المطلب الرَّابع: الحَماسةُ والفَخرُ
بدأت أيَّامُ دولةِ المماليكِ بالانتصارِ على الصَّليبيِّينَ بقيادةِ لُويسَ التَّاسِعِ في المنصورةِ؛ تلك الموقِعةِ التي أدارها المماليكُ تحتَ قيادةِ شَجَرةِ الدُّرِّ حينَ أخْفَت عن الجيشِ وفاةَ الصَّالحِ أيُّوبَ، ثمَّ لم تلبَثِ الأيامُ أن ترقَّبتْ مصرُ والشَّامُ وصولَ التَّتارِ، فكان على تلك الدَّولةِ التَّصَدِّي لذلك العَدُوِّ الذي يُهدِّدُ أمنَها، وقيَّضَ اللهُ تعالى للمماليكِ في عَينِ جالوتَ نَصرًا مؤزَّرًا على التَّتارِ، أسعد المُسلِمين جميعًا في كُلِّ أقطارِ الأرضِ، وألهَب مشاعِرَ الأُدَباءِ للفَخرِ بما أحرَزه المُسلِمون على التَّتارِ، إلَّا أنَّ إمبراطوريَّةَ التَّتارِ لم تندَثِرْ حينَئذٍ، بل واصَلَت هُجومَها على ديارِ الإسلامِ، وفي كلِّ مرَّةٍ يتصدَّى لها أُمَراءُ المماليكِ، بما أزهَرَ شِعرَ الحماسةِ وألهَبَ قرائِحَ الشُّعَراءِ فيه.
قال الشَّيخُ شِهابُ الدِّينِ محمودٌ في موقِعةِ عينِ جالوتَ
[34] يُنظَر: ((النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)) لابن تغري بردي (7/ 170، 171). : الطويل
كذا فلْتَكُنْ في اللهِ تمضي العزائمُ
وإلَّا فلا تجفو الجُفون الصَّوارمُ
عزائمُ حاذَتْها الرِّياحُ فأصبَحَت
مُخلَّفةً تبكي عليها الغمائِمُ
سَرَتْ من حِمَى مِصرَ إلى الرُّومِ فاحتوت
عليه وسُورَاه الظُّبَا واللَّهاذِمُ||hamish||35||/hamish||
بجيشٍ تظَلُّ الأرضُ منه كأنَّها
على سَعةِ الأرجاءِ في الضِّيقِ خَاتَمُ
كتائِبُ كالبَحرِ الخِضَمِّ جيادُها
إذا ما تهادَت مَوْجُهُ المتلاطِمُ
تُحيطُ بمنصورِ اللِّواءِ مُظَفَّرٌ
له النَّصرُ والتَّأييدُ عَبدٌ وخادِمُ
مليكٌ يلوذُ الدِّينُ من عَزَماتِه
برُكنٍ له الفَتحُ المُبِينُ دَعائمُ
مليكٌ لأبكارِ الأقاليمِ نحوَه
حَنِينٌ كذا تَهْوَى الكِرامَ الكرائِمُ
فكم وَطِئَتْ طَوعًا وكَرهًا جيادُه
معاقِلَ قُرطاها السُّها والنَّعائمُ||hamish||36||/hamish||
مليكٌ به للدِّينِ في كُلِّ ساعةٍ
بشائرُ للكُفَّارِ منها مآتِمُ
وسالت عليهم أرضُهم بمواكبٍ
لها النَّصرُ طَوعٌ والزَّمانُ مُسالمُ
أدارت بهم سُورًا منيعًا مُشَرَّفًا
بسُمرِ العوالي ما له الدَّهرَ هادِمُ
من التُّركِ أمَّا في المغاني فإنَّهم
شُموسٌ وأمَّا في الوغى فضَراغِمُ
وممَّا أنشده بَدرُ الدِّينِ يوسُفُ بنُ المهمندارِ في الفَخرِ بصنيعِ المماليكِ تحتَ قيادةِ السُّلطانِ رُكنِ الدِّينِ بِيبَرسَ، وانتصارِهم على جحافِلِ التَّتارِ والصَّليبيِّينَ المجتَمِعةِ
[37] يُنظَر: ((أعيان العصر وأعوان النصر)) للصفدي (5/640)، ((فوات الوفيات)) لابن شاكر الكتبي (1/239). : الكامل
لو عاينَتْ عيناك يومَ ِنِزالِنا
والخَيلُ تَطفَحُ في العِجاجِ الأكدَرِ
وسنا الأسنَّةِ والضَّياءَ مِن الظُّبى
كشَفا لأعيُنِنا قَتامَ العِثْيَرِ
[38] القَتامُ: هو الغُبارُ، والقُتْمةُ كُلُّ لونٍ فيه غَبرةٌ ويعلوه سوادٌ. يُنظَر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 1146). والعِثْيَرُ: الغبارُ والتُّرابُ. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (2/195). وقد اطلْخَمَّ الأمرُ واحتَدَم الوغى
ووهى الجَبانُ وساء ظَنُّ المُجترِي
[39] اطْلَخَمَّ: اشتدَّ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (12/369). احتدم: اشتدَّ كذلك. يُنظَر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/505). أصلُ الوغى: اختلافُ الأصواتِ في الحربِ، ثمَّ استُعمِل عَلَمًا على الحَربِ نفسِها. يُنظَر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/244). لرأيتَ سَدًّا من حديدٍ ما يُرى
فوقَ الفُراتِ وفَوقَه نارٌ تَرِي
[40] نارٌ تَرِي: أي تُخرِجُ لهيبَها، ومنه: أورى الزَّندَ: أخرج نارَه. يُنظَر: ((المعجم الوسيط)) (2/1028). ورأيتَ سَيْلَ الخَيلِ قد بَلَغ الزُّبَى
ومِن الفوارِسِ أبحُرًا في أبحُرِ
[41] الزُّبَى: جمعُ زابيةٍ، وهي المكانُ العالي كالرَّابيةِ والهَضبةِ لا يَصِلُ إليها الماءُ. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (13/184). طَفَرَتْ وقد منَع الفوارسُ مدَّها
تجري ولولا خيلُنا لم تَطْفِرِ
[42] طَفَرت: قَفَزت. يُنظَر: ((المحيط في اللغة)) للصاحب ابن عباد (2/317). حتَّى سبَقْنا أسهُمًا طاشَت لنا
منهم إلينا بالخُيولِ الضُّمَّرِ
لم يفتَحوا للرَّميِ منهم أعيُنًا
حتى كُحِلْنَ بكلِّ لَدْنٍ أسمَرِ
[43] اللَّدْنُ: اللَّيِّنُ من كُلِّ شيءٍ، وصفٌ للرُّمحِ. يُنظَر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (2/681). فتسابقوا هَرَبًا ولكِنْ ردَّهم
دونَ الهزيمةِ رُمحُ كلِّ غَضَنْفَرِ
ملؤوا الفَضاءَ فعنْ قليلٍ لم نَدَعْ
فوقَ البسيطةِ منهمُ من مُخبِرِ
سَدَّت علينا طُرقَنا قَتلاهمُ
حتَّى جنَحْنا للمَكانِ الأوعَرِ
والظَّاهِرُ السُّلطانُ في آثارِهم
يذري الرُّؤوسَ بكُلِّ عَضْبٍ أبتَرِ
[44] العَضْبُ: القاطِعُ. يُنظَر: ((مجمل اللغة)) لابن فارس (ص: 673). على أنَّ الفخرَ القَبَليَّ قد استمرَّ، خاصةً بَعدَ زوالِ الخَطَرِ المَغوليِّ والصَّليبيِّ عن ديارِ المُسلِمين، فهذا الشَّاعِرُ صَفِيُّ الدِّين الحِلِّيُّ يفخَرُ بقَومِه بَعدَ أن أخَذوا بالثَّأرِ لمقتَلِ أحَدِ أقارِبِه، فيقولُ
[45] يُنظَر: ((ديوان صفي الدين الحلي)) (ص: 20). : البسيط
سَلِي الرِّماحَ العَوالي عن معالينا
واستَشْهِدي بالبِيضِ هل خاب الرَّجَا فينا
وسائِلي العُرْبَ والأتراكَ ما فعَلَتْ
في أرضِ قَبرِ عُبيدِ اللهِ أيدينا
لمَّا سَعَينا فما رقَّت عزائِمُنا
عمَّا نرومُ ولا خابَت مساعينا
يا يومَ وقعةِ زوراءِ العِراقِ وقد
دِنَّا الأعادي كما كانوا يَدينونا
بِضُمَّرٍ ما ربَطْناها مُسَوَّمةٍ
إلَّا لنغزو بها مَن باتَ يغزونا
[46] الضُّمَّرُ: جمعُ ضامرٍ، وهو الجَمَلُ القليلُ لحمِ البَطنِ، يُعدُّ للحُروبِ والأسفارِ. يُنظَر: ((المخصص)) لابن سيده (2/166). وفتيةٍ إنْ نقُلْ أصغَوا مسامِعَهم
لقَولِنا أو دعَوْناهم أجابونا
قومٌ إذا استُخصِموا كانوا فراعِنةً
يومًا وإن حُكِّموا كانوا مَوازينا
تدرَّعوا العَقلَ جِلبابًا فإن حَمِيت
نارُ الوغى خِلْتَهم فيها مجانينا
إذا ادَّعوا جاءت الدُّنيا مُصَدِّقةً
وإن دَعَوا قالت الأيَّامُ آمينا
إنَّ الزَّرازيرَ لمَّا قام قائمُها
توهَّمَتْ أنَّها صارت شواهينا
[47] الزَّرْزورُ: طائِرٌ أكبَرُ حَجمًا من العُصفورِ، وله منقارٌ طويلٌ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (11/423). والشَّاهينُ: الصَّقرُ. يُنظَر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (4/189). ومن الفَخرِ الشَّخصيِّ قولُ ابنِ الشِّحنةِ
[48] يُنظَر: ((الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة)) للغزي (1/220)، ((شذرات الذهب في أخبار من ذهب)) لابن العماد الحنبلي (10/ 143). : الوافر
أُضارُ وَهَا مناقِبيَ الكِبارُ
وبي واللَّهِ للدُّنيا الفَخارُ
بفَضلٍ شائعٍ وعُلومِ شَرعٍ
لها في سائِرِ الدُّنيا انتِشارُ
وهمَّةِ لوذَعٍ شَهمٍ تَسامى
وفوقَ الفَرْقدَينِ لها قَرارُ
وفكرٍ صائبٍ في كلِّ فنٍّ
إلى تحقيقِه أبدًا يُصارُ
سموتُ لمنصبِ الإفتاءِ طِفلًا
وكان له إلى قُربي ابتِدارُ
وكم قرَّرْتُ في الكَشَّافِ درسًا
عظيمًا قبل ما دار العِذارُ