المَطْلَبُ الأوَّلُ: ابنُ زَيْدونَ
هو
أبو الوَليدِ، أحْمَدُ بنُ عبْدِ اللهِ بنِ زَيْدونَ المَخْزوميُّ الأنْدَلُسيُّ، هَيْئةِ الفُقَهاءِ المُشاوِرينَ لعَهْدِ الخَليفةِ المُسْتَعينِ، وكانَ جَدُّه لأمِّه صاحِبَ الأحْكامِ بقُرْطُبةَ، فهو مِن بَيْتِ حَسَبٍ ونَسَبٍ وثَراءٍ، العُلومِ والمَعارِفِ بقُرْطُبةَ، وخاصَّةً مِن الآدابِ العَربيَّةِ.
تَعلَّقَ في شَبابِه بوَلَّادةَ بِنْتِ المُسْتَكْفي باللهِ مُحمَّدِ بنِ عبْدِ الرَّحْمنِ الأُمَوِيِّ، وكانَتْ تُحِبُّه هي أيضًا، وتَبادَلا أشْعارًا انْتَشَرَ أمْرُها واشْتَهرَتْ بَيْنَ النَّاسِ، إلَّا أنَّه بمَوْتِ المُسْتَكْفي تَسقُطُ الخِلافةُ الأُمَوِيَّةُ في الأنْدَلُسِ، ويَتَولَّى بَعْدَ ذلك أبو الحَزْمِ جَهْوَرٌ أحَدُ مُلوكِ الطَّوائِفِ، فيَنزِلُ على حُكْمِ الشُّورى، ويُؤلِّفُ مَجلِسًا يُرجَعُ إليه في تَدْبيرِ شُؤونِ البِلادِ.
وقدِ اشْتَهرَ أمْرُ
ابنِ زَيْدونَ حينَئذٍ وصارَ أحَدَ المُسْتَشارينَ في مَجلِسِ ابنِ جَهْوَرٍ، وكانَ يُرسِلُه في السِّفاراتِ بيْنَه وبَيْنَ الأنْدَلُسِ، ثُمَّ إنَّ ابنَ جَهْوَرٍ نَقَمَ عليه وحَبَسَه، قيلَ: إنَّه حَبَسَه لأنَّه رآه يَميلُ إلى المُعْتَضِدِ بنِ عَبَّادٍ، وقيلَ: لأنَّه دَبَّرَ مُؤامَرةً لإعادةِ الخِلافةِ الأُمَوِيَّةِ في الأنْدَلُسِ مِن جَديدٍ.
وقدْ أرْسَلَ
ابنُ زَيْدونَ إليه مِن مَحبَسِه رَسائِلَ اسْتِعطافٍ كَثيرةً، وهي رَسائلُ بَلاغيَّةٌ مِن طِرازٍ عالٍ، إلَّا أنَّ ابنَ جَهْوَرٍ لم يَأبَهْ بذلك، فاسْتَشْفَعَ له أبو الوَليدِ بنُ أبي الحَزْمِ عِنْدَ أبيه، فأطْلَقَ سَراحَه.
ولمَّا ماتَ ابنُ جَهْوَرٍ وتَولَّى ابنُه أبو الوَليدِ بنُ أبي الحَزْمِ، عَهِدَ إلى
ابنِ زَيْدونَ بأحْوالِ أهْلِ الذِّمَّةِ، كما كانَ يُرسِلُه سَفيرًا إلى الطَّوائِفِ والأنْدَلُسيِّينَ، ثُمَّ صَيَّرَه وَزيرًا له.
ثُمَّ يَتَّصِلُ
ابنُ زَيْدونَ بالمُعْتَضِدِ بنِ عَبَّادٍ صاحِبِ إشْبيليَة، ويَرحَلُ إليه، فيَصيرُ وَزيرًا له، مُفوَّضًا بأمورِ مَمْلكتِه، نَديمًا له في مَجالِسِه، وظَلَّ على ذلك طيلةَ زَمانِ المُعْتَضِدِ، ثُمَّ ابنِه المُعْتَمِدِ مِن بَعْدِه، إلى أن تَوفَّاه اللهُ تعالى
[744] ينظر: ((الذخيرة في محاس أهل الجزيرة)) للشنتريني (1/337)، ((المطرب من أشعار أهل المغرب)) (ص:164). .
أمَّا حُبُّه لوَلَّادةَ بِنْتِ المُسْتَكْفي فقدْ شاعَ ذلك واسْتَفاضَ خَبَرُه؛ إذ كانَتْ وَلَّادةُ جَميلةً وضيئةً، على بَلاغتِها وحُسْنِ شِعْرِها، وقدْ تَعلَّقَ بها
ابنُ زَيْدونَ وأحَبَّها، وأحَبَّتْه هي كذلك، وكَثُرَتْ بيْنَهما الزِّياراتُ والرَّسائِلُ.
إلَّا أنَّ غَيْرتَها وإعْجابَها بنفْسِها تَسبَّبا في إنْهاءِ قِصَّةِ الحُبِّ تلك؛ فبيْنَما
ابنُ زَيْدونَ يَجلِسُ إليها مَرَّةً يَسْتَمعانِ إلى غِناءِ جارِيتِها، اسْتَحْسَنَ
ابنُ زَيْدونَ غِناءَ الجارِيةِ لمَقْطوعةٍ مِن الشِّعْرِ، فأمَرَها بالإعادةِ دونَ إذْنٍ مِن وَلَّادةَ، فغَضِبَتْ لذلك وأحَسَّتْ أنَّه يَميلُ إلى حُبِّ تلك الجارِيةِ دونَها، وهَجَرَتْه لِذلك، وأرْسَلَ إليها مِرارًا يُبرِّئُ نفْسَه مِن ذلك ويَعْتَذِرُ مِنها، غيْرَ أنَّها لم تَقبَلِ اعْتِذارَه، وانْقَلَبَتْ عليه.
وقدْ كانَ الوَزيرُ ابنُ عَبْدوسَ يَهْواها ويُحِبُّها، وكانَتْ تَتَهكَّمُ عليه وتَسخَرُ مِنه عنْدَما كانَتْ تُحِبُّ
ابنَ زَيْدونَ، فلمَّا تَرَكَتِ
ابنَ زَيْدونَ انْصَرَفَتْ إليه، فأرْسَلَ إليه
ابنُ زَيْدونَ رَسائِلَه التَّهَكُّميَّةَ السَّاخِرةَ
[745] يُنظر: ((فوات الوفيات)) لابن خلكان (4/ 251)، ((شاعِرات العرب في الجاهلية والإسلام)) لبشير يموت (ص: 224). ، وأنْشَدَ فيه ضادِيَّتَه المَشْهورةَ الَّتي أوَّلُها:
أثَرْتَ هِزَبرَ الشَّرى إذ رَبَضْ
ونَبَّهْتَهُ إذ هَدا فاغْتَمَضْ
وما زِلْتَ تَبسُطُ مُستَرسِلًا
إليهِ يَدَ البَغْيِ لمَّا انْقَبَضْ
حَذارِ حَذارِ فإنَّ الكَريمَ
إذا سيمَ خَسْفًا أبى فامْتَعَضْ
فإنَّ سُكونَ الشُّجاعِ النَّهوسِ
ليس بمانِعِهِ أن يَعَضْ
وإنَّ الكَواكِبَ لا تُستَزَلُّ
وإنَّ المَقاديرَ لا تُعتَرَضْ
إذا ريغَ فليَقتَصِدْ مُسرِفٌ
مَساعٍ يُقَصِّرُ عنها الحَفَضْ
وهلْ وارِدُ الغَمْرِ مِن عِدِّهِ
يُقاسُ بهِ مُستَشِفُّ البَرَضْ
إذا الشَّمْسُ قابَلْتَها أرْمَدًا
فحَظُّ جُفونِك في أن تُغَضْ
أرى كُلَّ مُجْرٍ أبا عامِرٍ
يُسَرُّ إذا في خَلاءٍ رَكَضْ
أُعيذُك مِن أن تَرى مِنزَعي
إذا وَتَري بالمَنايا انْقَبَضْ
فإنِّي أَلينُ لِمَن لانَ لي
وأتْرُكُ مَن رامَ قَسْري حَرَضْ
وكم حَرَّكَ العُجْبُ مِن حائِنٍ
فغادَرْتُهُ ما بهِ مِن حَبَضْ
أبا عامِرٍ أين ذاك الوَفاءُ
إذِ الدَّهْرُ وَسْنانُ والعَيْشُ غَضْ
وأين الَّذي كُنْتَ تَعتَدُّ مِن
مُصادَقتي الواجِبَ المُفتَرَضْ
تَشوبُ وأَمْحَضُ مُستَبقِيًا
وهَيْهاتَ مَن شابَ مِمَّن مَحَضْ
أَبِنْ لي ألمْ أضْطَلِعْ ناهِضًا
بأعْباءِ بِرِّك فيمَن نَهَضْ
ألمْ تَنْشَ مِن أدَبي نَفْحةً
حَسِبْتَ بها المِسْكَ طيبًا يُفَضْ
ألمْ تَكُ مِن شيمَتي غادِيًا
إلى تُرَعٍ ضاحَكَتْها فُرَضْ
ولولا اخْتِصاصُك لم ألْتَفِتْ
لحالَيك مِن صِحَّةٍ أو مَرَضْ
ولا عادَني مِن وَفاءٍ سُرورٌ
ولا نالَني لجَفاءٍ مَضَضْ
يَعِزُّ اعْتِصارُ الفَتى وارِدًا
إذا البارِدُ العَذْبُ أَهْدى الجَرَضْ
عَمَدْتَ لشِعْري ولمْ تَتَّئِبْ
تُعارِضُ جَوهَرَهُ بالعَرَضْ
أضاقَتْ أساليبُ هذا القَريضِ
أمْ قد عَفا رَسمُهُ فانْقَرَضْ
لَعَمْري لَفَوَّقْتَ سَهْمَ النِّضالِ
وأرْسَلْتَهُ لو أصَبْتَ الغَرَضْ
وشَمَّرْتَ للخَوْضِ في لُجَّةٍ
هي البَحْرُ ساحِلُها لمْ يُخَضْ
وغَرَّك مِن عَهْدِ وَلَّادةٍ
سَرابٌ تَراءى وبَرْقٌ وَمَضْ
[746] ((ديوان ابن زيدون)) (ص: 147). ومِن أشْهَرِ قَصائِدِه ما كَتَبَه لوَلَّادةَ:أضْحى التَّنائي بَديلًا مِن تَدانينا
ونابَ عنْ طيبِ لُقْيانا تَجافينا
ألَّا وقدْ حانَ صُبْحُ البَيْنِ صَبَّحَنا
حَيْنٌ فقامَ بِنا لِلحَيْنِ ناعينا
مَن مُبلِغُ المُلبِسينَا بِانْتِزاحِهمُ
حُزْنًا معَ الدَّهْرِ لا يَبْلى ويُبْلينا
أنَّ الزَّمانَ الَّذي ما زالَ يُضحِكُنا
أُنْسًا بقُرْبِهمُ قد عادَ يُبْكينا
غِيظَ العِدا مِن تَساقينا الهَوى فدَعَوا
بأنْ نَغَّصَ فقالَ الدَّهْرُ آمينا
فانْحَلَّ ما كانَ مَعْقودًا بأنْفُسِنا
وانْبَتَّ ما كانَ مَوْصولًا بأيدينا
وقدْ نكونُ وما يُخْشى تَفَرُّقُنا
فاليَوْمَ نحن وما يُرْجى تَلاقينا
يا ليتَ شِعْري ولم نُعتِبْ أعادِيَكم
هلْ نالَ حَظًّا مِنَ العُتْبى أعادينا
لم نَعتَقِدْ بَعْدَكم إِلَّا الوَفاءَ لكم
رَأيًا ولم نَتَقَلَّدْ غيْرَهُ دينا
ما حَقُّنا أن تُقِرُّوا عَيْنَ ذي حَسَدٍ
بِنا ولا أن تَسُرُّوا كاشِحًا فينا
كُنَّا نَرى اليَأسَ تُسْلينا عَوارِضُهُ
وقدْ يَئِسْنا فما لِليَأسِ يُغْرينا
بِنْتُم وبِنَّا فما ابْتَلَّتْ جَوانِحُنا
شَوْقًا إليكم ولا جَفَّتْ مَآقينا
نَكادُ حينَ تُناجيكم ضَمائِرُنا
يَقْضي علينا الأسى لولا تَأَسِّينا
حالَتْ لفَقْدِكمُ أيَّامُنا فغَدَتْ
سُودًا وكانَتْ بكم بِيضًا لَيالينا
إِذْ جانِبُ العَيْشِ طَلْقٌ مِن تَأَلُّفِنا
ومَربَعُ اللَّهْوِ صافٍ مِن تَصافينا
وإِذْ هَصَرْنا فُنونَ الوَصْلِ دانِيةً
قِطافُها فجَنَيْنا مِنهُ ما شِينا
ليُسْقَ عَهْدُكمُ عَهْدُ السُّرورِ فما
كنْتُم لأرْواحِنا إِلَّا رَياحينا
لا تَحْسَبوا نَأيَكم عنَّا يُغَيِّرُنا
أن طالَما غَيَّرَ النَّأيُ المُحِبِّينا
واللهِ ما طَلَبَتْ أهْواؤُنا بَدَلًا
مِنكم ولا انْصَرَفَتْ عنكم أمانينا
دُومي على العَهْدِ ما دُمْنا مُحافِظةً
فالحُرُّ مَن دانَ إنْصافًا كما دِينا
فما اسْتَعَضْنا خَليلًا مِنكِ يَحبِسُنا
ولا اسْتَفَدْنا حَبيبًا عنكِ يَثْنينا
ولو صَبا نَحْوَنا مِن عُلْوِ مَطلَعِهِ
بَدْرُ الدُّجى لم يكُنْ حاشاكِ يُصْبينا
أبْكي وَفاءً وإن لم تَبْذُلي صِلةً
فالطَّيْفُ يُقنِعُنا والذِّكْرُ يَكْفينا
وفي الجَوابِ مَتاعٌ إن شَفَعْتِ بهِ
بِيضَ الأيادي الَّتي ما زِلْتِ تولينا
عليكِ مِنَّا سَلامُ اللهِ ما بَقِيَتْ
صَبابةٌ بكِ نُخْفيها فتُخْفينا
[747] ((ديوان ابن زيدون)) (ص: 11).