الموسوعة الفقهية

المبحث الأول: حكمُ العِوَضِ في المُسابَقاتِ العِلميَّةِ


يَجوزُ أخذُ العِوَضِ في المُسابَقاتِ العِلميَّةِ إذا كانت مِمَّا يُنتَفَعُ به في الدِّينِ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1082] ((الفتاوى الهندية)) (5/324)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/403). ، ووَجهٌ للحَنابِلةِ [1083] واختاره محمَّدُ بنُ مُفلِحٍ. يُنظر: ((الفروع)) لمحمد بن مفلح (7/190)، ((الإنصاف)) للمرداوي (6/67). ، وهو اختيارُ ابنِ تَيميَّةَ [1084] قال ابنُ تيميَّةَ: (المُغالَبةُ الجائِزةُ تَحِلُّ بالعِوَضِ إذا كانت مِمَّا يُنتَفَعُ به في الدِّينِ، كما في مُراهَنةِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وهو أحَدُ الوجهَينِ في المَذهَبِ، قُلتُ: وظاهرُ ذلك جَوازُ الرِّهانِ في العِلمِ وِفاقًا للحَنَفيَّةِ؛ لقيامِ الدِّينِ بالجِهادِ والعِلمِ). ((الفتاوى الكبرى)) (5/415). ويُنظر: ((الاختيارات الفقهية)) لابن تيمية (ص 160). ، وابنِ القَيِّمِ [1085] قال ابنُ القَيِّمِ: (المُسابَقةُ على حِفظِ القُرآنِ والحَديثِ والفِقهِ وغَيرِه مِنَ العُلومِ النَّافِعةِ، والإصابةِ في المَسائِلِ، هَل تَجوزُ بعِوَضٍ؟ مَنَعَه أصحابُ مالِكٍ وأحمَدَ والشَّافِعيِّ، وجَوَّزه أصحابُ أبي حَنيفةَ، وشَيخُنا، وحَكاه ابنُ عَبدِ البَرِّ عنِ الشَّافِعيِّ، وهو أَولى مِنَ الشِّباكِ والصِّراعِ والسِّباحةِ، فمَن جَوَّز المُسابَقةَ عليها بعِوَضٍ فالمُسابَقةُ على العِلمِ أَولى بالجَوازِ). ((الفروسية)) (ص: 257). وقال أيضًا: (إذا كان الشَّارِعُ قد أباحَ الرِّهانَ في الرَّميِ، والمُسابَقةَ بالخَيلِ والإبِلِ؛ لِما في ذلك مِنَ التَّحريضِ على تَعَلُّمِ الفُروسيَّةِ وإعدادِ القوَّةِ للجِهادِ، فجَوازُ ذلك -أي المُسابَقةِ والمُبادَرةِ إلى العِلمِ والحُجَّةِ التي بها تُفتَحُ القُلوبُ ويَعِزُّ الإسلامُ وتَظهَرُ أعلامُه- أولى وأحرى. وإلى هذا ذَهَبَ أصحابُ أبي حَنيفةَ، وشَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ). ((الفروسية)) (ص: 23). ، وبه أفتَتِ اللَّجنةُ الدَّائِمةُ في السُّعوديَّةِ [1086] جاءَ في فتوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ: (لا يَجوزُ أخذُ الجَوائِزِ على المُسابَقاتِ إلَّا إذا كانت على وَفقِ ما حَدَّدَه الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم، بأن تَكونَ على الرِّمايةِ أو رُكوبِ الخَيلِ أوِ الإبِلِ؛ لأنَّ هذه مِن وسائِلِ الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، ويُلحَقُ بها المُسابَقاتُ في المَسائِلِ العِلميَّةِ، التي هيَ مِنَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ؛ لأنَّ طَلَبَ العِلمِ مِنَ الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، ويُشتَرَطُ في الجائِزةِ أن تَكونَ مِنَ المُباحِ). ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (15/179). ، وابنُ عُثَيمين [1087] قال ابنُ عُثَيمين: (إذا كانت هذه العُلومُ شَرعيَّةً، أو مِمَّا يُعينُ على الجِهادِ، كالصِّناعاتِ الحَربيَّةِ، فالمَذهَبُ: لا تَجوزُ المُسابَقةُ عليها؛ للحَديثِ، والرَّاجِحُ الجَواز، وهو اختيارُ شَيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ رَحِمَه اللهُ تعالى؛ وذلك أنَّ الدِّينَ الإسلاميَّ قامَ بالسَّيفِ والعِلمِ والدَّعوةِ، فإذا جازَتِ المُراهَنةُ على السَّيفِ ونَحوِه، جازَتِ المُراهَنةُ على ما قامَ به مِنَ العِلمِ). ((الشرح الممتع)) (10/104). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن نِيَارِ بنِ مُكْرَمٍ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 4] فكانت فارِسُ يَومَ نَزَلَت هذه الآيةُ قاهرينَ للرُّومِ، وكان المُسلمونَ يُحِبُّونَ ظُهورَ الرُّومِ عليهم؛ لأنَّهم وإيَّاهم أهلُ كِتابٍ، وفي ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم: 4-5] ، فكانت قُرَيشٌ تُحِبُّ ظُهورَ فارِسَ؛ لأنَّهم وإيَّاهم لَيسوا بأهلِ كِتابٍ ولا إيمانٍ ببَعثٍ، فلَمَّا أنزَلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ خَرَجَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضيَ اللهُ عنه يَصيحُ في نَواحي مَكَّةَ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ قال ناسٌ مِن قُرَيشٍ لأبي بَكرٍ: فذلك بَيننا وبَينَكُم، زَعَمَ صاحِبُكُم أنَّ الرُّومَ ستَغلِبُ فارِسًا في بضعِ سِنينَ، أفلا نُراهنُك على ذلك؟ قال: بَلى، وذلك قَبلَ تَحريمِ الرِّهانِ، فارتَهَنَ أبو بَكرٍ والمُشرِكونَ وتَواضَعوا الرِّهانَ، وقالوا لأبي بَكرٍ: كَم تَجعَلُ؟ البِضعُ ثَلاثُ سِنينَ إلى تِسعِ سِنينَ، فسَمِّ بَينَنا وبَينَك وسَطًا تَنتَهي إليه، قال: فسَمَّوا بَينَهم سِتَّ سِنينَ، قال: فمَضَتِ السِّتُّ سِنينَ قَبلَ أن يَظهَروا، فأخَذَ المُشرِكونَ رَهنَ أبي بَكرٍ، فلَمَّا دَخَلَتِ السَّنةُ السَّابعةُ ظَهَرَتِ الرُّومُ على فارِسَ، فعابَ المُسلِمونَ على أبي بَكرٍ تَسميةَ سِتِّ سِنينَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: فِي بِضْعِ سِنِينَ قال: وأسلَمَ عِندَ ذلك ناسٌ كَثيرٌ)) [1088] أخرجه الترمذي (3194) واللفظ له، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (7/442)، والدارقطني في ((الأفراد)) كما في ((أطراف الغرائب والأفراد)) (1/77). قال الترمذي: صحيحٌ حسنٌ غريبٌ، وحَسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3194)، وحسَّن إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مشكل الآثار)) (7/442). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ على المُراهَنةِ مِنَ الجانِبَينِ بعِوَضٍ على ما فيه ظُهورُ الدِّينِ، ثُمَّ إنَّ في هذه القِصَّةِ الظُّهورَ بالعِلمِ، فكانتِ المُراهَنةُ عليها نَظيرَ المُراهنةِ على الرَّميِ والرُّكوبِ؛ لِما فيها مِنَ العَونِ على إظهارِ الدِّينِ وتَأييدِه، فهيَ مُراهَنةٌ على حَقٍّ، وأكلُ المالِ بها أكلٌ له بالحَقِّ [1089] يُنظر: ((الفروسية)) لابن القيم (ص: 203). .
ثانيًا: أنَّ الدِّينَ الإسلاميَّ قامَ بالسَّيفِ والعِلمِ والدَّعوةِ، فإذا جازَتِ المُراهَنةُ على السَّيفِ ونَحوِه جازَتِ المُراهَنةُ على ما قامَ به مِنَ العِلمِ [1090] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (10/104). ويُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (6/403). .
ثالثًا: أنَّ الشَّارِعَ أباحَ الرِّهانَ في الرَّميِ، والمُسابَقةَ بالخَيلِ والإبِلِ؛ لِما في ذلك مِنَ التَّحريضِ على تَعَلُّمِ الفُروسيَّةِ وإعدادِ القوَّةِ للجِهادِ، فجَوازُ المُسابَقةِ والمُبادَرةِ إلى العِلمِ والحُجَّةِ التي بها تُفتَحُ القُلوبُ ويَعِزُّ الإسلامُ وتَظهَرُ أعلامُه أَولى وأَحرى [1091] يُنظر: ((الفروسية)) لابن القيم (ص: 23). .

انظر أيضا: