المَطْلَبُ الثَّامِنُ: الحَماسةُ
كَثُرَتْ أشْعارُ الحَماسةِ في العَصْرِ العبَّاسيِّ جدًّا، وذلك بسَبَبِ ما حَدَثَ فيها مِن فُتوحاتٍ وغَزَواتٍ، خاصَّةً في العَصْرِ العبَّاسيِّ الأوَّلِ، أو ما نَشَأَ مِن صِراعاتٍ ومَعارِكَ داخِليَّةٍ بَيْنَ الدُّوَيْلاتِ النَّاشِئةِ المُتَناحِرةِ فيما بيْنَها، أو بيْنَها وبَيْنَ قُوى الاسْتِعمارِ الصَّليبيِّ الَّذي دَهِمَ البِلادَ.
وقد احْتَفى النَّاسُ بأشْعارِ الحَماسةِ الَّتي تُلهِبُ الحَماسةَ وتُقوِّي الهِمَّةَ وتُمْضي العَزيمةَ على مُواصَلةِ القِتالِ والجِهادِ، أو حتَّى الَّتي تَتَغنَّى بمآثِرِ الجَيْشِ وبُطولتِه في الوَقائِعِ بعْدَ انْتِهائِها والظَّفَرِ فيها.
ومِن أبْدَعِ الحَماسيَّاتِ تلك القَصيدةُ الَّتي أنْشَدَها أبو تَمَّامٍ في مَدْحِ المُعْتَصِمِ، بعْدَ فَتْحِ عَمُّوريَّةَ، وكانَ المُنَجِّمونَ قد حَذَّروا المُعْتَصِمَ مِن الخُروجِ في هذا الوَقْتِ؛ فإنَّه -على حَدِّ زَعْمِهم- نَذيرُ الشُّؤْمِ، غيْرَ أنَّ المُعْتَصِمَ خالَفَهم وخَرَجَ، فحَصَلَ له الظَّفَرُ وفَتَحَ عَمُّوريَّةَ، فأنْشَدَ أبو تَمَّامٍ:
السَّيْفُ أصْدَقُ أنْباءً مِن الكُتُبِ
في حَدِّهِ الحَدُّ بَيْنَ الجِدِّ واللَّعِبِ
بِيضُ الصَّفائِحِ لا سودُ الصَّحائِفِ في
مُتونِهنَّ جَلاءُ الشَّكِّ والرِّيَبِ
والعِلمُ في شُهُبِ الأرْماحِ لامِعةً
بَيْنَ الخَميسَينِ لا في السَّبْعةِ الشُّهُبِ
ومِنها:فَتْحُ الفُتوحِ تعالى أن يُحيطَ بهِ
نَظْمٌ مِن الشِّعْرِ أو نَثْرٌ مِن الخُطَبِ
فَتْحٌ تَفَتَّحُ أبْوابُ السَّماءِ لهُ
وتَبرُزُ الأرْضُ في أثْوابِها القُشُبِ
يا يَوْمَ وَقْعةِ عَمُّوريَّةَ انْصَرَفَتْ
عنكَ المُنى حُفَّلًا مَعْسولةَ الحَلَبِ
أبْقَيْتَ جَدَّ بَني الإسلامِ في صُعُدٍ
والمُشْرِكينَ ودارَ الشِّرْكِ في صَبَبِ
أُمٌّ لهم لو رَجَوا أن تُفْتَدى جَعَلوا
فِداءَها كلَّ أمٍّ حُرَّةٍ وأبِ
وبَرْزةُ الوَجْهِ قد أعْيَتْ رِياضتُها
كِسْرى وصَدَّتْ صُدودًا عن أبي كَرِبِ
بِكْرٌ فما افْتَرَعَتْها كَفُّ حادِثةٍ
ولا تَرقَّتْ إليها هِمَّةُ النُّوَبِ
مِن عَهْدِ إسْكَندَرٍ أو قبْلَ ذلك قد
