تمهيدٌ: القَسَمُ
القَسَمُ نوعانِ:نوعٌ صريحٌ، وهو الذي يظهَرُ فيه لفظُ القَسَمِ صريحًا. تَقولُ: واللهِ، أحلِفُ بالله، لَعَمْرُ اللهِ، أُقسِمُ باللهِ، ورَبِّ الكعبةِ...
ونوعٌ غيرُ صريحٍ، وهو الذي يُفهَمُ من مجْمَلِه القَسَمُ، وقد تأتي أدِلَّةٌ تدُلُّ عليه. تَقولُ: شهِدَ اللهُ، عليَّ عهْدُ اللهِ، في ذمَّتي ميثاقٌ، نشَدْتُك اللهَ، عَمْرَكَ اللهَ، ومنه قَولُه تعالى:
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [البقرة: 102] ، وقَولُه تعالى:
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون: 1، 2]. ففي الآيةِ الأُولى أتى بلامِ القَسَمِ، وفي الآيةِ الثانيةِ كَسَر همزة إنَّ، وأردف بقولِه:
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فدلَّ على أنها أيمانٌ.
ومنه قَولُ الشَّاعِرِ:
إنِّي عَلِمتُ على ما كان من خُلُقِي
لقد أراد هواني اليومَ داودُ
وقَول غيرِه:
قَعِيدَكِ ربَّ النَّاسِ يا أمَّ مالكٍ
ألم تعلَمِينا نِعْمَ مأوى المُعصبِ
كما يُستخدَمُ "قَسَمًا، يمينًا، قضاءَ الله، يقينًا، آلِيًا، عزمتُ"، ومنه قولُ زهيرِ:
يمينًا لنِعْمَ السَّيِّدان وُجِدْتُما
على كلِّ حالٍ من سحيلٍ ومبرمِ
والقَسَمُ قد يكونُ بجُملةٍ اسميَّة. تَقولُ: لَعَمْرِي، وايمُنُ اللهِ، وهما مُبتَدَآن محذوفا الخَبَر وجوبًا، ومِثْلُ: في ذمَّتي؛ فإنه محذوف المُبتَدَأِ جوازًا، وأصلُه في ذِمَّتي قَسَمٌ.
وقد يكونُ بجُملةٍ فِعليَّة، مِثلُ: أقسَمْتُ، وأحلِفُ، حلفتُ، أُقسم، آليتُ، نشَدْتُ، عَمَرْتُ، عمَّرتُ ...
على أنَّ (نشدتُ وعَمَرت وعمَّرت) لا يأتي بَعْدَهما إلَّا طلبٌ. تَقولُ: نشَدْتُك اللهَ لتفعَلَنَّ كذا، أو لا تفعَلْ كذا، وعمَّرتك اللهَ لتفعلَنَّ كذا أو لا تفعَلْ كذا.
وإذا وقع الطَّلَبُ بعد القسَمِ أو
اليمينِ، لم يكن قَسَمًا، بل كان سؤالًا واستعطافًا؛ إذ
اليمينُ تأكيدٌ لجُملةٍ خَبَرية بَعْدَه، وهنا لا جُملةَ خَبَريةٌ تحتاج إلى التوكيدِ، فلم يكُنْ من جنسِ القَسَمِ حقيقةً قولُك: باللهِ لتقومَنَّ، باللهِ هل قام زيد؟ باللهِ لا تذهَبْ إلى البيتِ الآنَ. ولا يجوزُ في السؤالِ والاستعطافِ أن يدخُلَ على القَسَمِ غيرُ الباءِ؛ فلا يقالُ: تالله لتقومَنَّ، ولا: واللهِ هل قام زيدٌ؟
وقد تحذَفُ تلك الباءُ في الضرورةِ ويُنصَبُ المقسَمُ به. تَقولُ: اللهَ لا تفعَلْ كذا، ومنه قَولُ الشَّاعِرِ:
أقولُ لبوَّابٍ على بابِ دارِها
أميرَك بَلِّغْهَا السلامَ وأبشرِ
وقد يحذف الفِعْلُ الدالُّ على الطَّلَبِ قبل المُقسَمِ به، كقَولِ الشَّاعِرِ:
قالت له: باللهِ يا ذا البردينِ
لما غنثت نفَسًا أو اثنينِ
أي: نشَدْتُك باللهَ، أو عمَرْتُكَ باللهِ، أو سألتُك باللهِ...
ولا يصِحُّ إثباتُ فِعلِ القَسَمِ مع غيرِ الباءِ؛ لأنَّها الأصلُ في حُروفِ القسَمِ، ولا يَتعدَّى فِعلُ القسَمِ بغيرِها، فيجوزُ مع الباءِ الحذفُ والذِّكْرُ. تَقولُ: باللهِ لتفعلَنَّ، وسألتُك باللهِ لتفعلَنَّ.
أمَّا مع الواوِ أو التاءِ أو اللامِ، فلا يجوزُ ذِكْرُ الفِعْلِ أبدًا. تَقولُ: واللهِ ما فعَلْتُ، واللهِ لأفعلَنَّ، تالله لقد ذهبتُ، تالله لأذهبنَّ، لَلَّهِ ما فعَلْتُ. قال تعالى:
وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23]، وقال تعالى:
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف: 91] ، وقال الشَّاعِر:
للَّهِ يَبْقَى على الأَيامِ ذو حِيَد
بِمُشْمَخِرٍّ به الظَّيَّانُ والآسُ
فلا يقال: سألتُك تاللهِ، ولا سألتُك واللهِ.
فإذا حُذِفَ الفِعْلُ وحَرفُ القَسَمِ نُصِبَ المقسَمُ به، تَقولُ: اللهَ لأفعلَنَّ، اللهَ لقد أشرَقَتِ الشَّمسُ، يمينَ الله لأضربنَّك. ومنه قولُ امرئِ القَيسِ:
فقلتُ: يمينَ اللهِ أبرحُ قاعدًا
ولو قطَّعوا رأسي لديكِ وأوصالي
ويكونُ المقسَمُ به حينئذٍ مفعولًا به بنزعِ حَرفِ الجَرِّ؛ فالأصل: أحلِفُ باللهِ، ثم أُسقِطَ الحرفُ فصار: أحلِفُ اللهَ، بالنَّصْب على إسقاطِ الحَرفِ.
لكن يختَلِفُ هذا في حقِّ اسمِ الجلالةِ "الله" إذا أُقسِمَ به، وحُذِفَ الفِعْلُ والحرفُ؛ فيجوز فيه الجرُّ. تَقولُ: اللهِ لأفعَلَنَّ.
اللهِ: اسمُ الجلالةِ المُقسَمُ به اسمٌ مَجرورٌ بحرفِ القسَمِ المحذوفِ، وعَلامةُ جَرِّه الكَسْرةُ.
اللام: لامُ القَسَمِ حَرفٌ مَبْنيٌّ على الفَتحِ، أفعلَنَّ: فِعلٌ مُضارعٌ مَبْنيٌّ على الفَتحِ لاتِّصالِه بنونِ التوكيدِ الثقيلةِ.
ويجوزُ فيه أن يُعوَّضَ عن الحَرفِ المحذوفِ بـ"آ" أو "ها" موصولةً به أمْ منقطعةً، ممدودةً أم لا. تَقولُ: هاللهِ، بغيرِ مدٍ، وهآلله؛ بالمدِّ، وها أللهِ؛ بقطع همزة اسمِ الجلالةِ، وهأللهِ. تَقولُ: آللهِ لأفعلَنَّ، لا ها اللهِ، ها اللهِ لأذهبنَّ، هاللهِ لأقومنَّ. وتلك الحروفُ لا تَدخُلُ على غيرِ اسمِ الجلالةِ، ويلزَمُ معها الجرَّ.