المطلب الثَّالث: حُكمُ الأنينِ وتمنِّي الموت
الفرع الأول: حُكمُ الأنينِلا يُكْرَه الأنينُ للمريضِ؛ نصَّ عليه الشَّافعيَّة
[7195] ((المجموع)) للنووي (5/128)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/329). ، وهو روايةٌ عن
أحمَدَ [7196] ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص 271). ، واختاره
ابنُ باز [7197] ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (13/428). الأدلَّة: أولًا: من السُّنَّةعن
القاسِمِ بنِ محمَّدٍ، قال: قالت
عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
((وا رأساهُ! فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ذاكِ لو كان وأنا حَيٌّ؛ فأستغْفِرَ لكِ وأدْعُوَ لَكِ. فقالت عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عنه: واثُكْلِيَاه [7198] وَاثُكْلِيَاه: بعد الألف هاء للنُّدْبة، وأصل الثُّكْل فَقْدُ الولد، أو مَن يَعِزُّ على الفاقِدِ، وليست حقيقتُه هنا مرادةً، بل هو كلامٌ كان يجري على ألسِنَتِهم عند حُصولِ المصيبةِ أو توقُّعِها. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/125). ! واللهِ إنِّي لأظُنُّكَ تُحِبُّ موتي، ولو كان ذاكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَومِكَ مُعَرِّسًا [7199] مُعَرِّسًا: يقال أعرَسَ وعَرَّسَ: إذا بنى على زوجَتِه، ثم استُعْمِلَ في كلِّ جماعٍ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/125). ببعضِ أزواجِك، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: بلْ أنا وا رَأساهُ! لقَدْ هَمَمْتُ- أو أردْتُ- أن أُرْسِلَ إلى أبي بكْرٍ وابنِهِ، وأعهَدَ؛ أن يقولَ القائِلونَ- أو يتمنَّى المُتَمَنُّون- ثم قُلْتُ: يأبى اللهُ ويدفَعُ المؤمنونَ، أو يدفَعُ اللهُ ويأبى المؤمنونَ )) [7200] أخرجه البخاري (5666) واللفظ له، ومسلم (2387). وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم شكا وَجَعَه وأَلَمَه
[7201] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/385). ثانيًا: لأنَّه لم يَثْبُت فيه نهيٌ مقصودٌ
[7202] ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/295). ثالثًا: أنَّ الأنينَ مِن ألَم العِلَّةِ والتأوُّه قد يَغْلبانِ الإنسانَ، ولا يُطيقُ كَفَّهُما عنه، واللهُ تعالى لا يكلِّفُ نفسًا إلَّا وُسْعَها، وليس فى وُسْعِ ابنِ آدَمَ تَرْكُ الاستراحةِ إلى الأنينِ عند الوَجَعِ يشتدُّ به، والألمِ يَنْزِلُ به
[7203] ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (9/385). الفرع الثَّاني: حُكمُ تمنِّي الموتيُكرَه تمنِّي الموتِ لِضُرٍّ نَزَلَ به، أمَّا إذا كان لِخَوْفِ فتنةٍ في الدِّينِ فلا يُكْرَه، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعة: الحَنفيَّة
[7204] ((حاشية ابن عابدين)) (6/419)، ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 415). ، والمالِكيَّة
[7205] ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (2/166). ويُنظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد (18/39)، ((الذخيرة)) للقرافي (2/445). والشَّافعيَّة
[7206] ((المجموع)) للنووي (5/106)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/357). ، والحَنابِلَة
[7207] ((الفروع)) لابن مفلح (3/243)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/80). الأدلَّة: أولًا: من الكتابِقولُ مريم:
يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم: 23] وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ مريمَ عليها السلامُ تمنَّتِ الموتَ من جهةِ الدِّينِ؛ لوجهين:
الأوَّل: أنَّها خافَتْ أن يُظَنَّ بها الشرُّ في دِينِها وتُعيَّرَ؛ فيفتِنَها ذلك.
