المبحَثُ الخامِسُ: الشِّعرُ الدِّينيُّ
أكثَرَ الشُّعَراءُ من الشِّعرِ الدِّينيِّ الذي يدعو النَّاسَ إلى الزُّهدِ والوَرَعِ، والطَّمَعِ فيما يُدخِلُ الإنسانَ الجنةَ ويُبعِدُه عن النَّارِ، وتغَنَّوا بالمدائحِ النَّبَويَّةِ التي لم تخْلُ من التَّوسُّلِ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبأصحابِه وآلِ بيتِه y، خاصَّةً مع قُوَّةِ شَوكةِ الصُّوفيِّين في الدَّولةِ العُثمانيَّةِ التي كانت تُعَيِّنُ شيوخَ طُرُقِهم بنَفسِها عن طريقِ السَّلاطينِ؛ ممَّا كسَبَهم شُهرةً واسعةً وانتشارًا في أطرافِ الدَّولةِ ومَركَزِها.
فمن ذلك قولُ ابنِ النَّقيبِ
[210] يُنظَر: ((ديوان ابن النقيب)) (ص: 248). : الطويل
أَجَلُّ حديثٍ لا يُمَلُّ دوامُه
ويُثمرُ طيبًا للأنامِ اغتنامُهُ
حديثُ رسولِ اللهِ مَن هو خاتمُ
النَّــبيِّين مفتاحُ الهُدى وإمامُهُ
محمدٌ المختارُ أشرفُ مُرسَلٍ
عليه صلاةُ اللهِ ثمَّ سَلامُهُ
نبيٌّ غدا للخَلقِ خَيرَ مُشَفَّعٍ
يَحُفُّ بهم يومَ المعادِ اهتِمامُهُ
أضاء به أفْقُ الوجودِ وأشرَقَت
مطالعُهُ وانجابَ عنه ظَلامُهُ
له الشَّرَفُ الأعلى ومنه التِماسُهُ
وعنه اكتِسابُ الفَخرِ وهْوَ سَنامُهُ
رَوَتْ هديَه الأصحابُ ثمَّ رُواتُهم
وسُلْسِلَ عنهم ضَبطُه ونِظامُهُ
وقام بأعباءِ الرِّوايةِ بَعْدَهم
سَراةٌ لهم شأوٌ يَعِزُّ مَرامُهُ
[211] سَراةٌ: جمعُ سَرِيَّ، وهو الشَّريفُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (14/378). والشَّأوُ: الشَّأنُ والأَمَدُ والغايةُ. يُنظَر: ((المعجم الوسيط)) (1/470). جزى اللهُ خيرًا حافظًا بعدَ حافظٍ
وسُنِّي في دارِ الخُلودِ مقامُهُ
ولَلسُّنَّةُ الغَرَّاءُ أعذَبُ موردٍ
يحِقُّ لنا إجلالُه واحترامُهُ
أُنيطَت به بَعدَ الكتابِ وأُحكِمَتْ
معاقِدُ دينِ الحقِّ دامَ نِظامُهُ
ومنه قَولُ المفتي المُفَسِّرِ أبي السُّعودِ العِماديِّ
[212] يُنظَر: ((الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية)) لطاشكبري زاده (1/447). : الطويل
وللدَّهْرِ ثاراتٌ تمرُّ على الفَتى
نَعيمٌ وبُؤسٌ صِحَّةٌ وسَقَامُ
ومنَ يَكُ في الدُّنيا فلا يعتِبنَّهَا
فليس عليها مَعْتَبٌ ومَلامُ
أَجِدَّكَ ما الدُّنيا وماذا مَتاعُهَا
وماذا الذي تَبْغيهِ فهْوَ حُطامُ
تَشَكَّلَ فيها كُلُّ شَيءٍ بشَكْلِ ما
يُعانِدُهُ والنَّاسُ عنهُ نِيامُ
تَرى النَّقْصَ في زيِّ الكَمالِ كأنَّما
