المبحث الأوَّل: كفَّارةُ قتلِ المُحْرِمِ للصَّيدِ
المطلب الأوَّل: حُكْمُ كفَّارةِ قَتلِ الصَّيدِيجب الجزاءُ في قتلِ الصَّيدِ في الجملةِ
الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِقوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [المائدة: 95] ثانيًا: مِنَ الإجماعِنقلَ الإجماعَ على ذلك في الجملةِ: ابنُ المُنذِر
قال ابن المنذر: (أجمعوا على أنَّ المحرمَ إذا قتل صيدًا، عامدًا لقتله، ذاكرًا لإحرامِه؛ أنَّ عليه الجزاءَ) ((الإجماع)) (ص: 53). ، و
ابنُ رُشد قال ابن رشد: (أجمع العُلماءُ على أنَّ المُحْرِمَ إذا قتل الصَّيدَ أنَّ عليه الجزاءَ؛ للنَّصِّ في ذلك) ((بداية المجتهد)) (1/359). ، و
ابنُ قُدامة قال ابن قُدامة: (وجوبُ الجزاءِ على المُحْرِم بقَتْلِ الصَّيدِ في الجملة، وأجمَعَ أهل العلم على وجوبِه) ((المغني)) (3/437). المطلب الثاني: كفَّارةُ قَتلِ الصَّيدِيُخيَّر المُحْرِمُ إذا قتَلَ صيدًا بين ذبْحِ مِثلِه، والتصدُّقِ به على المساكينِ، وبينَ أن يقوَّمَ الصَّيدُ، ويَشتري بقيمَتِه طعامًا لهم، وبين أن يصومَ عن إطعامِ كلِّ مُدٍّ يومًا، أمَّا إذا قتل المُحْرِمُ ما لا يُشْبِهُ شيئًا من النَّعم، فإنَّه يُخيَّر بين الإطعامِ والصِّيامِ، وهذا مَذهَبُ الجمهورِ: المالكيَّة
((الشرح الكبير)) للدردير (2/82)، ويُنظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/835). ، والشَّافعيَّة
((روضة الطالبين)) للنووي (3/156)، ((المجموع)) للنووي (7/423). ، والحَنابِلَة
((الإنصاف)) للمرداوي (3/361)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/452). الدَّليل مِنَ الكِتابِ: قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [المائدة: 95] المطلب الثالث: مكانُ ذَبْحِ الهَدْيِ في جزاءِ الصَّيدِيجب أن يكونَ ذَبْحُ الهَدْيِ الواجِبُ في جزاءِ الصَّيدِ، في الحَرَمِ، وهذا مَذهَبُ الجمهورِ: الحَنَفيَّة
((الهداية)) للميرغيناني (1/186)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/224). ، والشَّافعيَّة
((المجموع)) للنووي (8/187،191)، ((روضة الطالبين)) للنووي (3/187). ، والحَنابِلَة
((الإنصاف)) للمرداوي (3/376)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/416). ، وهو قَولُ
ابنِ حَزْمٍ قال ابن حزم: (لا يجوزُ نَحْرُ البُدُنِ والهَدْيِ في غيرِ الحَرَمِ، إلَّا ما خصَّه النصُّ مِن هَدْيِ المُحصَر, وهَدْيِ التطوُّع إذا عَطِبَ قبل بلوغِه مكَّةَ) ((المحلى)) (7/156). الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِقولُه تعالى في جزاءِ الصَّيدِ:
هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه لو جاز ذبحُه في غيرِ الحَرَمِ؛ لم يكن لذِكْرِ بُلوغِه الكعبةَ معنًى
((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/224)، ((الهداية)) للميرغيناني (1/186). ثانيًا: مِنَ السُّنَّة1- عن
جابرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((نحَرْتُ ها هنا، ومِنًى كلُّها منحَرٌ )) رواه مسلم (1218) ،
2- وعنه أيضًا مرفوعًا:
((هذا المنحَرُ, وفِجاجُ مكَّةَ كُلُّها مَنحرٌ )) رواه أبو داود (1937)، وابن ماجه (3048)، وأحمد (146538)، والدارمي (1879). حسنه الزيلعي في ((نصب الراية)) (3/162)، وصححه ابن الملقن في البدر المنير (6/427)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1937): حسن صحيح. وَجهُ الدَّلالةِ:قوله:
