الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الأوَّلُ: الأصلُ في الدِّيةِ


اختَلف العُلماءُ في أصلِ الدِّيةِ على ثَلاثةِ أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: أصلُ الدِّيةِ مِن ثَلاثةِ أصنافٍ؛ الإبلِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [945] ((مختصر خليل)) (ص: 232)، ((منح الجليل)) لعليش (9/90). ، وقَولُ أبي حَنيفةَ [946] وزاد الحَنَفيَّةُ الحُلَلَ. ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/127)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/373، 374). ؛ وذلك لأنَّ التَّقديرَ إنَّما يَستَقيمُ بشَيءٍ مَعلومِ الماليَّةِ، وما سِوى هذه الثَّلاثةِ -الإبِلِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ- مَجهولةُ الماليَّةِ؛ ولهذا لا يُقدَّرُ بها ضَمانٌ [947] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (4/461). .
القَولُ الثَّاني: أصلُ الدِّيةِ مِن خَمسةِ أصنافٍ؛ الإبِلِ، والبَقَرِ، والغَنَمِ، والذَّهَبِ والوَرِقِ، وهو مَذهَبُ الحَنابلةِ [948] ((الإنصاف)) للمرداوي (10/45)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/18). ، وقَولُ أبي يوسُفَ ومُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ مِنَ الحَنَفيَّةِ [949] ((الهداية)) للمرغيناني (4/461)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/374). ، واختارَه الشِّنقيطيُّ [950] ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/108، 109، 110). ؛ وذلك لأنَّ هذه الأشياءَ الخَمسةَ تَنضَبطُ، وغَيرُها لا يَنضَبطُ [951] ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/18). .
القَولُ الثَّالثُ: أصلُ الدِّيةِ مِنَ الإبِلِ فقَط، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [952] ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/53)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/315، 316). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ [953] ((الإنصاف)) للمرداوي (10/46). ، وهو قَولُ بَعضِ السَّلفِ [954] وهو قَولُ طاوُسٍ، وابنِ المُنذِرِ. يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/367). ، واختارَه ابنُ حَزمٍ [955] قال ابنُ حَزمٍ: (فصَحَّ أنَّ الدِّيةَ مِائةٌ مِنَ الإبِلِ، وهذا حُكمٌ مِنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في ديةِ حَضَريٍّ ادَّعى على حَضَريِّينَ، لا في بَدَويٍّ؛ فبَطَل أن تَكونَ الدِّيةُ مِن غَيرِ الإبِلِ. وأيضًا فقد صَحَّ أنَّ الإجماعَ مُتَيَقَّنٌ على أنَّ الدِّيةَ تَكونُ مِنَ الإبِلِ. واختَلفوا في: هَل تَكونُ مِن غَيرِ ذلك؟ والشَّريعةُ لا يَحِلُّ أخذُها باختِلافٍ لا نَصَّ فيه). ((المحلى)) (10/283). ، وابنُ عُثَيمين [956] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (14/119). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قَولُه تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء: 92] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى أوجَبَ في الآيةِ المَذكورةِ دِيَةً، وبَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّها مِنَ الإبِلِ [957] ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/53). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن سَهلِ بنِ أبي حَثمةَ: ((أنَّه أخبَرَه هو ورِجالٌ مِن كُبَراءِ قَومِه: أنَّ عَبدَ اللَّهِ بنَ سَهلٍ ومُحَيِّصةَ خَرَجا إلى خَيبَرَ؛ مِن جَهدٍ أصابَهم، فأُخبِرَ مُحَيِّصةُ أنَّ عَبدَ اللَّهِ قُتِل وطُرِح في فقيرٍ أو عَينٍ، فأتى يَهودَ، فقال: أنتُم واللَّهِ قَتَلتُموه، قالوا: ما قَتَلناه واللَّهِ، ثُمَّ أقبَل حتَّى قَدِمَ على قَومِه، فذَكَرَ لهم، وأقبَل هو وأخوه حُوَيِّصةُ -وهو أكبَرُ مِنه- وعَبدُ الرَّحمَنِ بنُ سَهلٍ، فذَهَبَ ليَتَكَلَّمَ، وهو الذي كان بخَيبَرَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمُحَيِّصةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ، يُريدُ السِّنَّ، فتَكَلَّمَ حُوَيِّصةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصةُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إمَّا أن يَدُوا صاحِبَكُم، وإمَّا أن يُؤذِنوا بحَربٍ، فكَتَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهم به، فكُتِبَ: ما قَتَلناه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحُوَيِّصةَ ومُحَيِّصةَ وعَبدِ الرَّحمَنِ: أتَحلِفونَ، وتَستَحِقُّونَ دَمَ صاحِبِكُم؟ قالوا: لا، قال: أفتَحلِفُ لكُم يَهودُ؟ قالوا: ليسوا بمُسلِمينَ، فوداه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عِندِه مِائةَ ناقةٍ، حتَّى أُدخِلَتِ الدَّارَ، قال سَهلٌ: فركَضَتني مِنها ناقةٌ)) [958] أخرجه البخاري (7192) واللفظ له، ومسلم (1669). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
هذا حُكمٌ مِنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في ديةِ حَضَريٍّ ادَّعى على حَضَريِّينَ، لا في بَدَويٍّ؛ فبَطَل أن تَكونَ الدِّيةُ مِن غَيرِ الإبِلِ [959] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (10/283). .
ثالثًا: لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَرَّق بَينَ دِيةِ العَمدِ والخَطَأِ، فغَلَّظ بَعضَها، وخَفَّف بَعضَها، ولا يَتَحَقَّقُ هذا في غَيرِ الإبِلِ [960] ((المغني)) لابن قدامة (8/368). .
رابعًا: لأنَّه بَدَلُ مُتلَفٍ حَقًّا لآدَميٍّ، فكان مُتَعَيِّنًا، كَعِوَضِ الأموالِ [961] ((المغني)) لابن قدامة (8/368). .
خامِسًا: لأنَّ جَميعَ الأعضاءِ التي فيها مَقاديرُ تُقدَّرُ بالإبِلِ؛ ففي الموضِحةِ خَمسٌ مِنَ الإبِلِ، وفي السِّنِّ خَمسٌ مِنَ الإبِلِ، وفي الأُصبُعِ عَشرٌ مِنَ الإبِلِ، فالشَّارِعُ دائمًا يُقَدِّرُ أجزاءَ الدِّيةِ بالإبِلِ؛ فدَلَّ هذا على أنَّه هو الأصلُ [962] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (14/118). .

انظر أيضا: