المبحَثُ الرَّابعُ: الرِّثاءُ
اقتضَت سُنَّةُ اللهِ تعالى في خلقِه أنَّ (كلَّ مَن عليها فانٍ)؛ العظيمُ والحقيرُ، والوزيرُ والخفيرُ، والغنيُّ والفقيرُ، خاصَّةً مع توالي المعارِكِ والفُتوحاتِ التي عاشَتْها الدَّولةُ الإسلاميَّةُ في فترةِ الخِلافةِ العُثمانيَّةِ وما يسقُطُ في تلك المعارِكِ من الشُّهَداءِ من القادةِ والجنودِ، ولكلٍّ مُحِبٌّ يبكي لفقيدِه، لا سيَّما إن كان الفقيدُ مؤثِّرًا يرثيه الشُّعَراءُ.
فمن ذلك قولُ المفتي أبي السُّعودِ العماديِّ في رثاءِ السُّلطانِ القانونيِّ
[201] يُنظَر: ((سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي)) لعبد الملك العصامي (4/105)، ((مجاني الأدب في حدائق العرب)) لرزق الله شيخو (5/244). : البسيط
أصَوْتُ صَاعِقَةٍ أمْ نَفْخَةُ الصُّورِ
فالأرضُ قَدْ قُلِبَتْ مِنْ نَقْرِ نَاقُورِ
أصَبَ منها الوَرى دَهيَاءُ دَاهِيةٍ
وذَاقَ منها البَرايا صَعقَةَ الصُّورِ
فَمِنْ كَئِيبٍ ومَلْهُوفٍ ومِنْ دَنِفٍ
عَانٍ بسِلْسِلةِ الأحْزانِ مَأسُورِ
[202] الدَّنِفُ: المريضُ الذي شارف على الموتِ. يُنظَر: ((كتاب الألفاظ)) لابن السكيت (ص: 81). العاني: الأسيرُ. يُنظَر: ((العين)) للخليل بن أحمد (2/252). فيا لَهُ مِن حَديثٍ مُوحِشٍ نُكْرٍ
يَعافُهُ السَّمْعُ مَكرُوهٍ ومَنفُورِ
تَاهَتْ عُقُولُ الورى مِن هَوْلِ وَحْشَتِهِ
فأصْبَحوا مِثلَ مَخمُورٍ ومَسحُورِ
تَقَطَّعَتْ قِطَعًا منه القُلُوبُ فلا
يَكادُ يُوجَدُ قَلبٌ غَيْرُ مَكسُورِ
أجفانُهمْ سُفُنٌ مَشحُونَةٌ بدَمٍ
تَجري ببَحْرٍ مِنَ العَبَراتِ مَسجُورِ
أتى بوجْهِ نَهارٍ لا ضِياءَ لَهُ
كأنَّها غُرَّةٌ شيِبَتْ بدَيْجُورِ
[203] الدَّيجور: الظُّلمةُ. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (10/336). أم ذاكَ نَعْيُ سُلَيمَانِ الزَّمانِ ومَن
مَضَتْ أوامِرُهُ في كُلِّ مَأمُورِ
حَقًّا ومَنْ مَلأَ الدُّنْيَا مَهَابَتُهُ
وسَخَّرَتْ كُلَّ جبارٍ وقَيْهورِ
مَدَارِ سَلْطَنةِ الدُّنيا ومَركَزِها
خَليفةِ اللهِ في الآفاقِ مَذْكورِ
مُعْلِي مَعَالِم دِينِ اللهِ مُظْهِرِهَا
في العالَمينَ بسَعْيٍ منه مَشْكورِ
وحُسْنِ رَأيٍ إلى الخَيْراتِ مُنصَرِفٍ
وصِدْقِ عَزمٍ على الألطافِ مَقْصُورِ
لآيَةِ العَدْلِ والإحسانِ مُمْتَثِلٍ
بغايةِ القِسْطِ والإلطافِ مَوْقُورِ
مُجاهِدٍ في سَبيلِ اللهِ مُجتَهدٍ
مُؤَيَّدٍ مِن جَنابِ القُدْسِ مَنصُورِ
بلَهذَمِيٍّ إلى الأعْداءِ مُنعَطِفٍ
ومَشْرَفيٍّ على الكُفَّارِ مَشْهُورِ
[204] المَشْرَفيُّ: سيفٌ يُجلَبُ من المشارفِ ويُنسَبُ إليها. يُنظَر: ((معجم ديوان الأدب)) للفارابي (1/286). وَرايَةٍ رُفِعَتْ للمَجْدِ خافِقةٍ
تَلوِي على عَلَمٍ بالنَّصْرِ مَنشُورِ
وعَسْكَرٍ مَلأَ الآفَاقَ مُحْتَشِدٍ
مِنْ كُلِّ قُطْرٍ مِنَ الأقطارِ مَحْشُورِ
لَهُ وَقائعُ في الأكنافِ شائِعةٌ
أخْبارُها زُبِرَتْ في كُلِّ طَامُورِ
[205] الطَّامورُ: الصَّحيفةُ. يُنظَر: ((المخصص)) لابن سيده (4/8). ومنه قَولُ ابنِ معتوقٍ في رثاءِ الأميرِ حُسَينِ علي خان
[206] يُنظَر: ((ديوان ابن معتوق)) (ص: 219). : الطويل
إلى اللهِ نشكو فادحاتِ النَّوائبِ
فقد فجعَتْنَا في أجلِّ المطالبِ
رَمَتْنا برُزءٍ لو رَمَت فيه يذبُلًا
لزُلزِل منه راسِخاتُ الجوانبِ
كأنَّ اللَّياليَ فيه في بعضِها لهم
قد اتَّصلَتْ أرحامُها بالنَّواصِبِ
فإنَّا وإن ساءت إلينا صروفُها
فقد حسَّنتْ أخلاقُنا بالتَّجارِبِ
فيا ليتَها فدَّت حُسَينًا بما تشا
من الوَفدِ من ماشٍ إليه وراكِبِ
لقد شفَعَتْ يومَ الصُّفوفِ بمِثلهِ
وثَنَّت بليثٍ من لُؤَيِّ بنِ غالِبِ
هِزَبرٌ ترى بيضَ العطايا بكفِّه
وحُمْرَ المواضي بَيْنَ حُمرِ المخالِبِ
صوارمُه في أوجُهِ الموتِ أعيُنٌ
وأقْوُسُهُ منها مكانَ الحواجبِ
فتًى كان كالتَّوريدِ في وَجنةِ العُلى
وكالعِقْدِ حُسنًا في نحورِ المراتبِ
فلا انطبَقَتْ عَينُ العُلا بعدَ فَقْدِهِ
ولا ابتَسَم الهِنديُّ في كفِّ ضاربِ
عزيزٌ ثوى تحتَ التُّراب بحُفرةٍ
فيا ليتها محفورةٌ في التَّرائِبِ
ومِن بديعِه قولُ ابنِ النَّقيبِ في رثاءِ أبيه، مُقحِمًا الطَّبيعةَ في الحُزنِ على أبيه؛ قال
[207] يُنظَر: ((خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر)) للمحبي (2/254)، ((نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة)) للمحبي (2/ 543). : الطويل
وقائلةٍ والدَّمعُ في صَحْنِ خَدِّها
يَفيضُ كهَطَّالٍ من السُّحْبِ قد هَمى
أرى شَجَرَ العُنَّابِ في البُقْعةِ التي
بها جدَثٌ ضَمَّ الشَّريفَ المُعَظَّمَا
لها خُضْرةُ المُرْتاحِ حتَّى كأنَّه
على فقْدِه ما إنْ أحسَّ تألَّمَا
ولو أنصَفَتْ كانت لعِظْمِ مُصابِه
ذَوَتْ واكْفهَرَّتْ حَسْرةً وتندُّمَا
[208] اكفَهَرَّت: عبست وتجهَّمت. يُنظَر: ((كتاب الألفاظ)) لابن السكيت (ص: 322). فقُلتُ لها ما كان ذاك تهاوُنًا
بما نالَنا من رُزْئِه وتهضَّمَا
ولكِنَّها لمَّا وَضَعْنَا بأصلهِ
غديرًا بأنْواعِ الفضائِلِ مُفْعَمَا
بدَتْ خُضرةٌ منه تَروقُ وحُزْنُه
كمِينٌ فلا تستَفْظعِيه توهُّمَا
وما احمرَّتِ الأثْمارُ إلَّا لأنَّنا
سقَيْناه دَمْعًا كان أكثرُه دَمَا
وظهَر كذلك رثاءُ النَّفسِ حينَ الإحساسِ بدُنُوِّ الموتِ، كقَولِ درويشِ بنِ طالو
[209] يُنظَر: ((الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة)) لنجم الدين الغزي (3/23). : الخفيف
مَرْحَبًا بالحِمَامِ ساعةَ يَطْرَا
ولو ابتزَّ مِن مدى العُمْرِ شَطْرَا
حبَّذا الارتحالُ من دارِ سوءٍ
نحن فيها في قبضةِ القَهرِ أَسْرى
وإذا ما ارتحَلْتُ يا صاحِ عنها
لا سقى اللهُ بعديَ الأرضَ قَطْرَا