((وفِجاجُ مكَّة كلُّها مَنحرٌ)) فيه أنَّه في أيِّ موضعٍ مِن نواحي مكَّةَ ينحَرُ الهَدْيَ جاز؛ لأنَّها مِن أرضِ الحَرَمِ
((شرح المشكاة)) للطيبي (6/1989). وفي فتوى اللجنة الدائمة: (كلُّ ما كان داخِلَ الأميالِ المنصوبة على حدودِ الحَرَمِ، فهو من الحرمِ؛ لقول النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وكلُّ فِجاجِ مكَّة طريقٌ ومَنحَرٌ) ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الثانية)) (10/399 ثالثًا: أنَّ الهَدْيَ اسمٌ لِمَا يُهدى إلى مكانِ الهدايا، ومكانُ الهدايا الحَرَمُ؛ وإضافةُ الهدايا إلى الحرمِ ثابتةٌ بالإجماعِ
((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/224)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (3/163). رابعًا: أنَّ هذا دمٌ يجِبُ للنُّسُك؛ فوجَبَ أن يكونَ في مكانِه، وهو الحَرَمُ
((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (22/226). المطلب الرابع: توزيعُ الصَّدقةِ على مساكينِ الحَرَمِيُشتَرَط أن توزَّعَ الصدقةُ على مساكينِ الحَرَمِ
فائدة: قال ابنُ عُثيمين: (مساكينُ الحرم: من كان داخِلَ الحرمِ من الفقراء، سواءٌ كان داخِلَ مكَّة، أو خارِجَ مكَّة، لكنَّه داخل حدودِ الحَرمِ، ولا فرق بين أن يكون المساكينُ مِن أهلِ مكَّة، أو من الآفاقِيِّينَ، فلو أنَّنا وجَدْنا حُجَّاجًا فقراءَ، وذَبَحْنا ما يجب علينا من الهديِ وأعطيناه إيَّاهم؛ فلا بأس، والدَّليلُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمر عليًّا أن يتصَدَّقَ بلحمِ الإبِلِ التي أهداها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يستثنِ أحدًا، فدلَّ هذا على أنَّ الآفاقيَّ مثلُ أهلِ مكَّة؛ ولأنهم أهلٌ أن يُصرَف لهم، وهل المرادُ بالمساكينِ، الفقراءُ والمساكينُ، أو المساكينُ فقط؟ الجواب: المرادُ الفقراءُ والمساكينُ؛ لأنَّه إذا جاء لفظُ المساكين وحده، أو لفظُ الفقراءِ وحده، فكلُّ واحدٍ منهما يشمل الآخَرَ، وأمَّا إذا جاء لفظُ المساكينِ، ولفظُ الفقراءِ، فالفقراءُ أشدُّ حاجةً من المساكينِ، كما بينَّا ذلك في كتابِ الزكاة) ((الشرح الممتع)) (7/204-205). ، وهو مَذهَب الشَّافعيَّة
((روضة الطالبين)) للنووي (3/156) ، والحَنابِلَة
((كشاف القناع)) للبهوتي (2/452، 46)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/449). ، واختاره
الشنقيطيُّ قال الشنقيطي: (ذهب بعض العلماء إلى أنَّه لا يُطعِمُ إلَّا في الحَرَم، وذهب بعضُهم إلى أنَّه يُطعِمُ في موضع إصابةِ الصَّيدِ، وذهب بعضُهم إلى أنه يُطعِم حيث شاء، وأظهَرُها أنه حقٌّ لمساكينِ الحَرَم; لأنه بدلٌ عن الهدي، أو نظيرٌ له، وهو حقٌّ لهم إجماعًا، كما صرَّح به تعالى بقوله: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) ((أضواء البيان)) (1/445). ، و
ابنُ باز قال ابن باز: (وهكذا الصَّيدُ يكون جزاؤه في الحَرَم، إذا كان جزاؤُه غيرَ الصيام، كالذَّبح والطعام يكونُ لمساكينِ الحرم) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/128). ، و
ابنُ عُثيمين قال ابن عُثيمين: (ولو ذبَحَه في مِنًى، وفرَّقه في عَرَفةَ، والطَّائف، والشَّرائع، أو غيرها من الحِلِّ، لم يجزِئْ؛ لأنَّه لا بدَّ أن يكون لمساكينِ الحَرَم؛ وعلى هذا فيضمَنُ اللَّحمَ بمثله لمساكينِ الحَرَم. وذهب بعضُ العلماء إلى أنَّه لو ذبحه خارج الحرم، وفرَّقه في الحرَمِ أجزأه؛ لأن المقصودَ نفعُ فقراءِ الحَرَمِ وقد حصل، وهذا وجهٌ للشافعية، ولا ينبغي الإفتاءُ به إلا عند الضرورةِ، كما لو فعل ذلك أناسٌ يجهلونَ الحُكْمَ، ثم جاؤوا يسألون بعد فَواتِ وقت الذبح، أو كانوا فقراءَ؛ فحينئذٍ ربما يسَعُ الإنسانَ أن يُفتيَ بهذا القول) ((الشرح الممتع)) (7/207). الدَّليل مِنَ الكِتابِ:قولُه تعالى:
هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ في حُكْمِ الهديِ ما كان بدلًا عنه من الإطعامِ؛ فيجب أن يكون مِثلَه كذلك، بالِغَ الكعبةِ
((كشاف القناع)) للبهوتي (2/460). المطلب الخامس: موضِعُ الصِّيامِيجوزُ الصِّيامُ في أيِّ موضعٍ
((المبسوط)) للسرخسي (4/179)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/334)، ((التاج والإكليل)) للمواق (3/180)، ((المجموع)) للنووي (7/438)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/452). الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِقوله تعالى:
أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة: 95] وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه أطلَقَ الصِّيامَ، ولم يقيِّدْه بشيءٍ، والواجِبُ البقاءُ على إطلاقاتِ النُّصوصِ، وعدمُ التَّصرُّفِ بتقييدِها مِن غيرِ دليلٍ
((المجموع)) للنووي (7/438)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/452). ثانيًا: مِنَ الإجماعِنقلَ الإجماعَ على ذلك
ابنُ عَبدِ البَرِّ قال ابن عَبدِ البَرِّ: (لا خلافَ في الصِّيامِ؛ أن يصومَ حيثُ شاء) ((الاستذكار)) (4/272). ، و
ابنُ قُدامة قال ابن قُدامة: (أما الصِّيامُ فيجزئه بكلِّ مكانٍ؛ لا نعلم في هذا خلافًا، كذلك قال ابن عباس، وعطاء، والنخعي، وغيرهم) ((المغني)) (3/471). ثالثًا: أنَّ الصِّيامَ لا يتعدَّى نفعُه إلى أحدٍ، فلا معنى لتخصيصِه بمكانٍ، بخلافِ الهَدْيِ والإطعامِ؛ فإنَّ نَفعَه يتعدَّى إلى من يُعطَاه
((الاستذكار)) لابن عَبدِ البَرِّ (4/272)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/471). رابعًا: أنَّ الصَّومَ عبادةٌ تختصُّ بالصَّائِمِ لا حقَّ فيها لمخلوقٍ؛ فله فِعْلُها في أيِّ موضعٍ شاء
((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/445). المطلب السادس: اشتراطُ التَّتابُعِ في الصِّيامِ لا يُشتَرَطُ التتابُعُ في الصِّيامِ
((المبسوط)) للسرخسي (4/179)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/334)، ((التاج والإكليل)) للمواق (3/180)، ((المجموع)) للنووي (7/438)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/452). الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِقوله تعالى:
أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة: 95] وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه أطلَقَ الصِّيامَ، ولم يقيِّدْه بشيءٍ، والواجِبُ البقاءُ على إطلاقاتِ النُّصوصِ، وعدمُ التَّصرُّفِ بتقييدِها مِن غيرِ دليلٍ
((المجموع)) للنووي (7/438)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/452). ثانيًا: من الإجماعنقلَ الإجماعَ على ذلك
النوويُّ قال النووي: (الصومُ الواجِبُ هنا يجوز متفرِّقًا ومتتابعًا؛ نصَّ عليه الشافعي، ونقله عنه ابنُ المنذر، ولا نعلم فيه خلافًا) ((المجموع)) (7/438).