شابَتْ نَواصي اللَّيالي وهْي لم تَشِبِ
حتَّى إذا مَخَّضَ اللهُ السِّنينَ لها
مَخْضَ الحَليبةِ كانت زُبدةَ الحِقَبِ
أتَتْهمُ الكُربةُ السَّوْداءُ سادِرةً
مِنها وكانَ اسمُها فَرَّاجةَ الكُرَبِ
جَرى لها الفَألُ بَرْحًا يَوْمَ أنْقَرةٍ
إذ غُودِرَتْ وَحْشةَ السَّاحاتِ والرُّحَبِ
لمَّا رأتْ أخْتَها بالأمْسِ قد خَرِبَتْ
كانَ الخَرابُ لها أعْدى مِن الجَرَبِ
[581] ((ديوان أبي تمام بشرح التبريزي)) (ص: 40). ومِنه أيضًا قَوْلُ المُتَنبِّي في سَيْفِ الدَّوْلةِ، يَمدَحُه على إحدى وَقائِعِه معَ الرُّومِ:وكيف تُرَجِّي الرُّومُ والرُّوسُ هَدْمَها
وذا الطَّعْنُ آساسٌ لها ودَعائِمُ
وقد حاكَموها والمَنايا حَواكِمٌ
فما ماتَ مَظْلومٌ ولا عاشَ ظالِمُ
أتَوْك يَجُرُّونَ الحَديدَ كأنَّهم
سَرَوْا بجيادٍ ما لهنَّ قَوائِمُ
إذا بَرَقوا لم تُعرَفِ البيضُ مِنهمُ
ثيابُهمُ مِن مِثلِها والعَمائِمُ
خَميسٌ بشَرْقِ الأرْضِ والغَرْبِ زَحْفُهُ
وفي أذُنِ الجَوْزاءِ مِنه زَمازِمُ
تَجمَّعَ فيهِ كلُّ لِسْنٍ وأمَّةٍ
فما تُفهِمُ الحُدَّاثَ إلَّا التَّراجِمُ
فللَّهِ وَقْتٌ ذَوَّبَ الغِشَّ نارُهُ
فلم يَبْقَ إلَّا صارِمٌ أو ضُبارِمُ
تَقَطَّعَ ما لا يَقطَعُ الدِّرْعَ والقَنا
وفَرَّ مِن الفُرْسانِ مَن لا يُصادِمُ
وقَفْتَ وما في المَوْتِ شَكٌّ لواقِفٍ
كأنَّك في جَفْنِ الرَّدى وهو نائِمُ
تَمُرُّ بك الأبْطالُ كَلْمى هَزيمةً
ووَجْهُك وَضَّاحٌ وثَغْرُك باسِمُ
تَجاوَزْتَ مِقْدارَ الشَّجاعةِ والنُّهى
إلى قَوْلِ قَوْمٍ أنت بالغَيْبِ عالِمُ
ضَمَمْتَ جَناحَيهم على القَلْبِ ضَمَّةً
تَموتُ الخَوافي تحتَها والقَوادِمُ
بضَرْبٍ أتى الهاماتِ والنَّصْرُ غائِبٌ
وصارَ إلى اللَّبَّاتِ والنَّصْرُ قادِمُ
حَقَرْتَ الرُّدَيْنيَّاتِ حتَّى طَرَحْتَها
وحتَّى كأنَّ السَّيْفَ للرُّمْحِ شاتِمُ
ومَن طَلَبَ الفَتْحَ الجَليلَ فإنَّما
مَفاتيحُه البيضُ الخِفافُ الصَّوارِمُ
نَثَرْتَهمُ فوقَ الأُحَيْدبِ كلِّهِ
كما نُثِرَتْ فوقَ العَروسِ الدَّراهِمُ
تَدوسُ بك الخَيلُ الوُكورَ على الذُّرى
وقد كَثُرَتْ حَوْلَ الوُكورِ المَطاعِمُ
تَظُنُّ فرِاخُ الفُتْخِ أنَّك زُرْتَها
بأمَّاتِها وهي العِتاقُ الصَّلادِمُ