الثَّاني: لئلَّا يَقَعَ قَوْمٌ بِسَبَبِها في البُهتانِ، والنِّسبَةِ إلى الزِّنَا
[7208] ((تفسير القرطبي)) (11/92). ثانيًا: من السُّنَّة1- عن
أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
((لا يتمَنَّيَنَّ أحدُكم الموتَ مِنْ ضُرٍّ أصابَه، فإن كان لا بُدَّ فاعِلًا، فليقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي ما كانَتِ الحياةُ خيرًا لي، وتوفَّنِي إذا كانت الوَفاةُ خيرًا لي )) [7209] أخرجه البخاري (5671) واللفظ له، ومسلم (2680). وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ قولَه:
((لا يتمَنَّيَنَّ أحدُكم الموتَ مِنْ ضُرٍّ أصابَه)) فيه النهيُ عن تمنِّي الموتِ للضَّرَرِ النَّازِل.
وقوله:
((وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي)) فيه إباحةُ تمنِّي الموتِ؛ خوفًا من أن يُفْتَنَ في دِينِه
[7210] (شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (10/111)، ((شرح النووي على مسلم)) (17/7). 2- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:
((لن يُدخِلَ أحدًا عَمَلُه الجَنَّةَ، قالوا: ولا أنت يا رسولَ اللهِ؟ قال: لا، ولا أنا، إلَّا أن يتغَمَّدَنيَ اللهُ بفضلٍ ورحمةٍ، فسَدِّدوا وقارِبُوا، ولا يتمنَيَنَّ أحدُكم الموتَ: إمَّا مُحسِنًا؛ فلعلَّه أن يزدادَ خيرًا، وإمَّا مُسيئًا؛ فلعَلَّه أن يَسْتَعْتِبَ )) [7211] أخرجه البخاري (5673)، ومسلم (2816). 3- عنِ معاذِ بن جبل رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم:
((أتاني الليلةَ رَبِّي تبارك وتعالى في أحسَنِ صورةٍ.... وقال: يا محمَّدُ إذا صَلَّيْتَ فَقُل: اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ فِعْلَ الخيراتِ، وتَرْكَ المُنْكَراتِ، وحُبَّ المساكينِ، وأن تَغْفِرَ لي وترحَمَني، وإذا أردْتَ فتنةً في قومٍ فتَوَفَّني غيرَ مَفتونٍ )) [7212] أخرجه الترمذي (3235)، والبزار (2668)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (2/541)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (20/109) (216). قال البخاري، والترمذي ((سنن الترمذي)) (3235): حسن صحيح، وصححه ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (4/73)، والألباني في ((صحيح الترمذي)) (3235). لكن قال ابن خزيمة ((التوحيد)) (2/543): ليس يثبت، وقال ابن رجب ((اختيار الأولى)) (33): في إسناده اختلاف وله طرق متعددة. وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ قولَه:
((وإذا أردْتَ فتنةً في قومٍ فتَوَفَّني غيرَ مَفتونٍ)) فيه أنَّه إذا خَشِيَ أن يُصابَ فى دِينِه فله أن يدعوَ بالمَوْتِ قبل أن يُصابَ بذلِكَ
[7213] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/389). ثالثًا: من الآثارعن
سعيدِ بنِ المُسَيِّب، قال: (لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه مِن مِنًى، أناخَ بالأَبْطَحِ، ثم كوَّمَ كَوْمَةً بَطحاءَ
[7214] كوَّمَ كَومَةً بَطْحَاء: (كوَّم) أي: جَمع، (كَوْمةً) بفتح الكاف وضَمِّها: أي قِطْعَة (بَطْحَاء) أي صغار الحَصَى؛ أي: جَمَعَها وجعَلَ لها رَأْسًا. يُنظر: ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (4/231). ، ثم طَرَحَ عليها رداءَه واستلقى، ثم مدَّ يَدَه إلى السَّماءِ، فقال: اللَّهُمَّ كَبِرَت سِنِّي، وضَعُفَتْ قُوَّتِي، وانتشَرَتْ رَعِيَّتي، فاقبِضْني إليك غيرَ مُضيِّعٍ ولا مُفرِّطٍ... قال
مالِكٌ: قال يحيى بنُ سعيدٍ: قال
سعيدُ بنُ المسيِّب: فما انسَلَخَ ذو الحِجَّةِ حتى قُتِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه)
[7215] أخرجه مالك (2/824)، وابن سعد في ((الطبقات)) (3/255)، والفاكهي في ((أخبار مكة)) (1831)، وابن أبي الدنيا في ((مجابو الدَّعوة)) (24) صحَّحه ابنُ عبد البر في ((التمهيد)) (23/92)، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (4/250 ): إسناده رجالُه رجال الصحيح.