الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثَّالثُ: السِّباقُ بعِوَضٍ في الخُفِّ والحافِرِ والنَّصلِ إذا كان مِنَ المُتَسابقَينِ فقَط


اختَلَف العُلَماءُ في حُكمِ السِّباقِ بعِوَضٍ في الخُفِّ والحافِرِ والنَّصلِ إذا كان العِوَضُ مِنَ المُتَسابقَينِ فقَط [963] وصورةُ المَسألةِ: أن يَكونَ السَّبَقُ فيها مَدفوعًا مِنَ الطَّرَفينِ، على أن يَأخُذَه مَن سَبَق مِنهما. على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَجوزُ أن يَكونَ العِوَضُ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُتَسابقَينِ، على أن يَأخُذَه مَن سَبَقَ مِنهما، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [964] ((البناية)) للعيني (12/254)، ((الدر المختار)) للحصكفي (6/403). ، والمالِكيَّةِ [965]  ((التاج والإكليل)) للمواق (4/611). ويُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (5/140). ، والشَّافِعيَّةِ [966] ((روضة الطالبين)) للنووي (10/354)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (4/230). ، والحَنابِلةِ [967] ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (2/279) ((مطالب أولي النهى)) للرحيبانى (3/706). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك [968] قال القاضي عِياضٌ: (أمَّا المُتَّفَقُ على مَنعِه: فأن يُخرِجَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ المُتَسابقَينِ سَبَقًا، فمَن سَبَق مِنهما أخَذ سَبَقَ صاحِبِه، وأمسَكَ مَتاعَه). ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) (6/284). وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (أمَّا المُتَّفَقُ على مَنعِه -أي: مِنَ المُسابَقاتِ التي يَكونُ فيها رِهانٌ- فهو أن يُخرِجَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ المُتَسابقَينِ سَبَقًا، ويَشتَرِطُ أنَّه إن سَبَقَ أمسَكَ سَبَقَه، وأخَذَ سَبَقَ صاحِبه، فهذا قِمارٌ، فلا يَجوزُ باتِّفاقٍ). ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (3/701). وقال أبو عَبدِ اللهِ القُرطُبيُّ: (اتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّه إن لَم يَكُنْ بَينَهما مُحَلِّلٌ، واشتَرَطَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ المُتَسابقَينِ أنَّه إن سَبَقَ أخَذ سَبَقَه وسَبَقَ صاحِبِه؛ أنَّه قِمارٌ ولا يَجوزُ). ((تفسير القرطبي)) (9/147). وقال ابنُ حَجَرٍ: (ليَخرُجَ العَقدُ عن صورةِ القِمارِ، وهو أن يُخرِجَ كُلٌّ مِنهما سَبَقًا، فمَن غَلَبَ أخَذَ السَّبَقَينِ، فاتَّفقوا على مَنعِه). ((فتح الباري)) (6/73). وقال العَينيُّ: (لَو شُرِط المالُ مِنَ الجانِبَينِ حَرُم بالإجماعِ). ((عمدة القاري)) (14/161). ؛ وذلك لأنَّه صورةُ قِمارٍ؛ إذ لا يَخلو كُلٌّ مِنهما عن أن يَغنَمَ أو يَغرَمَ [969] يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (10/354) ((مطالب أولي النهى)) للرحيبانى (3/706). .
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ أن يَكونَ العِوَضُ في الخُفِّ والحافِرِ والنَّصلِ مِن كُلٍّ واحِدٍ مِنَ المُتَسابقَينِ، على أن يَأخُذَه مَن سَبَقَ مِنهما، وهو اختيارُ ابنِ تَيميَّةَ [970] قال ابنُ تيميَّةَ: (أحاديثُ يَحتَجُّ بها بَعضُ الفُقَهاءِ على أشياءَ، وهيَ باطِلةٌ:... ومِنها: حَديثُ مُحَلِّلِ السِّباقِ إذا أدخَلَ فرَسًا بَينَ فرَسَينِ، فإنَّ هذا مَعروفٌ عن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ مِن قَولِه: هَكَذا رَواه الثِّقاتُ مِن أصحابِ الزُّهريِّ عنِ الزُّهريِّ عن سَعيدٍ، وغَلِط سُفيانُ بنُ حُسَينٍ، فرَواه عنِ الزُّهريِّ عن سَعيدٍ عن أبي هُرَيرةَ مَرفوعًا... ومُحَلِّلُ السِّباقِ لا أصْلَ له في الشَّريعةِ، ولَم يَأمُرِ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أُمَّتَه بمُحَلِّلِ السِّباقِ، وقد رُوي عن أبي عُبَيدةَ بنِ الجَرَّاحِ وغَيرِه: أنَّهم كانوا يَتَسابَقونَ بجُعلٍ، ولا يُدخِلونَ بَينَهم مُحَلِّلًا، والذينَ قالوا هذا مِنَ الفُقَهاءِ ظَنُّوا أنَّه يَكونُ قِمارًا، ثُمَّ مِنهم مَن قال: بالمُحَلِّلِ يَخرُجُ عن شَبَهِ القِمارِ، وليس الأمرُ كما قالوه، بَل بالمُحَلِّلِ مِن... المُخاطَرة، وفي المُحَلِّلِ ظُلمٌ؛ لأنَّه إذا سَبَقَ أخَذ، وإذا سُبِقَ لَم يُعطِ، وغَيرُه إذا سَبَقَ أُعطيَ، فدُخولُ المُحَلِّلِ ظُلمٌ لا تَأتي به الشَّريعةُ). ((مجموع الفتاوى)) (18/63). ، وابنِ القَيِّمِ [971] قال ابنُ القَيِّمِ: (إذا خَرَجَ المُتَسابقانِ في النِّضالِ مَعًا جازَ في أصَحِّ القَولَينِ، والمَشهورُ مِن مَذهَبِ مالكٍ أنَّه لا يَجوزُ، وعَلى القَولِ بجَوازِه فأصَحُّ القَولَينِ أنَّه لا يُحتاجُ إلى مُحَلِّلٍ، كما هو مُقتَضى المَنقولِ عنِ الصِّدِّيقِ، وأبي عُبَيدةَ بنِ الجَرَّاحِ، واختيارُ شَيخِنا وغَيرِه). ((إعلام الموقعين)) (4/22). ، وابنِ بازٍ [972] سُئِلَ ابنُ بازٍ عن سِباقِ الخَيلِ: هَل يَجوزُ أن تَكونَ مِن قِبَلِ اثنَينِ، يَعني يَضَعُ هذا مالًا، وهذا مالًا؟ فأجابَ: (نَعَم، يَقولُ: أتَسابَقُ أنا وإيَّاكَ، ويَحُطُّ كُلٌّ مِنهما رَهنًا ألفًا أو ألفَينِ، والسَّابقُ يَأخُذُها، هذا الصَّوابُ، لا بَأسَ). ((الموقع الرسمي لابن باز)). ، وابنِ عُثَيمين [973] قال ابنُ عُثَيمين: (العِوَضُ مِنَ المُتَسابقَينِ يَكونُ قِمارًا مُباحًا، وهذا وَجهُ الاستِثناءِ، وأمَّا اشتِراطُ المُحَلِّلِ فسَيَأتي ذِكرُ الخِلافِ فيه، والصَّوابُ أنَّه لا يُشتَرَطُ). ((تعليق ابن عثيمين على الكافي)) (6/285). ويُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (10/99). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا سَبَقَ [974] السَّبَقُ -بفَتحِ الباءِ-: هو المالُ الذي يُعطى لمَن سَبَق. يُنظر: ((الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي)) للأزهري (ص: 269)، ((معالم السنن)) للخطابي (2/255)، (النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (5/279). إلَّا في خُفٍّ أو حافِرٍ أو نَصلٍ)) [975] أخرجه أبو داود (2574) واللفظ له، والترمذي (1700)، والنسائي (3585). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4690)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 160)، وابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/746)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2574)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1394). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أطلَقَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم جَوازَ أخذِ السَّبَقِ في الخُفِّ والحافِرِ والنَّصلِ ولَم يُقَيِّدْه بمُحَلِّلٍ، ولَم يَمنَعْ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُتَسابقَينِ، فلَو كان المُحَلِّلُ شَرطًا لَكان ذِكرُه أهَمَّ مِن ذِكرِ مَحالِّ السِّباقِ إن كان السِّباقُ بدونِه حَرامًا، وهو قِمارٌ عِندَ المُشتَرِطينَ، فكَيف يُطلِقُ رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم جَوازَ أخذِ السَّبَقِ في هذه الأُمورِ، ويَكونُ أغلَبُ صُوَرِه مَشروطًا بالمُحَلِّلِ، وأكلُ المالِ بدونِه حَرامٌ، ولا يُبَيِّنُه بنَصٍّ ولا بإيماءٍ ولا تَنبيهٍ، ولا يُنقَلُ عنه ولا عن أصحابِه [976] يُنظر: ((الفروسية)) لابن القيم (ص: 94). ؟!
2- عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((لا جَلَبَ ولا جَنَبَ)) [977] أخرجه أبو داود (2581)، والترمذي (1123)، والنسائي (3335). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (3267)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1123)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2581). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أبطَلَ في عَقدِ السِّباقِ الجَلَبَ والجَنَبَ، ولَم يُبطِلِ اشتِراكَهما في بَذلِ السَّبَقِ، مَعَ أنَّ بَيانَ حُكمِه أهَمُّ مِن بَيانِ الجَلَبِ والجَنَبِ [978] يُنظر: ((الفروسية)) لابن القيم (ص: 97). .
ثانيًا: أنَّ المُراهَنةَ هيَ مُفاعَلةٌ، وهيَ لا تَكونُ إلَّا مِنَ الطَّرَفينِ، هذا أصلُها والغالِبُ عليها [979] يُنظر: ((الفروسية)) لابن القيم (ص: 95). .
ثالثًا: أنَّ العُقودَ كُلَّها مَبناها على العَدلِ بَينَ المُتَعاقِدَينِ، وإذا كان مَبنى العُقودِ على العَدلِ مِنَ الجانِبَينِ، فكَيف يوجَبُ في عَقدٍ مِنَ العُقودِ أن يَبذُلَ أحَدُ المُتَعاقِدينِ وَحدَه دونَ الآخَرِ، وكِلاهما في العَمَلِ والرَّغبةِ سَواءٌ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهما راغِبٌ في السَّبَقِ والكَسبِ، فما الذي جَوَّز البَذلَ لأحَدِهما دونَ الآخَرِ [980] يُنظر: ((الفروسية)) لابن القيم (ص: 104). ؟!
رابعًا: أنَّ السِّباقَ فيه مَصلَحةٌ تَربو على مَفسَدَتِه، والمَصلحةُ هيَ التَّمَرُّنُ على آلاتِ القِتالِ، وهذه مَصلحةٌ كَبيرةٌ وعَظيمةٌ تَنغَمِرُ فيها المَفسَدةُ التي تَحصُلُ بالمَيسِرِ [981] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (10/100). .

انظر أيضا: