذا عَكَسَ الدَّهْرُ أحْكامَهُ
سَطا أضْعَفُ القَوْمِ بالأبْطَشِ
وما كلُّ مَن أفْحَشَتْ أمُّهُ
تَعرَّضَ للقَذَعِ الأفْحَشِ
[573] ((ديوان ابن الرومي)) (2/ 247). وقالَ مُتَهكِّمًا مِن رَجُلٍ بَخيلٍ:يُقَتِّرُ عيسى على نفْسِهِ
وليسَ بباقٍ ولا خالِدِ
فلو يَسْتطيعُ لِتَقْتيرِهِ
تَنفَّسَ مِن مَنخِرٍ واحِدِ
رَضيتُ لتَشْتيتِ أمْوالِهِ
يَدَيْ وارِثٍ ليسَ بالحامِدِ
[574] ((ديوان ابن الرومي)) (1/412). وقد كانَ هناك لَوْنٌ آخَرُ مِن الهِجاءِ لا يُقصَدُ به إلَّا السُّخْريةُ والتَّهكُّمُ وإضْحاكُ النَّاسِ، ومِن هذا النَّوْعِ قَوْلُ حَمَّاد عَجْرَد يَهْجو بشَّارَ بنَ بُرْدٍ:
ألَا مَن مُبلِغٌ عنِّي ال
لَذي والِدُه بُرْدُ
إذا ما ذُكِرَ النَّاسُ
فلا قبْلٌ ولا بَعْدُ
وأعَمى يُشبِهُ القِرْدَ
إذا ما عَمِيَ القِرْدُ
دَنيءٌ لم يَرُحْ يَوْمًا
إلى مَجْدٍ ولم يَغْدُ
ولم يَحضُرْ معَ الحُضَّا
رِ في خَيْرٍ ولم يَبْدُ
ولم يُخْشَ له ذَمٌّ
ولم يُرْجَ له حَمْدُ
[575] ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (1/48)، ((الشِّعْر والشُّعَراء)) لابن قتيبة (2/76)، ((شرح مقامات الحريري)) للشريشي (3/369). أو كقَوْلِ أبي دُلامةَ يَهْجو نفْسَه:ألَا أبْلِغْ لديك أبا دُلامةْ
فلستَ مِن الكِرامِ ولا كَرامهْ
جَمَعْتَ دَمامةً وجَمَعْتَ لُؤْمًا
كذاك اللُّؤْمُ تَتْبَعُه الدَّمامهْ
فإن تَكُ يا عُلَيجُ أصَبْتَ مالًا
فيُوشِكُ أن تَقومَ بك القِيامهْ
إذا لَبِسَ العِمامةَ قُلْتَ قِرْدًا
وخِنْزيرًا إذا وَضَعَ العِمامهْ
[576] ((طبقات الشُّعَراء)) لابن لمعتز (ص:57). وقد اشْتَهرَتْ ثُنائيَّاتُ بعضِ الشُّعَراءِ في الهِجاءِ، مِثلُ
أبي العَتاهيَةِ وسَلْمٍ الخاسِرِ، و
أبي نُواسٍ معَ أبانَ بنِ عبْدِ الحَميدِ، وأبي تمَّامٍ ودِعْبِلٍ، وعليِّ بنِ الجَهْمِ معَ مَرْوانَ بنِ أبي الجَنوبِ شاعِرِ المُتوَكِّلِ.
ونَوْعٌ آخَرُ مِن الهِجاءِ قد عَرَفَتْه الدَّولةُ العبَّاسيَّةُ، خاصَّةً في العَصْرِ العبَّاسيِّ الثَّاني، حينَ ضَعُفَتِ الدَّوْلةُ وتَفتَّتَتْ قُواها، وتَولَّى وِزارتَها الفاسِدونُ المُرْتَشونَ، كما قالَ أحَدُ الشُّعَراءِ في الخاقانيِّ الوَزيرِ:
لِلدَّواوينِ مُذْ وَلِيتَ عَويلُ
ولمالِ الخَراجِ سُقْمٌ طَويلُ
يَتَلقَّى الخُطوبَ حينَ ألَمَّتْ
مِنك رأيٌ غَثٌّ وعَقْلٌ ضَئيلُ
إن سَمِنْتُم مِن الخِيانةِ والجَوْ
رِ فللارْتِفاعِ جِسْمٌ نَحيلُ
وقولِ أبي الفَرَجِ الأصْفَهانيِّ في الوَزيرِ ابنِ البَريديِّ:يا سَماءُ اسْقُطي ويا أرْضُ مِيدي
قد تَولَّى الوِزارةَ ابنُ البَريدي
هُدَّ رُكْنُ الإسلامِ وانْهَتَك المُلْ
كُ ومُحَّتْ آثارُه فهو مودي
فاسْتَهلِّي يا عَيْنُ بالدَّمْعِ سَحًّا
وقَليلٌ أن تَذْرِفي وتَجودي
[577] ((تكملة تاريخ الطبري)) للمقدسي (ص: 113)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (4/ 430). .