[582] ((ديوان المتنبي)) (1/ 376). ومِنه قَوْلُ أبي عليٍّ الجُوَيْنيِّ في فَتْحِ بَيْتِ المَقْدِسِ على يَدِ صَلاحِ الدِّينِ الأيُّوبيِّ:جُنْدُ السَّماءِ لهذا المَلْكِ أعْوانُ
مَن شَكَّ فيهم فَهذا الفَتْحُ بُرْهانُ
متى رأى النَّاسُ ما نَحْكيهِ في زَمَنٍ
وقد مَضَتْ قبْلُ أزْمانٌ وأزْمانُ
هذي الفُتوحُ فُتوحُ الأنْبياءِ وما
لها سِوى الشُّكْرِ بالأفْعالِ أثْمانُ
أضْحَتْ مُلوكُ الفِرِنْجِ الصِّيد في يَدِه
صَيْدًا وما ضَعُفوا يَوْمًا وما هانوا
كم مِن فُحولٍ مُلوكٍ غودِروا وهُمُ
خَوْفَ الفِرَنْجةِ وِلْدانٌ ونِسْوانُ
اسْتَصْرَخَتْ بمَلِكْشاهٍ طَرابُلُسٌ
فخامَ عنها وصُمَّتْ مِنهُ آذانُ
هذا وكم مَلِكٍ مِن بعْدِه نَظَرَ ال
إسْلامَ يُطْوى ويُحْوى وهْو سَكْرانُ
تِسْعونَ عَامًا بِلادُ اللهِ تَصْرُخُ وال
إسْلامُ نُصَّارُه صُمٌّ وعُمْيانُ
فالآنَ لبَّى
صَلاحُ الدِّينِ دَعْوتَهم
بِأمْرِ مَن هو للمِعْوانِ مِعْوانُ
للنَّاصِرِ ادُّخِرَتْ هذي الفُتوحُ وما
سَمَتْ لها هِمَمُ الأمْلاكِ مُذْ كانوا
حَباه ذُو العَرْشِ بالنَّصْرِ العَزيزِ فَقا
لَ النَّاسُ دَاوُدُ هَذَا أم سُلَيمَانُ
في نِصْفِ شَهْرٍ غَدا للشِّرْكِ مُصْطلِمًا
فطُهِّرتْ مِنه أقْطارٌ وبُلْدانُ
فأين مَسْلَمةٌ عنها وإخْوتُهُ
بلْ أين والِدُهم بلْ أين مَرْوانُ
وعَدِّ عَمَّا سِواهُ فالفِرِنْجةُ لم
يَبُذَّهم مِن مُلوكِ الأرْضِ إنْسانُ
لو أنَّ ذا الفَتْحَ في عَصْرِ النَّبيِّ لقد
تَنَزَّلَتْ فيه آياتٌ وقُرآنُ
يَا قُبْحَ أوْجُهِ عُبَّادِ الصَّليبِ وقدْ
غَدا يُبَرْقِعُها شُؤْمٌ وخِذْلانُ
خَزَّنْتَ عنْدَ إلهِ العَرْشِ سائِرَ ما
مُلِّكْتَهُ ومُلوكُ الأرْضِ خُزَّانُ
فَاللهُ يُبْقيك لِلإسْلامِ تَحرُسُهُ
مِن أن يُضامَ ويُلْفى وهْو حَيْرانُ
وهذه سَنَةٌ أكْرِمْ بها سَنَةً
فالكُفْرُ فِي سِنَةٍ والنَّصْرُ يَقْظانُ
يا جامِعًا كِلْمةَ الإيْمانِ قامِعَ مَن
مَعْبودُه دونَ رَبِّ العَرْشِ صُلْبانُ
إِذا طَوى اللهُ ديوانَ العِبادِ فما
يُطْوى لأجْرِ
صَلاحِ الدِّينِ ديوانُ
[583] ((الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية)) لأبي شامة (3/ 369).