المَطْلَبُ الخامِسُ: مَوْضوعاتُ المُوَشَّحاتِ
اسْتَعمَلَ المُوَشِّحونَ المُوَشَّحاتِ في المَوْضوعاتِ الَّتي تَصلُحُ للغِناءِ؛ إذ كانَتِ المُوَشَّحاتُ وُضِعَتْ أصْلًا ليُتَغنَّى بها؛ ولِهذا كانَ أكْثَرَ ما تُكتَبُ فيه المُوَشَّحاتُ: الغَزَلُ والوَصْفُ ومَجالِسُ الشَّرابِ.
لكنْ معَ تَطوُّرِ ذلك اللَّوْنِ صارَ يُنظَمُ لِذاتِه لا للغِناءِ، فأصْبَحَ الوَشَّاحونَ يَنظِمونَ المُوَشَّحاتِ في المَدْحِ والهِجاءِ والرِّثاءِ وغيْرِ ذلك.
كما ظَهَرَ اسْتِخْدامُه في التَّصوُّفِ؛ حيثُ أكْثَرَ
ابنُ عَرَبي مِن اسْتِعْمالِه، وفي ديوانِه سِتَّةٌ وعِشرونَ مُوَشَّحًا صوفيًّا.
كما فَشا نَظْمُ المُوَشَّحاتِ في المَديحِ النَّبَويِّ، وفي العَصْرِ الغَرْناطيِّ كانَ الوَشَّاحونَ يَنْظِمونَ المُوَشَّحاتِ في المَوالِدِ الَّتي يُنَظِّمُها الأُمَراءُ ويَحضُرونَها معَ العامَّةِ، ومِن ذلك ما نَظَمَه ابنُ زَمْرَكٍ:
لو تَرجِعُ الأيَّامُ بَعْدَ الذَّهاب
لم تَقدَحِ الأيَّامُ ذِكْرى حَبيبْ
وكلُّ مَن نامَ بلَيلِ الشَّباب
يُوقِظُه الدَّهْرُ بصُبْحِ المَشيبْ
يا راكِبَ العَجْزِ ألَا نَهْضةٌ
قد ضَيَّقَ الدَّهْرُ عليك المَجالْ
لا تَحسَبَنْ أنَّ الصِّبا رَوْضةٌ
تَنامُ فيها تحتَ فيءِ الظِّلالْ
فالعَيْشُ نَوْمٌ والرَّدى يَقْظةٌ
والمَرْءُ ما بيْنَهما كالخَيالْ
والعُمرُ قد مَرَّ كمَرِّ السَّحابْ
والمُلْتَقى باللهِ عمَّا قريبْ
وأنت مَخْدوعٌ بلَمْعِ السَّرابْ
تَحسَبُه ماءً ولا تَسْتَريبْ
واللهِ ما الكَوْنُ بما قد حَوى
إلَّا ظِلالٌ تُوهِمُ الغافِلا
وعادةُ الظِّلِّ إذا ما اسْتَوى
تُبصِرُه مُنْتقِلًا زائِلا
إنَّا إلى اللهِ عَبيدُ الهَوى
لم نَعرِفِ الحَقَّ ولا الباطِلا
فكلُّ مَن يَرْجو سِوى اللهِ خاب
وإنَّما الفَوْزُ لعَبْدٍ مُنيبْ
يَسْتقبِلُ الرُّجْعى بصِدْقِ المَتابْ
ويَرقُبُ اللهَ الشَّهيدَ القريبْ
يا حَسْرتا مَرَّ الصِّبا وانْقَضى
وأقْبَلَ الشَّيْبُ يَقُصُّ الأثَرْ
واخَجْلَتا والرَّحْلُ قد قَوَّضا
وما بقيْ في الخُبْرِ غيْرُ الخَبَرْ
وليتَني لو كنْتُ فيما مَضى
أدَّخِرُ الزَّادَ لطولِ السَّفَرْ
قد حانَ مِن رَكْبِ التَّصابي إياب
ورائِدُ الرُّشْدِ أطالَ المَغيبْ
يا أكْمَهَ القَلْبِ بغَيْنِ الحِجاب
كم ذا أناديك فلا تَسْتَجيبْ
هل يُحمَلُ الزَّادُ لدارِ الكَريم
والمُصْطَفى الهادي شَفيعٌ مُطاعْ
فجاهُه ذُخْرُ الفَقيرِ العَديم
وحُبُّه زادي ونِعْمَ المَتاعْ
واللهُ سمَّاه الرَّؤوفَ الرَّحيم
فجارُه المَكْفولُ ما إن يُضاعْ
عسى شَفيعُ النَّاسِ يَوْمَ الحِساب
ومَلْجَأُ الخَلْقِ لرَفْعِ الكُروبْ
يَلْحَقُني مِنه قَبولٌ مُجاب
يَشفَعُ لي في موبِقاتِ الذُّنوبْ
يا مُصْطَفى والخَلْقُ رَهْنُ العَدَم
والكَوْنُ لم يَفتُقْ كِمامَ الوُجودْ
مَزيَّةٌ أُعْطيْتَها في القِدَم
بها على كلِّ نَبيٍّ تَسودْ
مَوْلدُك المَرْقومُ لمَّا نَجَم
أنْجَزَ للأمَّةِ وَعْدَ السُّعودْ
نادَيْتُ لو يُسمَحُ لي بالجَواب
شَهْرَ رَبيعٍ يا رَبيعَ القُلوبْ
أطْلَعْتَ للهَدْيِ بغيْرِ احْتِجاب
شَمْسًا ولكنْ ما لها مِن غُروبْ
[772] ((نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب)) للتلمساني (7/ 280).