على رَأْسِ رَبَّاتِ الحِجالِ عِمامُ
[213] الحِجَال: جمعُ حَجَلة، وهي ساترٌ كالقُبَّةِ يُزَيَّنُ للعَروسِ. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (4/88). وربَّاتُ الحِجالِ: النِّساءُ. يُنظَر: (تاج العروس)) للزبيدي (2/460). فدَعْها ونُعْماها هَنيئًا لأهلِها
ولا تَكُ فيها راعيًا وسَوامُ
تَعافُ العَرانينُ السِّماطَ عَلى الخِوى
إذا ما تَصَدَّى للطَّعامِ طَغامُ
[214] العرانينُ: السَّادةُ والأشرافُ. يُنظَر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (2/104). والسِّماط: ما يُوضَعُ عليه الطَّعامُ في المآدِبِ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (19/386). والخوى: الجوعُ. يُنظَر: ((المخصص)) لابن سيده (1/453). والطَّغامُ: أراذِلُ النَّاسِ وأوغادُهم. يُنظَر: ((العين)) للخليل بن أحمد (4/389). على أَنَّها لا يُستَطاعُ مَنالُها
لما ليس فيه عُرْوةٌ وعِصامُ
ولوْ أنتَ تَسْعى إِثْرَها أَلْفَ حِجَّةٍ
وقَدْ جاوَزَ الطُّبْيَيْنِ مِنكَ حِزامُ
رَجَعْتَ وقَدْ ضَلَّتْ مَساعيكَ كُلُّها
بخُفَّيْ حُنَينٍ لا تَزالُ تُلامُ
هَبْ انَّ مَقاليدَ الأُمورِ مَلَكْتَها
ودانَتْ لَكَ الدُّنيا وأنتَ هُمامُ
ومُتِّعْتَ باللَّذَّاتِ دَهْرًا بغِبطةٍ
أليس بحَتْمٍ بَعْدَ ذاكَ حِمامُ
فبَيْنَ البَرايا والخُلودِ تَبايُنٌ
وبَيْنَ الْمَنايا والنُّفوسِ لِزامُ
قَضَيَّةٌ انْقادَ الأنامُ لحُكْمِها
وما حادَ عنها سَيِّدٌ وغُلامُ
ضروريَّةٌ تَقضي العُقولُ بصِدقِها
سَلْ إن كانَ فيها مِرْيةٌ وخِصامُ
سَلِ الأَرْضَ عَن حالِ الملوكِ التي خَلَتْ
لَهم فوقَ فرقِ الفَرْقدَينِ مُقامُ
بأبوابهِم للوافِدينَ تراكُمٌ
بأعتابِهم للعاكِفين زِحامُ
تُجِبْكَ عن اسرارِ السُّيوفِ التي جَرَتْ
عليهم جَوابًا ليس فيه كَلامُ
بأنَّ المَنايا أقْصَدَتْهُم نِبالُها
وما طاشَ عن مَرْمى لَهُنَّ سِهامُ
وسِيقوا مساقَ الغابِرينَ إلى الرَّدى
وأقفرَ منهم مَنْزِلٌ ومُقامُ
وحَلُّوا مَحلًّا غَيْرَ ما يَعهَدونَه
فليس لهم حتَّى القيامِ قيامُ
ألَمَّ بهم رَيبُ المنونِ فغالَهُم
فهم بَيْنَ أطباقِ الرَّغامِ رَغامُ
[215] الرَّغامُ: التُّرابُ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (5/1934). ومن المدائِحِ النَّبَويَّةِ قَولُ ابنِ معتوقٍ -وفيه ما فيه!-
[216] يُنظَر: ((ديوان ابن معتوق)) (ص: 8). : الكامل
لم ألْقَ قبلَ العِشقِ نارًا أحرَقَت
