الموسوعة الفقهية

المَطلبُ الثَّالثَ عَشَرَ: القِصاصُ في كَسرِ العِظامِ


اختَلف العُلماءُ في القِصاصِ في كَسرِ العِظامِ، على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَجري القِصاصُ في كَسرِ العِظامِ إجمالًا، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ [809] ((الهداية)) للمرغيناني (4/449)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/111). ، والشَّافِعيَّةِ [810] ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/28). ويُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (4/29). ، والحَنابلةِ [811] ((الإنصاف)) للمرداوي (10/15). ويُنظر: ((العدة)) للمقدسي (ص: 546). ، وحُكيَ عليه الإجماعُ [812] قال العِمرانيُّ: (كَسرُ العَظمِ لا يَثبُتُ فيه القِصاصُ بإجماعِ الأُمَّةِ). ((البيان)) (11/376). وقال ابنُ نُجَيمٍ: (ولا قِصاصَ في العَظمِ بالإجماعِ). ((البحر الرائق)) (8/376). ؛ وذلك لأنَّه لا يُمكِنُ المُماثَلةُ فيها، ولا تُؤمَنُ الزِّيادةُ عليها، ولا يُمكِنُ أن يُستَوفى أكثَرُ مِنَ الحَقِّ، فسَقَطَ القِصاصُ، كَما لو قَتَل مَن لا يُكافِئُه، أو قَطَع صحيحَ اليَدِ بشَلَّاءَ أو ناقِصةِ الأصابعِ [813] يُنظر: ((العدة)) للمقدسي (ص 546). .
القَولُ الثَّاني: يَجري القِصاصُ في كَسرِ العِظامِ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [814]نصَّ المالِكيَّةُ على أنَّ كُلَّ كَسرٍ يُستطاعُ فيه القِصاصُ فإنَّه يُقتَصُّ منه وإن كان عَظمًا، واستَثْنَوا فيما إذا خُشِيَ إتلافُ النَّفسِ، كعَظمِ الصَّدرِ، والفَخِذِ، والعُنُقِ، فهذه لا قِصاصَ فيها عِندَهم. ((مواهب الجليل)) للحطاب (8/316)، ((منح الجليل)) لعليش (9/49). ويُنظر: ((التهذيب في اختصار المدونة)) لابن البراذعي (4/554). ، واختيارُ ابنِ عُثَيمين [815] قال ابنُ عُثَيمين: (القَولُ الرَّاجِحُ: الأوَّلُ: أنَّه يُقتَصُّ مِنَ الأنفِ مِن حَيثُ كان مَوضِعَ الجاني، لا سيَّما في وقتِنا الحاضِرِ؛ فالطِّبُّ الآنَ مُتَقدِّمٌ، ولا يُمكِنُ أن يَكونَ فيه حَيفٌ؛ لأنَّ الذينَ قالوا: لا يُقتَصُّ مِنَ العَظمِ، قالوا: يُخشى أن يَكونَ فيه حَيفٌ، فيَتَقَطَّعَ العَظمُ ولا يَكونَ الاقتِصاصُ تامًّا، نَقولُ: الآنَ الحَمدُ للهِ في وقتِنا الحاضِرِ الطِّبُّ مُتَقدِّمٌ، يُمكِنُ أن يُقتَصَّ بالشَّعرةِ). ((تفسير سورة المائدة)) (1/444). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قَوله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة: 45] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه: وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ دَليلٌ على إجراءِ القِصاصِ في العَظمِ؛ لأنَّ السِّنَّ عَظمٌ [816] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (8/523)، ((فتح الباري)) لابن حجر (12/224). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ الرُّبَيِّعَ -وهيَ ابنةُ النَّضْرِ- كَسَرَت ثَنيَّةَ جاريةٍ، فطَلَبوا الأَرْشَ، وطَلَبوا العَفوَ، فأبَوا، فأتَوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَرَهم بالقِصاصِ، فقال أنَسُ بنُ النَّضْرِ: أتُكسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يا رَسولَ اللهِ؟! لا والذي بَعَثَك بالحَقِّ لا تُكسَرُ ثَنيَّتُها! فقال: يا أنَسُ، كِتابُ اللهِ القِصاصُ! فرَضيَ القَومُ وعَفَوا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ مِن عِبادِ اللهِ مَن لو أقسَمَ على اللهِ لأبَرَّه)) [817] أخرجه البخاري (2703) واللفظ له، ومسلم (1675). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه: ((كِتابُ اللهِ القِصاصُ)) أنَّه لمَّا جازَ القِصاصُ في السِّنِّ إذا كُسِرَت، وهى عَظمٌ، فكذلك سائِرُ العِظامِ [818] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (8/523). .
ثالثًا: أنَّه يمكِنُ المماثَلةُ في القِصاصِ في العِظامِ، ولا يُخشى فيه التَّجاوُزُ والحَيفُ، وخاصَّةً مع تقَدُّمِ الطِّبِّ في هذا العَصرِ [819] يُنظر: ((تفسير سورة المائدة)) لابن عثيمين (1/444). .

انظر أيضا: