المَطْلَبُ الثَّاني: ابنُ خَفاجةَ
هو أبو إسْحاقَ، إبْراهيمُ بنُ أبي الفَتْحِ بنِ عبْدِ اللهِ بنِ خَفاجةَ، وُلِدَ أسْرةِ عِلمٍ وأدَبٍ وثَراءٍ، فانْصَرَفَ إلى طَلَبِ العِلمِ وتَحْصيلِ آدابِ العَربيَّةِ وعُلومِها، وصَقَلَ مَوهِبتَه الشِّعْريَّةَ الَّتي نَمَتْ مُبكِّرًا وغَذَّاها غِذاءً شِعْريًّا رَفيعًا بالاطِّلاعِ على أشْعارِ المَشرِقيِّينَ؛ كالشَّريفِ الرَّضيِّ، و
المُتَنَبِّي، وغيْرِهما.
وقدْ بَرَعَ ابنُ خَفاجةَ في جَميعِ فُنونِ الشِّعْرِ، واسْتَفْحَلَ في الوَصْفِ الَّذي هو آيةُ الشِّعْرِ الأنْدَلُسيِّ حتَّى سُمِّيَ بالجَنَّانِ؛ نِسْبةً إلى جِنانِ الأنْدَلُسِ وحَدائِقِها، كما أنَّه لم يَذهَبْ إلى الخُلَفاءِ ليَمدَحَهم؛ إذْ لم يكنْ في حاجةٍ إلى ذلك نَظَرًا لكِفايتِه المادِّيَّةِ وغِناه.
وقدْ أكْثَرَ في شَبابِه مِن شِعْرِ الغَزَلِ، إلَّا أنَّه لمَّا تَقدَّمَتْ به السِّنُّ زَهِدَ في الدُّنْيا وتَنَسَّكَ، فأتى شِعْرُه في تَصْويرِ مَتاعِ الحَياةِ الزَّائِلِ، وما يَنْتظِرُ الإنْسانَ مِن الثَّوابِ والعِقابِ، وأنَّ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وأبْقى، وكانَ يَخرُجُ مِن جَزيرةِ شقر -وهي وَطَنُه- في أكْثَرِ الأوْقاتِ إلى بعضِ تلك الجِبالِ الَّتي تَقرُبُ مِن الجَزيرةِ وَحْدَه، فكانَ إذا صارَ بَيْنَ جَبَلَينِ نادى بأعْلى صَوْتِه: يا إبْراهيمُ تَموتُ، يَعْني نفْسَه، فيُجيبُه الصَوْتُ، ولا يَزالُ كذلك حتَّى يَخِرَّ مَغْشيًّا عليه، وقدْ عُمِّرَ طَويلًا حتَّى ماتَ سَنَةَ 533ه، عن اثْنَتَينِ وثَمانينَ سَنَةً
[748] ينظر: ((بغية المتلمس في تاريخ رجال أهل الأندلس)) لأبي جعفر الضبي (ص: 207)، ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (1/56)، ((الوافي بالوفيات)) لصلاح الدين الصفدي (6/55). .
وأفْضَلُ أشْعارِه في وَصْفِ الطَّبيعةِ، ومِن ذلك قَوْلُه في أحَدِ خَمْريَّاتِه الَّتي مَزَجَها بوَصْفِ الطَّبيعةِ:وأراكةٍ ضَرَبَتْ سَماءً فوقَنا
تَنْدى وأفْلاكُ الكُؤوسِ تُدارُ
حَفَّتْ بدَوْحتِها مَجرَّةُ جَدْولٍ
نَثَرَتْ عليه نُجومَها الأزْهارُ
وكأنَّها وكأنَّ جَدْولَ مائِها
حَسْناءُ شُدَّ بخَصْرِها زُنَّارُ
زَفَّ الزُّجاجُ بها عَروسَ مُدامةٍ
تَجْلى ونَوَّارُ الغُصونِ نِثارُ
في رَوْضةٍ جُنْحُ الدُّجى ظِلٌّ بها
وتَجَسَّمَتْ نَوْرًا بها الأنْوارُ
غَنَّاءُ يَنشُرُ وَشيَه البَزَّازُ لي
فيها ويَفتُقُ مِسْكَهُ العَطَّارُ
قامَ الغِناءُ بها وقد نَضَحَ النَّدى
وَجْهَ الثَّرى واسْتَيْقَظَ النَّوَّارُ
والماءُ في حَليِ الحُبابِ مُقلَّدٌ
زَرَّتْ عليه جُيوبَها الأشْجارُ
[749] ((ديوان ابن خفاجة)) (ص: 136). وقَوْلُه:لقد أصَخْتُ إلى نَجْواكَ مِن قَمَرِ
وبِتُّ أدْلُجُ بَيْنَ الوَعْيِ والنَّظَرِ
لا أجْتَلي لُمَحًا حتَّى أعِي مُلَحًا
عَدْلًا مِن الحُكْمِ بَيْنَ السَّمْعِ والبَصَرِ
وقد مَلَأْتُ سَوادَ العَيْنِ مِن وَضَحٍ
فقَرِّطِ السَّمْعَ قِرْطَ الأُنْسِ مِن سَمَرِ
فلو جَمَعْتَ إلى حُسْنٍ مُحاوَرةً
حُزْتَ الجَمالَينِ مِن خُبْرٍ ومِن خَبَرِ
وإن صَمَتَّ ففي مَرآكَ لي عِظةٌ
قد أفْصَحَتْ ليَ عنها ألْسُنُ العِبَرِ
تَمُرُّ مِن ناقِصٍ حَوْرًا ومُكْتَمِلٍ
كَوْرًا ومِن مُرتَقٍ طَوْرًا ومُنحَدِرِ
والنَّاسُ مِن مُعرِضٍ يَلْهى ومُلتَفِتٍ
يَرْعى ومِن ذاهِلٍ يَنْسى ومُدَّكِرِ
تَلْهو بساحاتِ أقْوامٍ تُحدِّثُنا
وقد مَضَوا فقَضَوا أنَّا على الأثَرِ
فإن بَكيْتُ وقدْ يَبْكي الجَليدُ فمِن
شَجْوٍ يُفَجِّرُ عَيْنَ الماءِ في الحَجَرِ
[750] ((ديوان ابن خفاجة)) (ص: 130). ومِنه قَوْلُه في الزُّهْدِ:ألَا قانِعٌ مِن مُلْكِ كِسْرى بكِسْرةٍ
فما الوَجْدُ إلَّا الخُلْدُ لا ما جَنَى كِسْرى
فما بالُنا والمالُ عُرْضةُ حادِثٍ
تَرَكْنا مَطايا الرِّيحِ في إثْرِهِ حَسْرى
وما الغَيُّ إلَّا أن يُعبِّدَنا الهَوى
ولم نَدْرِ جَهْلًا أنَّنا مَعشَرٌ أسْرى
وقدْ لاحَ صُبْحُ الشَّيْبِ وانْسَلَخَ الصِّبا
فيا صُبْحُ ما أجْلى ويا لَيلُ ما أسْرى
فيا ليت أنِّي ما خُلِقْتُ لمَطعَمٍ
ولم أدْرِ ما اليُسْرى هناك وما العُسْرى
ولستُ أراني والمَغَبَّةُ خِسَّةٌ
يَفي غَسْليَ اليُمْنى لغَسْليَ باليُسْرى
[751] ((ديوان ابن خفاجة)) (ص: 111).