المسألةُ الأُولى: انتهاءُ خِيارِ المجلِسِ بالتَّفرُّقِ بالأبدانِ
يَنتهي خِيارُ المجلِسِ بالتَّفرُّقِ بالأبدانِ يُنظر: مسألة: مشروعية خيار المجلس.
المسألةُ الثَّانيةُ: حدُّ التَّفرُّقِ بالأبدانِ
حدُّ التَّفرُّقِ بالأبدانِ هو ما اعتُبِرَ في عُرفِ الناسِ تَفرُّقًا، وهو مَذهَبُ الشَّافعيَّةِ ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/45)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (4/10). والحنابِلةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/200). ، واختارَه الشَّوكانيُّ قال الشَّوكانيُّ: (اختلَف القائلون بأنَّ المرادَ بالتفرُّقِ تَفرُّقُ الأبدانِ، هل له حدٌّ يَنْتهي إليه أمْ لا؟ والمشهورُ الراجحُ مِن مَذاهبِ العُلماءِ -على ما ذكَره الحافظُ- أنَّ ذلك مَوكولٌ إلى العُرفِ؛ فكلُّ ما عُدَّ في العُرفِ تَفرُّقًا حُكِم به، وما لا فلا) ((نيل الأوطار)) (5/222). وابنُ عُثَيمينَ قال ابنُ عُثَيمينَ: (إذا تفرَّقا، والتفرُّقُ ليس له حدٌّ شَرعيٌّ، فيُرجَعُ في ذلك إلى العُرفِ) ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (4/4). ؛ وذلك لأنَّ ما ليس له حَدٌّ شَرعًا ولا لُغةً، يُرجَعُ فيه إلى العُرفِ ((مغني المحتاج)) للشِّربيني (2/45).
المسألةُ الثَّالثةُ: إذا فارقَ العاقدُ مَجلِسَ العقدِ اتِّقاءَ فسْخِ الآخَرِ
لا يجوزُ أنْ يُفارِقَ العاقدُ مَجلِسَ العقدِ اتِّقاءَ فسْخِ الآخَرِ، وهو مَذهَبُ الحنابِلةِ ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (2/37)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/86). ، واختارَه ابنُ تَيميَّةَ قال ابن تَيميَّةَ: (قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما رواهُ أهلُ السُّننِ مِن حَديثِ عمرِو بنِ شُعيبٍ: «البيِّعانِ بالخيارِ ما لم يَتفرَّقَا، ولا يَحِلُّ له أن يُفارِقَه خشيةَ أنْ يَستقيلَه»، ودَلائلُ تَحريمِ الحِيَلِ مِن الكتابِ والسُّنةِ والإجماعِ والاعتبارِ كثيرةٌ)، ((الفتاوى الكبرى)) (4/20) ، وابنُ القيِّمِ قال ابنُ القيِّمِ: (وقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «البيِّعانِ بالخيارِ حتَّى يَتفرَّقا، إلَّا أن تكونَ صَفقةَ خيارٍ، ولا يَحِلُّ له أنْ يُفارِقَه خَشيةَ أنْ يَستقيلَه»، فاستدَلَّ به الإمامُ أحمدُ، وقال: فيه إبطالُ الحِيَلِ، وقدْ أشكَلَ هذا على كَثيرٍ مِن الفُقهاءِ بفِعلِ ابنِ عُمرَ؛ فإنَّه كان إذا أراد أنْ يَلزَمَ البيعُ مَشى خُطواتٍ، ولا إشكالَ -بحمدِ اللهِ- في الحديثِ، وهو مِن أظهَرِ الأدلَّةِ على بُطلانِ التحيُّلِ لإسقاطِ حقِّ مَن له حقٌّ؛ فإنَّ الشارعَ -صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى آلِه- أثبَتَ خِيارَ المجلسِ في البيعِ حِكمةً ومَصلحةً للمُتعاقدين)، ((إعلام الموقعين)) (3/130) ، وابنُ عُثَيمينَ قال ابنُ عُثَيمينَ: (لو أنَّه خاف أنْ يَفسَخَ البيعَ، فهلْ يَحِلُّ له أنْ يُفارِقَه خَشيةَ أنْ يَستقيلَه؟ الجوابُ: في مُفارَقتِه المكانَ إسقاطٌ لحقِّ أخيهِ الذي جَعَله الشَّرعُ له، فيكونُ هذا كالتَّحيُّلِ على إسقاطِ الشُّفعةِ في الشِّقصِ المبيعِ، وما أشبَهَ ذلك، وعلى كلِّ حالٍ هو تَحيُّلٌ على إسقاطِ حقِّ أخيهِ. فإنْ قال قائلٌ: الحديثُ عامٌّ «ما لم يَتفرَّقا» وليس فيه تَفصيلٌ. قُلنا: المرادُ التفرُّقُ الذي لم يُقصَدْ به إسقاطُ حقِّ الآخَرِ، فإنْ قُصِدَ به إسقاطُ حقِّ الآخَرِ فالأعمالُ بالنِّيَّاتِ، ولهذا جاء في الحديثِ: «ولا يَحِلُّ له أنْ يُفارِقَه خَشيةَ أنْ يَستقيلَه») ((الشرح الممتع)) (8/268). وقال: (فالصوابُ أنَّه لا يَحِلُّ له أنْ يُفارِقَه خشيةَ أنْ يَستقيلَه) ((التعليق على الكافي)) (5/170).
الأدلَّةُ:
أوَّلًا: مِن السُّنَّةِ
عن عَمروِ بن شُعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((البيِّعانِ بالخيارِ ما لم يَتفرَّقا، إلَّا أنْ تكونَ صَفقةَ خيارٍ، ولا يَحِلُّ له أنْ يُفارِقَ صاحبَه خَشيةَ أنْ يَسْتقيلَه )) أخرجه أبو داود (3456)، والترمذي (1247) واللفظ له، والنَّسائي (4483)، وأحمد (6721). حسَّنه الترمذي والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4495)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/11)، وجوَّده ابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (497). وقال ابنُ حزمٍ في ((المحلى)) (8/360): لا يصِحُّ، وذكَر ابنُ العربيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (3/213) أنَّ فيه اضطرابًا كثيرًا، وقد ورَد بألفاظٍ مختلِفةٍ، والصحيحُ منها «إلَّا بَيعَ الخيارِ»، وذكَر ابن القطَّانِ في ((الوهم والإيهام)) (5/472) أنَّه مِن روايةِ عمرِو بنِ شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ أحدَ العاقدينِ إذا فَعَل هذا خَشيةَ الإقالةِ، يكونُ قدْ أتى بحِيلةٍ يَسقُطُ بها حقُّ صاحبِه، وهو حَرامٌ يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/29)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/130).
ثانيًا: أنَّ الشَّرعَ أثبَتَ خِيارَ المجلِسِ في البَيعِ حِكمةً ومَصلحةً للمُتعاقدينِ، وليَحصُلَ تَمامُ الرِّضا الذي شرَطَه تعالَى فيه؛ فإنَّ العقدَ قدْ يقَعُ بَغتةً مِن غيرِ تَروٍّ ولا نظَرٍ في القيمةِ، فاقتَضَت مَحاسِنُ هذه الشَّريعةِ الكاملةِ أنْ يَجعَلَ للعقدِ حَريمًا يَتروَّى فيه المتبايعانِ، ويُعيدانِ النَّظرَ، ويَستدرِكُ كلُّ واحدٍ منهما عَيبًا كان خَفيًّا، فلو أنَّ أحدَ المُتعاقدينِ فارَقَ الآخَرَ، وبادَرَ إلى التَّفرُّقِ حتَّى لا يَختارَ الآخَرُ فسْخَ البيعِ؛ لَكان في ذلك تَفويتُ المصلحةِ المترتِّبةِ على الخيارِ يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيِّمِ (3/130).
المسألةُ الرَّابعةُ: إذا فارَقَ المجلِسَ هاربًا
يَنقطِعُ خِيارُ المجلِسِ إذا فرَّ أحدُهما هاربًا، وهو مَذهَبُ الشَّافعيَّةِ ((المجموع)) للنووي (9/182، 183)، ((مغني المحتاج)) للشِّربيني (2/45). والحنابِلةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/200)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامةَ (3/484).
وذلك للآتي:
أولًا: لأنَّ غيرَ الهاربِ (الشَّخصَ الموجودَ) يُمكِنُه الفسْخُ بالقولِ، فلم يَفسَخْ يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/338). ، ولأنَّ الهاربَ فارَقَ المجلسَ باختيارِه يُنظر: ((المجموع)) للنَّوَوي (9/183).
