المطلب الأوَّل: صدقة المرأة من مالها
يجوزُ للمرأةِ الرَّشيدةِ التصرُّفُ بمالِها، سواءٌ كانت بِكرًا أو ثيِّبًا، متزوِّجةً أو لا، وسواءٌ كان تصرُّفُها في الثُّلُثِ أو أكثَر، وهذا مذهَبُ الجُمهورِ: الحنفيَّة
((البحر الرائق)) لابن نجيم (7/14)، ويُنظر: ((مختصر اختلاف العلماء)) للطحاوي (2/341). ، والشافعيَّة
قال الشربينيُّ: (إنما جمَعَ المصنِّف بين الانفكاكِ وإعطاءِ المال؛ ليحتَرِزَ عن مذهب مالك في المرأةِ؛ فإنَّه قال لا يُسلَّمُ المالُ إلى المرأةِ حتى تتزوَّج، فإذا تزوَّجَتْ يُدفَعُ إليها بإذن الزَّوج، ولا يُنفذ تبرُّعها بما زاد على الثُّلُث ما لم تصِرْ عجوزًا، فقال له الشافعي: أرأيتَ لو تصدَّقَتْ بثُلُثِ مالِها ثم بثُلُثِ الثُّلُثَين ثم بثُلُثِ الباقي؛ هل يجوزُ التصرُّفُ الثاني والثالثُ، إن جوَّزْتَ سلطتَها على جميعِ المال بالتبرُّع، وإن منعْتَ منعْتَ الحرَّ البالِغَ العاقِلَ مِن مالِه، ولا وجه له). ((مغني المحتاج)) (2/170)، وينظر: ((الحاوي الكبير)) (6/353). ، والحَنابِلَة
((الفروع)) لابن مفلح (7/ 18). قال إسحاق بن منصور الكوسج: (قلت: هل للزَّوجِ أن يمنَعَ امرأتَه أن تَصَدَّقَ مِن مالها ما شاءت؟ قال أحمد: ليس له أن يمنَعَها بعد الحَوْلِ، إلَّا أن تكونَ مُسرِفةً، مثل ما يمنَعُ الحُر إذا كان مُفسدًا لِمالِه. قال إسحاق: كما قال. ولكن ينبغي لها ألَّا تهَبَ ولا تتصدَّق إلَّا أن تستأذِنَه). ((مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه)) (8/4322)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (4/348). الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ1- قال اللهُ تعالى:
حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء: 6] وجه الدَّلالة:أنَّ الآيةَ ظاهرةٌ في فكِّ الحَجرِ عنهم، وإطلاقِهم في التصرُّفِ إذا بَلَغُوا سنَّ النِّكاحِ، وهو البلوغُ، وكانوا راشِدينَ، فلم يجُزْ أن يُضمَّ إلى هَذَينِ الشَّرطين ثالثٌ؛ لِمَا فيه من إسقاطِ فائدةِ الشَّرْطِ والغايةِ
((الحاوي الكبير)) (6/353)، ((المغني)) لابن قدامة (4/349). 2- قال الله تعالى
مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء: 12] وجه الدَّلالة:أنَّه لم يفرِّقْ بين البِكرِ والثيِّبِ في الوَصِيَّةِ، ولا بينَ ذاتِ زَوجٍ وغَيرِها
((مختصر اختلاف العلماء)) (2/341، 342). ثانيًا: من السُّنَّة1- عن أمِّ الفَضلِ بنتِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنها:
((أنَّ ناسًا تمارَوا عندها يومَ عَرَفةَ، في صيامِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال بعضُهم: هو صائِمٌ، وقال بعضُهم: ليس بصائمٍ، فأرسلتْ إليه بقَدَحِ لَبَنٍ، وهو واقفٌ على بَعيرِه بعَرَفةَ، فشَرِبَه )) رواه البخاري (1988)، ومسلم (1123) وجه الدَّلالة:أنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يسألْ؛ هل هو مِن مالِها، ويَخرُجُ مِنَ الثُّلُث، أو بإذنِ الزَّوجِ أم لا؟ ولو اختَلَف الحُكمُ لسألَ
((شرح النووي على مسلم)) (8/3). 2- عن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت:
((دخلتْ عليَّ بَريرةُ، فقالت: إنَّ أهلي كاتَبوني على تِسعِ أواقٍ في تِسعِ سِنينَ، في كلِّ سنةٍ أوقيَّةٌ فأعينِيني، فقلتُ لها: إنْ شاء أهلُكِ أن أعُدَّها لهم عَدَّةً واحدةً وأُعتِقَك، ويكونَ الوَلاءُ لي، فَعَلْتُ، فذكَرَتْ ذلك لأهلِها فأبَوا إلَّا أن يكونَ الوَلاءُ لهم، فأتَتْني فذكرَتْ ذلك، قالت: فانتهَرْتُها، فقالت: لا ها اللهِ إذًا، قالت: فسَمِعَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فسألني، فأخبَرتُه، فقال: اشتَرِيها وأعتِقِيها، واشتَرِطي لهم الولاءَ؛ فإنَّ الولاءَ لِمَن أعتَقَ )) رواه البخاري (2563)، ومسلم (1504) واللفظ له وجه الدَّلالة: أنَّ قَولَ
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: (إن شاءَ أهلُكِ أن أعُدَّها لهم عدَّةً واحدةً وأُعتِقَكِ، ويكونَ الوَلاءُ لي، فعلتُ) يدلُّ على جوازِ تصرُّفِ المرأةِ في مالِها بالشِّراءِ والإعتاقِ وغَيرِها، إذا كانت رشيدةً، مِن غَيرِ شرْطِ إذنِ الزَّوجِ أو الثُّلُث
((شرح النووي على مسلم)) (10/143). 3- عن زينبِ امرأةِ عبدِ اللهِ قالت:
((كنتُ في المسجِدِ، فرأيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: تصدَّقْنَ ولو مِن حُليِّكنَّ )) رواه البخاري (1466)، ومسلم (1000) وجه الدَّلالة:أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أمَرَهنَّ بالصَّدَقةِ، ولم يشترطْ في ذلك إذنَ الزَّوجِ، أو أن يكونَ دون الثُّلُث.
4- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما:
((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم خرج يومَ أضحى، أو فِطرٍ، فصلَّى ركعتينِ، لم يُصلِّ قَبلَها ولا بعدها، ثم أتى النِّساءَ ومعه بلالٌ، فأمرهنَّ بالصَّدَقة، فجعلتِ المرأةُ تُلقي خُرْصَها، وتُلقِي سِخابَها الخُرصُ- بالضمِّ والكسر: الحَلقةُ مِنَ الذَّهب والفضَّة. والسِّخابُ: قلادةٌ ليس فيها من اللؤلؤِ والجَوهرِ شَيءٌ، وقيل: هي كلُّ قِلادةٍ كانت ذاتَ جَوهرٍ أو لم تكنْ، والجمعُ سُخُبٌ. ((الصحاح)) للجوهري (3/1036)، (1/146) ((لسان العرب)) لابن منظور (1/461). ))
رواه مسلم (884) وجه الدَّلالة:أنهُنَّ تصدَّقْنَ، فقَبِلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صدقَتَهنَّ، ولم يسأَلْ ولم يستفصِلْ، ولم يذكُرْ لهنَّ أيَّ شَرطٍ
((الحاوي الكبير)) (6/354)، ((المغني)) لابن قدامة (4/349). 5- عن كُريبٍ مولى ابنِ عبَّاسٍ:
((أنَّ ميمونةَ بنتَ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنها أخبَرَتْه أنَّها أعتقَتْ وليدةً الوليدة: الطِّفلةُ الأنثى، والجمع: الولائِدُ.. وقد تُطلَقُ الوليدة على الجاريةِ والأمَةِ، وإن كانت كبيرةً. ((النهاية)) لابن الأثير (5/225). ولم تستأذِنِ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلمَّا كان يومُها الذي يَدُورُ عليها فيه، قالت: أشعَرْتَ يا رسولَ اللهِ أنِّي أعتقتُ وليدتي؟ قال: أوَ فَعَلْتِ؟ قالت: نعم. قال: أمَا إنَّكِ لو أعطَيتِها أخوالَكِ كان أعظمَ لأَجرِكِ )) رواه البخاري (2592)، ومسلم (999) وجه الدَّلالة:أنَّ
ميمونةَ رَضِيَ اللهُ عنها كانت رشيدةً، وقد أعتقَتْ قبل أن تستأمِرَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلم يَستدرِكْ ذلك عليها، بل أرشَدَها إلى ما هو الأَوْلى، فلو كان لا يَنفُذُ لها تصَرُّفٌ في مالِها، لأبطَلَه
((فتح الباري)) لابن حجر (5/219). ثالثًا: أنَّ مَن وجَبَ دفْعُ مالِه إليه لِرُشدٍ، جاز له التصرُّفُ فيه مِن غَيرِ إذنٍ، كالغُلامِ
((الحاوي الكبير)) (6/354). رابعًا: أنَّ المرأةَ مِن أهلِ التصرُّفِ، ولا حقَّ لزَوجِها في مالها، فلم يملِكِ الحَجْرَ عليها في التصرُّفِ بجَميعِه، كأختِها
((المغني)) لابن قدامة (4/349). خامسًا: ليس هناك دليلٌ يدلُّ على تحديدِ المَنعِ بالثُّلُث؛ فالتَّحديدُ بذلك تحكُّمٌ ليس فيه توقيفٌ، ولا عليه دليلٌ
((المغني)) لابن قدامة (4/349). سادسًا: أنَّ الجاريةَ قَبلَ التزويجِ أشحُّ؛ لِمَا تَحتاجُ إليه مِن مُؤنةِ جهازِها ونفقةِ نَفسِها، وبعد التزويجِ أسمَحُ؛ لِسُقوطِ الجِهادِ عنها، ووجوبِ النَّفقةِ على زَوجِها، والغلامُ ضِدُّها؛ لأنَّه قبل التزويجِ أسمحُ؛ لقلةِ مَؤُونَتِه، وبعد التَّزويجِ أشحُّ؛ لكثرةِ مَؤُونته، فلما جاز فَكُّ الحَجْرِ عن الغلامِ قبل التَّزويجِ في أسمَحِ حالَيهِ، فأوْلى أن يُفَكَّ حَجرُ الجاريةِ قبل التزويجِ في أشحِّ حالَيْها
((الحاوي الكبير)) (6/353). سابعًا: أنَّ للزَّوجةِ حقًّا في يَسارِ الزَّوجِ في زيادةِ النَّفَقةِ، ما ليس للزَّوجِ في يسارِ الزَّوجةِ، فلمَّا جاز تصرُّفُ الزَّوجِ بغَيرِ إذنِ الزَّوجةِ مع حقِّها في يَسارِه، فأوْلى أن يجوزَ تَصَرُّفُ الزَّوجةِ بِغَيرِ إذنِ الزَّوجِ؛ لِسُقوطِ حقِّه بيَسارِها
((الحاوي الكبير)) (6/354).