المَطْلَبُ الثَّالثُ: عليُّ بنُ الجَهْمِ
عليُّ بنُ الجَهْمِ بنِ بَدْرٍ، أبو الحَسَنِ، مِن بَني سامةَ، مِن لُؤَيِّ بنِ غالِبٍ.
اسْتَوْطَنَ أجْدادُه بِلادَ مَرْوٍ بخُراسانَ، لكنَّ أباه عادَ إلى بَغْدادَ طَلَبًا للرِّزْقِ، وقد وَليَ في عَهْدِ
المَأمونِ بَريدَ اليَمَنِ وبعضَ الثُّغورِ، كما تَولَّى شُرطةَ بَغْدادَ في عَهْدِ الخَليفةِ الواثِقِ.
نَبَغَ عليُّ بنُ الجَهْمِ في صِغَرِه، فحَفِظَ القُرآنَ وتَعلَّمَ مَبادِئَ العَربيَّةِ وهو غُلامٌ، فذَهَبَ إلى كُتَّابٍ بالحَيِّ كانَ يَتعلَّمُ فيه الأطْفالُ ذُكورًا وإناثًا مُجْتمِعينَ، ولفَتَتْه ذاتَ يَوْمٍ بُنيَّةٌ صَغيرةٌ بمَحاسِنِها الدِّقاقِ فكَتَبَ إليها في بعضِ الألْواحِ:
ماذا تَقولينَ فيمَن شَفَّهُ سَهَرٌ
مِن جَهْدِ حُبِّكِ حتَّى صارَ حَيْرانا
[598] ((ديوان علي بن الجهم)) (ص: 184). وسُرْعانَ ما أجابَتْه البُنيَّةُ في نفْسِ اللَّوْحِ على البَديهةِ:
إذا رَأيْنا مُحِبًّا قد أضَرَّ بهِ
جَهْدُ الصَّبابةِ أوْلَيْناهُ إحْسانا
[599] ينظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (4/256). وقد كانَ عليٌّ يَمْلَأُ البَيْتَ شَغْبًا على أبيه وكانَ يُزعِجُه، حتَّى إذا ما بَلَغَ الغايةَ مِن الضَّجَرِ والغَضَبِ مِنه طَلَبَ مِن مُعلِّمِه أن يَحبِسَه في الكُتَّابِ ولا يَترُكَه يَذهَبُ إلى البَيْتِ، فاسْتَجابَ المُعلِّمُ لذلك وحَبَسَ عليًّا، فغَضِبَ عليٌّ مِن ذلك وأرْسَلَ إلى أمِّه بقَوْلِه:
يا أمَّتا أفْديكِ مِن أمِّ
أشْكو إليكِ فَظاظةَ الجَهْمِ
قد سُرِّحَ الصِّبْيانُ كلُّهمُ
وبَقيتُ مَحْصورًا بلا جُرْمِ
[600] ((ديوان علي بن الجهم)) (ص: 180). فلمَّا قَرَأتِ الأمُّ البَيْتَينِ وَثَبَتْ إلى لِحْيةِ الجَهْمِ فنَتَفَتْ أكْثَرَها، فذَهَبَ الجَهْمُ بنفْسِه حتَّى أطْلَقَه
[601] ينظر: ((طبقات الشُّعَراء)) لابن المعتز (ص: 319). .
ولمَّا لَمَعَ نَجْمُ شَبابِه غَدا على مَجالِسِ العِلمِ وحَلَقاتِ الأدَبِ والشِّعْرِ، فنافَسَ الشُّعَراءَ، وجارى كِبارَهم في قَصائِدِهم، واتَّصَلَ بصَداقاتٍ معَ الشُّعَراءِ أمْثالِ أبي تَمَّامٍ.
ولمَّا ظَهَرَتْ عَبْقريَّةُ الشَّاعِرِ ونُبوغُه في الشِّعْرِ اتَّصَلَ بالأُمَراءِ والخُلَفاءِ يَمدَحُهم ويُطنِبُ في تَمْجيدِهم بشِعْرِه، فصارَتْ له عنْدَهم حُظْوةٌ، وأغْدَقوا عليه العَطايا والجَوائِزَ، ثُمَّ يُصبِحُ نَديمَ المُتوَكِّلِ وشاعِرَه، وجَليسَه الَّذي يُفْضي إليه بأسْرارِه، وقد أغْدَقَ عليه المُتوَكِّلُ في العَطاءِ ما لا يُعهَدُ أن أعْطاه خَليفةٌ لشاعِرٍ؛ إذ يَرْوي الرُّواةُ أنَّه مَرَّةً دَخَلَ عليُّ بنُ الجَهْمِ على المُتوَكِّلِ وفي يَدِه دُرَّتانِ نَفيستانِ يُقلِّبُهما إعْجابًا واسْتِحْسانًا، وقد كانتِ الواحِدةُ تَرْبو قيمتُها على مِئةِ ألْفِ دينارٍ، فأنْشَدَه عليٌّ قَصيدةً دَفَعَتْه إلى أن يُعطيَه إحدى الدُّرَّتَينِ، فأنْشَدَ عليٌّ على البَديهةِ:
بِسُرَّ مَن رَا إمامُ عَدْلٍ
تَغرِفُ مِن بَحْرِه البِحارُ
المُلْكُ فيهِ وفي بَنيهِ
ما اخْتَلَفَ اللَّيلُ والنَّهارُ
يُرْجى ويُخْشى لكلِّ أمْرٍ
كأنَّه جَنَّةٌ ونارُ
يَداه في الجودِ ضَرَّتانِ
عليه كِلْتاهما تَغارُ
لم تأتِ مِنه اليَمينُ شيئًا
إلَّا أتَتْ مِثلَه اليَسارُ
فاهْتَزَّ المُتوَكِّلُ طَرَبًا وأعْطاه الثَّانيةَ
[602] ((ديوان علي بن الجهم)) (ص: 136). .
وقد صارَ عليٌّ شاعِرَ الخَليفةِ المُتوَكِّلِ ولِسانَه النَّاطِقَ؛ فلم يَترُكْ كَبيرةً ولا صَغيرةً مِن الأشْياءِ الَّتي فَعَلَها المُتوَكِّلُ إلَّا ذَكَرَها وأثْنى عليها في شِعْرِه، وأكْثَرَ مِن الدُّعاءِ له في كُلِّ حالٍ، فلم يكنْ هناك عَمَلٌ يَسْتحِقُّ التَّنْويهَ إلَّا ويَهتِفُ به في أشعارِه ويُشيدُ إشادةً بَعيدةً، وصارَ وَزيرَه الَّذي يَسْتَشيرُه في الأمورِ، وعَضُدَه الَّذي يُناصِرُه في كلِّ أمورِه، فما عَيَّنَ المُتوَكِّلُ أحَدًا ولا عَزَلَه إلَّا وابنُ الجَهْمِ يَتَغنَّى بعَدْلِه وحِكْمتِه، وقد ناصَرَه كذلك حينَ قَضى المُتوَكِّلُ على شَوْكةِ
المُعْتزلةِ، وأنْهى فِتْنةَ خَلْقِ القُرآنِ الَّتي دامَتْ طَويلًا، فقامَ ابنُ الجَهْمِ مُناصِرًا للمُتوَكِّلِ هاجِيًا المُعْتزلةَ، رامِيًا إيَّاهم بالكُفْرِ والفِسْقِ والزَّنْدقةِ، فيقولُ:
قامَ وأهْلُ الأرْضِ في رَجْفةٍ
يَخبِطُ فيها المُقبِلَ المُدبِرُ
في فِتْنةٍ عَمْياءَ لا نارُها
تَخْبو ولا مَوقِدُها يَفتُرُ
والدِّينُ قد أشْفى وأنْصارُهُ
أيْدي سَبا مَوعِدُها المَحشَرُ
كُلُّ حَنيفٍ مِنهُمُ مُسلِمٍ
لِلكُفْرِ فيهِ مَنظَرٌ مُنكَرُ
إِمَّا قَتيلٌ أو أسيرٌ فلا
يُرْثى لمَن يُقتَلُ أو يُؤسَرُ
فأمَّرَ اللهُ إمامَ الهُدى
واللهُ مَن يَنصُرُهُ يُنصَرُ
وفَوَّضَ الأمْرَ إلى رَبِّهِ
مُسْتَنصِرًا إذ ليس مُسْتَنصَرُ
ونَبَذَ الشُّورى إلى أهْلِها
لم يَثنِهِ خَشيَةُ ما حَذَّروا
وقالَ والألْسُنُ مَقْبوضةٌ
لِيُبلِغِ الغائِبَ مَن يَحضُرُ
أنِّي تَوَكَّلْتُ على اللهِ لا
أُشرِكُ بِاللهِ ولا أَكفُرُ
لا أدَّعي القُدْرةَ مِن دونِهِ
بِاللهِ حَوْلي وبِهِ أَقدِرُ
أشْكُرُهُ إن كنْتُ في نِعْمةٍ
مِنهُ وإن أذْنَبْتُ أسْتَغفِرُ
فليس تَوْفيقيَ إلَّا بِهِ
يَعلَمُ ما أُخْفي وما أُظْهِرُ
فهْو الَّذي قَلَّدَني أمْرَهُ
إن أنا لم أشْكُرْ فمَن يَشكُرُ
واللهُ لا يُعبَدُ سِرًّا ولا
مِثلي على تَقْصيرِهِ يُعذَرُ
وجَرَّدَ الحَقَّ فأشْجى بِهِ
مَن كانَ عن أحْكامِهِ يَنفِرُ
وانْفَضَّتِ الأعْداءُ مِن حَولِهِ
كَحُمُرٍ أنْفَرَها قَسْوَرُ
وصاحَ
إِبْليسُ بأصْحابِهِ
حَلَّ بِنا ما لم نَزَلْ نَحذَرُ
[603] ((ديوان علي بن الجهم)) (ص: 72). وقد أوْرَثَتْ أشْعارُه تلك في هِجاءِ أعْداءِ الخَليفةِ وخُصومِه عَداوةً له معَ كلِّ الأطْرافِ، أوْدَتْ به في النِّهايةِ أن وَشى بعضُ خُصومِه به عنْدَ الخَليفةِ المُتوَكِّلِ، فغَضِبَ المُتوَكِّلُ عليه وصَدَّقَ فيه أقْوالَ الوُشاةِ، وأمَرَ بسَجْنِه، وفي ذلك يقولُ عليُّ بنُ الجَهْمِ:
تَضافَرَتِ الرَّوافِضُ والنَّصارى
وأهْلُ الاعْتِزالِ على هِجائي
وعابوني وما ذَنْبي إليهم
سِوى بَصَري بأوْلادِ الزِّناءِ
[604] ((ديوان علي بن الجهم)) (ص: 81). فيَعْفو عنه الخَليفةُ ويُطلِقُ سَراحَه، ليَشِيَ به الخُصومُ مِن جَديدٍ، ويُشيعوا لدى الخَليفةِ أنَّه تَهيَّأَ لهِجائِه، فيَثورُ عليه المُتوَكِّلُ، ويُصادِرُ أمْوالَه، ويَنْفيه إلى خُراسانَ، ويَكتُبُ إلى عامِلِه عليها أن يَصلِبَه يَوْمًا كامِلًا، وبالفِعلِ يَصلِبُه العامِلُ يَوْمًا ولَيلةً، ثُمَّ يَصدُرُ الأمْرُ بعَفْوِ المُتوَكِّلِ عنه، غيْرَ أنَّ عَليًّا لا يُريدُ الرُّجوعَ إلى سامَرَّاءَ لِما لاقاه مِن الخَليفةِ، ويَذهَبُ إلى بَغْدادَ ويُقيمُ فيها، وقد انْصَرَفَ عنه النَّاسُ لانْصِرافِ الخَليفةِ عنه.
وبعْدَ ذلك يَبلُغُه مَوْتُ الخَليفةِ المُتوَكِّلِ فيَرثيه رِثاءً حارًّا، ثُمَّ يَخرُجُ إلى حَلَبَ لكي يَنضَمَّ إلى المُتَطوِّعينَ في جِهادِ الرُّومِ، غيْرَ أنَّ بعضَ أعْرابِ بَني كَلْبٍ يَعْترِضونَه ويُقاتِلونَه، وهو يَصيحُ فيهم بأشْعارٍ حَماسيَّةٍ مُلتَهِبةٍ، فأصابَتْه طَعْنةٌ قاتِلةٌ
605.
وقد بَرَعَ عليُّ بنُ الجَهْمِ في فُنونِ الشِّعْرِ كافَّةً؛ المَدْحِ والفَخْرِ والهِجاءِ والغَزَلِ والوَصْفِ، وقد اتَّسَمَ شِعْرُه بالرِّقَّةِ وعُذوبةِ الألْفاظِ وسُهولةِ الأساليبِ ورَوْعةِ الصُّوَرِ.
ومِن بَديعِ شِعْرِه:عُيونُ المَها بيْنَ الرُّصافةِ والجِسْرِ
جَلَبْنَ الهَوى مِن حيثُ أدْري ولا أدْري
أعَدْنَ ليَ الشَّوْقَ القَديمَ ولم أكُنْ
سَلَوْتُ ولكنْ زِدْنَ جَمْرًا على جَمْرِ
سَلِمْنَ وأسْلَمْنَ القُلوبَ كأنَّما
تُشَكُّ بأطْرافِ المُثقَّفةِ السُّمْرِ
وقُلْنَ لها نحن الأهِلَّةُ إنَّما
نُضيءُ لمَن يَسْري بلَيلٍ ولا يُغْري
ولا بَذْلَ إلَّا ما تَزوَّدَ ناظِرٌ
ولا وَصلَ إلَّا بالخَيالِ الَّذي يَسْري
خَليلَيَّ ما أحْلى الهَوى وأمَرَّهُ
وأعْلَمَني بالحُلْوِ فيه وبالمُرِّ
كَفى بالهَوى شُغْلًا وبالشَّيْبِ زاجِرًا
لوَ انَّ الهَوى ممَّا يُنَهْنَهُ بالزَّجْرِ
بما بيْنَنا مِن حُرْمةٍ هلْ رأيْتُما
أرَقَّ مِن الشَّكْوى وأقْسى مِن الهَجْرِ
وأفْضَحَ مِن عَيْنِ المُحِبِّ لسِرِّه
ولا سِيَّما أن أطَلَقتْ عَبْرةً تَجْري
وإنَّا لمِمَّن سارَ بالثَّغْرِ ذِكْرُهُ
ولكنَّ أشْعاري يَسيرُ بها ذِكْرِي
وما كُلُّ مَن قادَ الجِيادَ يَسوسُها
ولا كُلُّ مَن أجْرى يُقالُ له مُجْري
ولكنَّ إحْسانَ الخَليفةِ جَعْفَرٍ
دَعاني إلى ما قلْتُ فيه مِن الشِّعْرِ
وفَرَّقَ شَمْلَ المالِ جودُ يَمينِهِ
على أنَّه أبْقى له أجْمَلَ الذِّكْرِ
إذا ما أمالَ الرَّأيَ أدْرَكَ فِكْرُهُ
غَرائِبَ لم تَخطُرْ ببالٍ ولا فِكْرِ
ولا يَجمَعُ الأمْوالَ إلَّا لبَذْلِها
كما لا يُساقُ الهَدْيُ إلَّا إلى النَّحْرِ
ومَن قالَ إنَّ القَطْرَ والبَحْرَ أشْبَها
نَداهُ فقدْ أثْنى على البَحْرِ والقَطْرِ
أغيْرَ كِتابِ اللهِ تَبْغونَ شاهِدًا
لكم يا بَني العبَّاسِ بالمَجْدِ والفَخْرِ
كَفاكم بأنَّ اللهَ فوَّضَ أمْرَهُ
إليكم وأوْحى أن أطيعوا أُولي الأمْرِ
وهلْ يُقبَلُ الإيمانُ إلَّا بحُبِّكم
وهلْ يَقبَلُ اللهُ الصَّلاةَ بلا طُهْرِ
ومَن كان مَجْهولَ المَكانِ فإنَّما
مَنازِلُكم بَيْنَ الحُجونِ إلى الحِجْرِ
[606] ((ديوان علي بن الجهم)) (ص: 141). ومِن خَبيثِ هِجائِه:بَني مُتَيَّمَ هلْ تَدْرونَ ما الخَبَرُ
وكيف يُستَرُ أمْرٌ ليس يَستَتِرُ
حاجَيْتُكم: مَن أبوكم يا بَني عُصَبٍ
شتَّى ولكنَّما للعاهِرِ الحَجَرُ
قد كانَ شَيْخُكمُ شَيْخًا له خَطَرٌ
لكنَّ أمَّكُمُ في أمْرِها نَظَرُ
فلم تكنْ أمُّكم واللهُ يَكلَؤُها
مَحْجوبةً دونَها الأبْوابُ والسُّتُرُ
كانَت مُغنِّيةَ الفِتيانِ إن شَرِبوا
وغيْرَ مَحْجوبةٍ عنهم إذا سَكِروا
وكانَ إخْوانُه غُرًّا جَحاجِحةً
لا يُمكِنُ الشَّيْخَ أن يُعْصَى إذا أمَروا
قَوْمٌ أعِفَّاءُ إلَّا في بُيوتِكمُ
فإنَّ في مِثلِها قد تُخلَعُ العُذُرُ
قَوْمٌ إذا نُسِبوا فالأمُّ واحِدةٌ
واللهُ أعْلَمُ بالآباءِ إذ كَثُروا
[607] ((ديوان علي بن الجهم)) (ص: 133).