ثانيًا: لوُجودِ التَّفرُّقِ بيْنهما يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/200).
الفرعُ الخامسُ: انتهاءُ خِيارِ المجلِسِ بالموتِ
يَبطُلُ خِيارُ المجلِسِ بمَوتِ مَن له الخيارُ، وهو مَذهَبُ الحنابِلةِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مُفلِح (3/404)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/200). ، وقولٌ للشَّافعيَّةِ ((بحر المذهب)) للروياني (4/ 381). ، وهو اختيارُ ابنِ عُثَيمينَ قال ابنُ عُثَيمينَ: (قولُه: «ومَن مات منهما بطَلَ خِيارُه» لو مات أحدُهما في خيارِ المجلسِ يَبطُلُ خيارُه، وهذا لا إشكالَ فيه؛ لأنَّ مِن أعظَمِ التَّفرُّقِ التفرُّقُ بالموتِ، وقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فكلُّ واحدٍ منهما بالخيارِ ما لم يَتفرَّقا») ((الشرح الممتع)) (8/295).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّه يَبطُلُ بالتَّفرُّقِ، والموتُ أعظَمُ الفُرقتَينِ يُنظر: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/404).
ثانيًا: لأنَّه حقُّ فسْخٍ لا يَجوزُ الاعتياضُ عنه، فلم يُورَثْ، كخِيارِ الرُّجوعِ في الهبةِ يُنظر: ((الكافي)) لابن قُدامةَ (2/31).
الفرعُ السَّادسُ: انتهاءُ خِيارِ المجلِسِ بالجنونِ أو الإغماءِ
لا يَبطُلُ خِيارُ المجلِسِ بجُنونٍ أو إغماءٍ، وهو مَذهَبُ الشَّافعيَّةِ عندَ الشافعيَّةِ: يَنتقِلُ الخيارُ إلى الوليِّ (الحاكم أو غيره). ((مغني المحتاج)) للشِّربيني (2/45). ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (5/58). والحنابِلةِ عندَ الحنابلةِ: يَبْقى على خيارِه حتَّى يُفِيقَ ولا يَثبتُ لوَليِّه. ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/404)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/200، 201)، ويُنظر: ((الكافي)) لابن قُدامةَ (2/31). ؛ وذلك لأنَّ الحقوقَ لا تَبطُلُ بحُدوثِ الجُنونِ يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (5/58).
الفرعُ السَّابعُ: انقطاعُ خِيارِ المجلِسِ بالإكراهِ
لا يَنقطِعُ خِيارُ المجلِسِ إذا أُكرِهَ المُتبايعانِ أو أحدُهما على التَّفرُّقِ، وهو مَذهَبُ الشَّافعيَّةِ ((فتح العزيز)) للرافعي (8/307)، ((المجموع)) للنووي (9/182). والحنابِلةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/200)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/85). ؛ وذلك لأنَّ فِعلَ المكرَهِ لا يُعتَدُّ به شَرعًا يُنظر: ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (3/200).
الفرعُ الثَّامنُ: انتهاءُ خِيارِ المجلِسِ بالخرَسِ
لا يَبطُلُ خِيارُ المجلِسِ بالخرَسِ، فإنْ كانت له إشارةٌ مُفهِمةٌ قامتْ مَقامَ نُطقِه، وإلَّا قامَ وَلِيُّه مَقامَه، وهو مَذهَبُ الشَّافعيَّةِ ((المجموع)) للنووي (9/183)، ((روضة الطالبين)) للنَّوَوي (3/444)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/340). والحنابِلةِ ((الفروع)) لابن مفلح (6/215)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (3/201).
وذلك للآتي:
أولًا: لأنَّه إنْ كانت إشارتُه مُفهِمةً فهي تدُلُّ على ما يدُلُّ عليه نُطقُه يُنظر: ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (3/201)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (4/12).
ثانيًا: إنْ لم تُفهِمْ إشارتُه قام وَلِيُّه مَقامَه؛ لأنَّه قدْ تَعذَّرَ منه الاختيارُ مع بَقاءِ مُلكِه يُنظر: ((الكافي)) لابن قُدامةَ (2/31).