المَطْلَبُ الأوَّلُ: تعريفُ التنازعِ
هو أن يتعَلَّقَ عاملانِ من الفِعْلِ وشِبْهِه فصاعدًا متَّفقانِ لغَيرِ توكيدٍ، أو مختِلفانِ؛ بما تأخَّرَ غيرَ سَببيٍّ مرفوعٍ.
شَرحُ التَّعريفِ:التنازعُ: أن يتعَلَّقَ عامِلانِ -كفِعلينِ، أو اسمينِ عامِلَينِ، أو اسمٍ وفِعلٍ- أو أكثَرَ -كثلاثةِ أفعالٍ، أو اسمينِ وفِعلٍ، أو نحوِ ذلك- بما بَعْدَهما، ويحتاجان إليه. تَقولُ: قام وقعد زيدٌ؛ فهذان فعلانِ احتاجا إلى فاعِلٍ، وقد تأخَّرَ عنهما الفاعِلُ، وهما يحتاجانِ إليه، ومِثْلُ قَولِه تعالى حِكايةً عن ذي القَرنينِ:
آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [الكهف: 96] ؛ فإنَّ "آتوني" فِعلٌ وفاعِلٌ ومفعولٌ، ويحتاجُ إلى مفعول ثانٍ، وكذا "أفرِغْ" فإنه فعل وفاعِل، ويحتاج إلى مفعولٍ، وقد تقدَّما على مفعولٍ يحتاجانِ إليه، وهو قَولُه:
قِطْرًا.
وقد يكونُ العاملانِ اسمًا وفعلًا. تَقولُ: أنا أُكْرِمُ ومُقَدِّرٌ زَيدًا، أو اسمينِ: تَقولُ: أنا مُفَضِّلٌ ومُكْرِمٌ زيدًا. ومنه قَولُ الشَّاعِرِ:
عُهِدتَ مُغيثًا مُغنيًا مَنْ أَجَرْتَهُ
فلم أتَّخِذْ إلَّا فِناءَك مَوْئِلَا
وهذه الأمثِلةُ مُتَّفِقةٌ في العَمَلِ؛ فكُلُّها إمَّا تطلُبُ فاعِلًا، أو تطلُبُ كُلُّها مفعولًا، فإن اختلفت في العَمَلِ؛ بأن طلب أحدُهما فاعِلًا والآخَرُ مفعولًا أو مجرورًا، كانا مختلفَيْنِ. تَقولُ: أكرمتُ وأكرَمَني زيدًا؛ فالأولُ يحتاجُ مفعولًا، والثاني يحتاجُ فاعِلًا.
واحترز بقَولِنا: (غيرَ توكيدٍ)؛ فإنَّ المؤكِّدَ في حُكمِ السَّاقِطِ؛ ففي قَولِ الشَّاعِر مَثَلًا:
فأينَ إلى أينَ النَّجاءُ ببَغْلتي
أتاك أتاك اللَّاحِقون احبِسِ احبِسِ
فإنَّ "أتاك" الثَّانيةَ لا مُتعَلِّقَ لها، وليست من بابِ التنازُعِ؛ فإنها للتوكيدِ.
واحترز بقَولِنا: (ما تأخَّر) عن إذا ما تقدَّم المتعلَّقُ به؛ كقَولِك: أكرمتُ زيدًا ويُكرِمُني، أو: زيدًا أكرَمْتُ ويُكرِمُني؛ فإنَّه ليس من باب التنازعِ لتقَدُّمِ المتعَلِّقِ على العامِلِ.
وقَولُنا: (غيرَ سَببيٍّ مرفوعٍ) أخرج نحو: "زيدٌ منطلقٌ مُسرِعٌ أخوه"؛ لأنَّك لو قصَدْتَ فيه التنازعَ أسنَدْتَ أحَدَ العامِلَينِ إلى السَّبَبِيِّ، وهو الأخُ، وأسنَدْتَ الآخَرَ إلى ضميرِه، فيلزم عَدَمُ ارتباطِه بالمُبتَدَأِ؛ لأنَّه لم يرفع ضميرَه ولا ما التبس بضميرِه، ولا سبيلَ إلى إجازةِ ذلك. وأمَّا قَولُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ:
قضى كلُّ ذي دَيْنٍ فوَفَّى غَريمَه
وعَزَّةُ مَمْطولٌ مُعَنًّى غريمُها
فليس من التنازعِ، وإنما "غريمُها" مبتدأٌ مؤخَّرٌ، والتقديرُ: وعَزَّةُ غريمُها ممطولٌ مُعَنًّى.
والمعتَبَرُ في التنازع أن يتعَلَّقَ العاملانِ به ويقتَضِيانِه؛ فإنْ لم يقتَضِياه معًا فليس من التنازعِ، كقَولِ امرئِ القَيسِ:
وَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ
كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ
فإنَّ "قليل" لا يتعَلَّقُ بـ"لم أطلب"؛ فإنَّ المعنى أنَّه لو كان يسعى لأدنى معيشةٍ لكفاه قليلٌ من المالِ، ولم يكُنْ لِيَطلُبَ المُلْكَ.