تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
اختلَفَ العلماءُ في عِلَّةِ الرِّبا في الأصْنافِ الأربَعةِ -البُرِّ والشَّعيرِ، والتَّمرِ والمِلحِ- إلى أقْوالٍ، أقْواها قَولانِ: القولُ الأوَّلُ: عِلَّةُ الرِّبا في الأصْنافِ الرِّبويَّةِ الأرْبعةِ -البُرِّ والشَّعيرِ، والتَّمرِ والمِلحِ- هي الطُّعمُ معَ الكَيلِ أوِ الوَزنِ، وهو القولُ القديمُ للشَّافعيِّ يُنظر: ((المجموع)) للنووي (9/397). ، ورِوايةٌ عن أحمدَ ((المغني)) لابن قُدامة (4/6)، ويُنظَر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّةَ (5/391). ، وهو قولُ سعيدِ بنِ المسيِّبِ رُويَ ذلك عن سعيدِ بن المسيِّبِ. يُنظَر: ((المغني)) لابن قُدامة (4/6). ، واختارَه ابنُ تَيميَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (والعلَّةُ في تَحريمِ رِبا الفضلِ الكيلُ أو الوزنُ معَ الطُّعمِ، وهو روايةٌ عن أحمدَ) ((الفتاوى الكبرى)) (5/391). وقال أيضًا: (اختَلَفوا في كثيرٍ من "مَسائلِ الرِّبا" قديمًا وحديثًا. واختَلَفوا في تَحريمِ التَّفاضُلِ في الأصنافِ السِّتَّةِ: الذَّهَبِ والفِضَّةِ، والحِنطةِ والشَّعيرِ، والتَّمرِ والمِلحِ: هلْ هو التَّماثُلُ -وهو الكيلُ والوزنُ- أو هو الثَّمنيَّةُ والطُّعمُ، أو هو الثَّمنيَّةُ والتماثُلُ معَ الطُّعمِ والقوتِ وما يُصلِحُه، أو النَّهيُ غيرُ معلَّلٍ والحكمُ مقصورٌ على مَورِدِ النصِّ؟ على أقوالٍ مَشهورةٍ. والأوَّلُ مَذهبُ أبي حَنيفةَ وأحمدَ في أشهَرِ الرِّواياتِ عنه. والثَّاني قولُ الشَّافعيِّ وأحمدَ في روايةٍ. والثَّالثُ قَولُ أحمدَ في رِوايةٍ ثالثةٍ اختارَها أبو محمَّدٍ، وقولُ مالكٍ قَريبٌ مِن هذا، وهذا القولُ أرجَحُ من غيرِه. والرَّابعُ قولُ داودَ وأصْحابِه، ويُرْوى عن قَتادةَ) ((مجموع الفتاوى)) (29/ 470). ، وابنُ عُثَيمينَ قال ابنُ عُثَيمينَ: (أمَّا العلَّةُ في الأربعةِ فكَونُها مَكيلةً مَطْعومةً، يعني أنَّ العلَّةَ مُركَّبةٌ من شَيئينِ: الكَيلِ والطُّعمِ؛ إذ هذا هو الواقعُ، فهي مَكيلةٌ مَطعومةٌ، ويَظهَرُ أثرُ الخلافِ في الأمثلةِ: فإذا باعَ صاعًا منَ الأُشْنانِ بصاعَينِ منه؛ فإذا قُلْنا: إنَّ العلَّةَ الكَيلُ، فلا يجوزُ، وإنْ قُلْنا: إنَّ العلَّةَ الطُّعمُ، جازَ، وإنْ قُلْنا: العلَّةُ الكَيلُ معَ الطُّعمِ، جاز أيضًا. وإذا باع فاكهةً بجِنسِها مُتفاضِلةً؛ فإنْ قُلْنا: العلَّةُ الطُّعمُ، فلا يجوزُ، وإنْ قُلْنا: العلَّةُ الكَيلُ، جاز، وإنْ قُلْنا: العلَّةُ الكَيلُ معَ الطُّعمِ، جاز، فالأمثلةُ تُبْنى على الخلافِ في تَحديدِ العلَّةِ. فإنْ قال قائلٌ: سلَّمْنا أنَّها مَطْعومةٌ في البُرِّ والشَّعيرِ والتَّمرِ، لكنْ ما القولُ في المِلحِ؟ أجابَ عنه شيخُ الإسلامِ بأنَّ المِلحَ يَصلُحُ به الطَّعامُ، فهو تابعٌ له، ولهذا يُقالُ: «النَّحوُ في الكلامِ كالمِلحِ في الطَّعامِ»، فالمِلحُ مِن تَوابِعِ الطَّعامِ، وبناءً على هذا التَّعليلِ يَجْري الرِّبا في التَّوابِلِ التي يَصلُحُ بها الطَّعامُ؛ لأنَّها تابعةٌ له. فإذا تأمَّلْنا هذه الأقوالَ الثَّلاثةَ وجَدْنا: أوَّلًا: أقرَبُها إلى الصَّوابِ هذا القولُ؛ ووَجهُ ذلك: أنَّنا إذا تأمَّلْنا الأصْنافَ السِّتَّةَ التي بيَّنَها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وَجدْنا أنَّها مَطعومةٌ مَكيلةٌ. ثانيًا: أنَّ الأصلَ في البيعِ والشِّراءِ الحِلُّ، فلا يُمكِنُ أنْ نُحرِّمَ على النَّاسِ ما الأصلُ فيه الحِلُّ، حتى يَتبيَّنَ لنا ذلك على وَجهٍ بيِّنٍ، فما دام لم يَتبيَّنْ إلَّا ما اجتمَعَ فيه العلَّتانِ الكَيلُ والطَّعمُ، فإنَّنا نقولُ: ما عدا ذلك باقٍ على الأصلِ) ((الشرح الممتع)) (8/397). وقال: (في ذلك إشارةٌ إلى عِلَّةِ الرِّبا؛ وهي: الطُّعمُ، ولكنْ لا شكَّ -على هذا التَّقديرِ- أنَّه لا يُرادُ به كلُّ مَطعومٍ؛ إذ لو أُريدَ به كلُّ مَطعومٍ، لدَخَلَ حتى الماءُ؛ لأنَّ الماءَ عندَ الإطْلاقِ يَدخُلُ في الطَّعامِ، كما قال تعالى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة: 249] . ولكنَّ المرادَ بالطَّعامِ: ما يُطعَمُ على أنَّه قُوتٌ؛ فإنَّ النَّاسَ في عهدِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأكُلونَ الشَّعيرَ على أنَّه قُوتٌ؛ يعني: الذي هو مدَدُ غِذائِهم، وعلى هذا فيكونُ في هذا الحديثِ إشارةٌ إلى القولِ الرَّاجِحِ في هذه المسألةِ؛ وهو أنَّ عِلَّةَ الرِّبا في الأصْنافِ الأربعةِ التي في حَديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ؛ هو الطُّعمُ، لكنْ يُضافُ إلى ذلك الكَيلُ؛ لأنَّ كلَّ الأحاديثِ الواردةِ كذلك تُقدِّرُ هذا بالكَيلِ، وعلى هذا فالطَّعامُ المَكيلُ الذي يُطعَمُ ويَقْتاتُه النَّاسُ هو الذي يَجْري فيه الرِّبا، وأمَّا الطَّعامُ الذي لا يُكالُ، أو ما ليس بكَيلٍ؛ فإنَّه لا يَجْري فيه الرِّبا، مثلُ الفاكهةِ على اخْتلافِ أنْواعِها، والخَضْرواتِ، والسِّدرِ، والأُشْنانِ، والحنَّاءِ، وما أشبَهَها) ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (4/31). ، واللَّجنةُ الدَّائمةُ الفتوى نصَّتْ على الكَيلِ معَ الطُّعمِ؛ جاء في فتوى اللَّجنةِ الدَّائمةِ: (الأشياءُ التي يحرُمُ فيها الرِّبا هي: الذَّهبُ والفِضَّةُ، والبُرُّ والشَّعيرُ، والتَّمرُ والمِلحُ، وما شارَكَ هذه الأصنافَ السِّتَّةَ في علَّةِ الرِّبا، وهي في النَّقدَينِ الثَّمَنيَّةُ، وفي بقيَّةِ الأصْنافِ الكَيلُ معَ الطُّعميَّةِ، على الصَّحيحِ من أقْوالِ العلماءِ) ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (13/268). وذلك للآتي: أوَّلًا: لأنَّ لكلِّ واحدٍ مِن هذه الأوْصافِ أثَرًا، والحُكمَ مَقْرونٌ بجَميعِها في المنصوصِ عليه، فلا يَجوزُ حَذفُه يُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (4/6). ثانيًا: لأنَّ الكيلَ والوزنَ والجنسَ لا يَقتَضي وُجوبَ المُماثَلةِ، وإنَّما أثَرُه في تَحْقيقِها في العلَّةِ ما يَقْتَضي ثُبوتَ الحُكمِ لا ما تَحقَّقَ شَرطُه، والطُّعمُ بمُجرَّدِه لا تَتحقَّقُ المُماثَلةُ به؛ لعَدَمِ المِعيارِ الشَّرعيِّ فيه يُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (4/6). ثالثًا: أنَّ الأحاديثَ الوارِدةَ في هذا البابِ يَجِبُ الجَمعُ بيْنها، وتَقييدُ كلِّ واحدٍ منها بالآخَرِ؛ فنَهيُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن بَيعِ الطَّعامِ إلَّا مِثلًا بمِثلٍ، يَتقيَّدُ بما فيه مِعيارٌ شَرْعيٌّ، وهو الكَيلُ والوَزنُ، ونَهيُه عن بَيعِ الصَّاعِ بالصَّاعَينِ يَتقيَّدُ بالمَطْعومِ المَنْهيِّ عنِ التَّفاضُلِ فيه يُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (4/6). القولُ الثَّاني: علَّةُ الرِّبا في الأصْنافِ الأرْبَعةِ في رِبا الفَضلِ الاقْتياتُ والادِّخارُ مَعنى الاقْتياتِ: هو أنْ يكونَ الطَّعامُ مُقْتاتًا، أي: ما تَقومُ به بِنيةُ الآدَميِّ معَ الاقتصارِ عليه. ومعنى الادِّخارِ: ألَّا يَفسُدَ بتأْخيرِه إلَّا أنْ يَخرُجَ التَّأخيرُ عنِ العادةِ. يُنظَر: ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (6/198). ، وفي رِبا النَّسيئةِ الطُّعمُ مجرَّدُ الطَّعمِ، سواءٌ أكان مُدَّخَرًا مُقْتاتًا أم لا، بشَرطِ ألَّا يكونَ بما يُتَداوى به؛ فلا يَدخُلُه رِبا النَّسيئةِ، فيَجوزُ عندَهمُ التَّفاضُلُ في المطعوماتِ التي ليستْ مُدَّخَرةً، لكنْ لا يَجوزُ فيها النَّساءُ. ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ ((الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي)) (3/47)، ((مِنَح الجليل)) لعُلَيش (5/5). ، واختيارُ ابنِ القيِّمِ قال ابنُ القيِّمِ: (الشَّارعُ نصَّ على تَحريمِ رِبا الفضلِ في ستَّةِ أعْيانٍ؛ وهي: الذَّهبُ، والفضَّةُ، والبُرُّ، والشَّعيرُ، والتَّمرُ، والمِلحُ، فاتَّفقَ النَّاسُ على تَحريمِ التَّفاضُلِ فيها معَ اتِّحادِ الجنسِ، وتَنازَعوا فيما عَداها؛ فطائفةٌ قصَرَتِ التَّحريمَ عليها، وأقدَمُ مَن يُرْوى هذا عنه قَتادةُ، وهو مَذهَبُ أهلِ الظَّاهرِ، واختيارُ ابنِ عَقيلٍ في آخِرِ مُصنَّفاتِه معَ قولِه بالقياسِ، قال: لأنَّ عِلَلَ القياسيِّينَ في مَسألةِ الرِّبا عِلَلٌ ضَعيفةٌ، وإذا لم تَظهَرْ في عِلَّةٍ امتنَعَ القياسُ. وطائفةٌ حرَّمَتْه في كلِّ مَكيلٍ ومَوْزونٍ بجنسِه، وهذا مَذهبُ عمَّارٍ وأحمدَ في ظاهِرِ مَذهَبِه، وأبي حَنيفةَ، وطائفةٌ خصَّتْه بالطَّعامِ، وإنْ لم يكُنْ مَكيلًا، ولا مَوْزونًا، وهو قولُ الشَّافعيِّ، وروايةٌ عنِ الإمامِ أحمَدَ، وطائفةٌ خصَّتْه بالطَّعامِ إذا كان مَكيلًا أو مَوْزونًا، وهو قولُ سَعيدِ بنِ المسيِّبِ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ، وقولٌ للشَّافعيِّ، وطائفةٌ خصَّتْه بالقُوتِ وما يُصلِحُه، وهو قولُ مالكٍ، وهو أرجَحُ هذه الأقْوالِ) ((إعلام الموقعين)) (2/174). الأدلَّةُ: أولًا: منَ السُّنَّةِ عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((الذَّهبُ بالذَّهبِ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ بالشَّعيرِ، والتَّمرُ بالتَّمرِ، والمِلحُ بالمِلحِ، مِثلًا بمِثلٍ، سَواءً بسَواءٍ، يَدًا بيَدٍ، فإذا اختلَفَتْ هذه الأصْنافُ، فبِيعوا كيف شِئْتُم، إذا كان يدًا بيَدٍ )) أخرَجَه مسلمٌ (1587). وَجهُ الدَّلالةِ: الحديثُ يدُلُّ على أنَّ العلَّةَ هي الطُّعمُ المَوْصوفُ بالاقْتياتِ والادِّخارِ؛ لأنَّه لو كان المَقصودُ الطُّعمَ وَحْدَه لاكْتَفى بالتَّنْبيهِ على ذلك بالنَّصِّ على واحدٍ مِن تلك الأرْبعةِ الأصْنافِ المذكورةِ، فلمَّا ذكَرَ منها عَددًا عُلِمَ أنَّه قصَدَ بكلِّ واحدٍ منها التَّنبيهَ على ما في مَعْناه، وهي كلُّها يَجمَعُها الاقْتياتُ والادِّخارُ يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رُشد (3/151). ثانيًا: أنَّ الحكمةَ مِن تَحْريمِ الرِّبا إنَّما هو ألَّا يَغبِنَ بعضُ النَّاسِ بعضًا، وأنْ تُحفَظَ أمْوالُهم، فوجَبَ أنْ يكونَ ذلك في أُصولِ المَعايِشِ، وهي الأقْواتُ يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رُشد (3/151).