بَشَرًا وحُبُّ المصطفى بجَنانِهِ
خَيْرِ النَّبيِّينَ الذي نَطَقَتْ بهِ الـ
تَّوراةُ والإنجيلُ قبلَ أوانِهِ
كَهْفِ الْوَرى غَيْثِ الصَّريخِ مَعاذُهُ
وكَفيلِ نَجْدَتِهِ وحِصْنِ أَمانِهِ
الْمُنْطِقِ الصَّخْرِ الأَصَمِّ بكَفِّهِ
والمُخْرِسِ البُلَغاءِ في تِبيانِهِ
لُطْفِ الإلهِ وسرِّ حِكمتهِ الذي
قد ضاقَ صدرُ الغَيثِ عن كِتمانِهِ
قِرْنٍ بهِ التَّوْحيدُ أَصْبَحَ ضاحِكًا
والشِّرْكُ مُنْتَحِبًا على أَوْثانِهِ
نَسَخَتْ شَرائِعُ دينِهِ الصُّحُفَ الأُلى
في مُحْكَمِ الآياتِ مِنْ فُرْقانِهِ
جِبْريلُ مِنْ أَعْوانِهِ ميكالُ مِنْ
أخدانِهِ عِزْرِيلُ من أعوانِهِ
نورٌ بَدا فأبانَ عن فلَقِ الْهُدى
وجلا الضَّلالةَ في سَنَا بُرهانِهِ
شَهِدَتْ حَواميمُ الْكِتابِ بفَضْلِهِ
وكفى بهِ فَخرًا على أقرانِهِ
سَلْ عنهُ ياسينًا وطهَ والضُّحى
إِنْ كُنْتَ لَم تَعْلَمْ حَقيقَةَ شانِهِ
وسلِ المشاعرَ والحَطِيمَ وزَمْزمًا
عن فَخرِ هاشِمهِ وعن عِمرانِهِ
يسمو الذِّراعُ بأخمَصَيهِ ويَهبِطُ
الإكليلُ يَستجدي على تيجانِهِ
لو تَسْتَجيرُ الشَّمْسُ فيه مِنَ الدُّجى
لغدا الدُّجى والفَجرُ من أكفانِهِ
أو شاءَ مَنْعَ البَدرِ في أفلاكِهِ
عن سَيرِهِ لَم يَسْرِ في حُسْبانِهِ
أو رامَ من أُفُقِ المجرَّةِ مَسلَكًا
لَجَرَتْ بحَلْبَتِه خُيولُ رِهانِهِ
لا تَنْفُذُ الأقْدارُ في الأقطارِ في
شيءٍ بغيرِ الإذنِ من سُلْطانِهِ
اللهُ سَخَّرَها له فجُموحُها
سَلِسُ القِيادِ لدَيهِ طَوعُ عِنانِهِ
فحَسْبُك من الإطراءِ أنَّه جعَل القَدَرَ موقوفًا على إذنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! ولا رَيبَ أنَّ ذلك شِرْكٌ.
على أنَّ شُعَراءَ الصُّوفيِّينَ لم يُهمِلوا الحديثَ عن عقيدتِهم في التَّصَوُّفِ ووَحدةِ الوُجودِ والقَولِ بالحُلولِ والاتِّحادِ، فهذا عبدُ الغَنيِّ النَّابُلُسيُّ شاعِرُ المتصَوِّفةِ وشَيخُهم الذي يعتَمِدون عليه، يقولُ
[217] يُنظَر: ((ديوان عبد الغني النابلسي)) (ص: 449). : الكامل
أَجَهِلْتَ قَدْرَك أيُّها الإنسانُ
أنت الجَميعُ وبعضُك الأكوانُ
والنُّورُ والظُّلُماتُ أنت حقيقةٌ
وسِوى كمالِك كُلُّه نُقصانُ
يكفيك أنَّ الحقَّ سَمعكَ قد غدا
ويدًا ورِجلًا فيك وهْوَ عِيانُ
والكَونُ أجمَعُهُ لأجلِكَ خادِمٌ
يسعى وأنت المالِكُ السُّلطانُ
فإذا انتَبَهْتَ لبِسْتَ ثوبَ سعادةٍ
وإذا غفَلْتَ فثوبُك الخُسرانُ