المَطلَبُ الرَّابعُ: مَوقِفُ المَدرَسةِ العقلانيَّةِ الاعتِزاليَّةِ المُعاصِرةِ من السِّياسةِ
نظَرَت طائفةٌ من المُسلِمين أو من المُنتَسِبين للإسلامِ إلى ما حدَث في أوروبَّا في العصورِ الوسطى، وإلى ما حدَث من صراعٍ هناك بَينَ الدِّينِ والعِلمِ، وبَينَ الدِّينِ والسِّياسةِ، وبَينَ الدِّينِ والدَّولةِ، نظروا إلى "رجالِ دينٍ" يستَنِدون إلى كتُبٍ "مُحَرَّفةٍ" وما فيها يخالِفُ حقائِقَ العلمِ ونظَرِيَّاتِه، بالإضافةِ إلى موقِفِ رجالِ الدِّينِ هناك في مواجَهةِ خُصومِهم؛ فقامت ثورةٌ للفصلِ بَينَ الدِّينِ والدَّولةِ، وبَينَ الدِّينِ والسِّياسةِ، وبَينَ الدِّينِ والعِلمِ؛ فعزَلوا الدِّينَ وأقْصَوه.
وأراد بعضُ من ينتَسِبُ إلى الإسلامِ أن يُطَبِّقَ تلك الثَّورةَ على دينِه الذي ينتَسِبُ إليه - إمَّا عن جهلٍ منه، وإمَّا عن خُبثٍ فيه- فدَعَوا إلى فصلِ الدِّينِ عن الدَّولةِ، وجعْلِ الدِّينِ مجرَّدَ عبادةٍ تُؤَدَّى في المسجِدِ، فإذا خرَجَت إلى الشَّارعِ فقد تعدَّت حُدودَها وتجاوزت مراسيمَها، ووجَب عقابُها وقَمعُها.
وقد سَرَت هذه الأفكارُ والمبادئُ في المجتَمَعِ الإسلاميِّ وانتشَرَت، وظهَرت آثارُها أوَّلَ ما ظهَرت في الثَّورةِ الكماليَّةِ الإلحاديَّةِ في ترُكيا؛ حيثُ عَمِلَت أوَّلَ ما عَمِلَت على فَصلِ الدِّينِ عن الدَّولةِ، وقالوا فيما قالوا: (إنَّنا -نحن العُثمانيِّينَ- لا يمكِنُ أن نترقَّى إلَّا إذا نبَذْنا الدِّينَ وراءَ ظُهورِنا، وعصَرْنا العُلَماءَ عصرًا نمحَقُهم به محْقًا، وسِرْنا وراءَ فَرَنسا خُطوةً خُطوةً)
[1792] ((مجلة المنار)) مجلد 16 ج2 ص عدد صفر 1331 ه (ص: 132). .
وأشاد بعضُ العَرَبِ بهذه الحَرَكةِ، وفُتِن بها كثيرٌ منهم؛ قال أحدُهم: (حصَل التَّقدُّمُ في تركيا بَعدَ نبذِها تعاليمَ رِجالِ الدِّينِ وفتاويهم، وفَصلِها الأمورَ الزَّمنيَّةَ عن الدِّينيَّةِ، واستغنائِها عن قراءةِ
البُخاريِّ في السُّفُنِ البَحريَّةِ)
[1793] ((هذا هو الإسلام)) فاروق الدملوجي (ص: 213). .
وفي سنةِ 1925م وضَعَ علي عبد الرَّازِق كتابَه: (الإسلامُ وأصولُ الحُكمِ) خاض فيه في مَبحَثينِ:
1) هل مَنصِبُ الخلافةِ دينيٌّ أم سياسيٌّ أم هو مزيجٌ من كليهما معًا؟
2) هل مَنصِبُ الخلافةِ ضروريٌّ للمُسلِمين
[1794] ((الإسلام وأصول الحكم)) (ص: 5). ؟
وهو في سَبيلِ فصلِ الدِّينِ عن الدَّولةِ تضَمَّنَ:
1- جَعْلَ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ رُوحيَّةً مَحضةً لا علاقةَ لها بالحُكمِ والتَّنفيذِ في أمورِ الدُّنيا!
2- أنَّ الدِّينَ لا يمنَعُ من أنَّ جِهادَ النَّبيِّ كان في سبيلِ المُلكِ لا في سبيلِ الدِّينِ ولإبلاغِ الدَّعوةِ إلى العالَمينَ!
3- أنَّ نظامَ الحُكمِ في عهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان موضوعَ غُموضٍ أو إبهامٍ أو اضطرابٍ أو نقصٍ، ومُوجبًا للحَيرةِ!
4- أنَّ مُهِمَّةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانت بلاغًا للشَّريعةِ مجردًا عن الحُكمِ والتَّنفيذِ!
5- إنكارَ إجماعِ الصَّحابةِ على وُجوبِ نَصبِ الإمامِ، وعلى أنَّه لا بُدَّ للأمَّةِ ممَّن يقومُ بأمرِها في الدِّينِ والدُّنيا!
6- إنكارَ أنَّ القضاءَ وظيفةٌ شَرعيَّةٌ!
7- أنَّ حُكومةَ
أبي بكرٍ والخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ مِن بَعدِه -رَضِيَ اللهُ عنهم- كانت لا دينيَّةً
[1795] ((حكم هيئة كبار العلماء في كتاب الإسلام وأصول الحكم)) (ص: 5-6). !
وجاء فيه: (الدُّنيا من أوَّلِها لآخِرِها وجميعُ ما فيها من أغراضٍ وغاياتٍ: أهوَنُ عِندَ اللهِ تعالى من أن يبعَثَ لها رسولًا، وأهوَنُ عِندَ رُسُلِ اللهِ تعالى من أن يَشغَلوا بها ويَنصَبوا لتدبيرِها)
[1796] ((الإسلام وأصول الحكم)) (ص: 154). !
وزعَم (أنَّ كُلَّ ما جاء به الإسلامُ من عقائِدَ ومُعامَلاتٍ وآدابٍ وعُقوباتٍ فإنَّما هو شرعٌ دينيٌّ خالِصٌ للهِ تعالى، ولمصلحةِ البَشَرِ الدِّينيَّةِ لا غيرُ، وسِيَّانِ بَعدَ ذلك أن تتَّضِحَ لنا تلك المصالحُ الدِّينيَّةُ أم تخفى علينا، وسيَّانِ أن يكونَ منها للبَشَرِ مَصلَحةٌ مدنيَّةٌ أم لا، فذلك ممَّا لا ينظُرُ الشَّرعُ السَّماويُّ إليه، ولا ينظُرُ الشَّرعُ السَّماويُّ إليه، ولا ينظُرُ إليه الرَّسولُ)
[1797] ((الإسلام وأصول الحكم)) (ص: 171-172). .
وقال: (التَمِسْ بَينَ دفَّتَيِ المصحَفِ الكريمِ أثرًا ظاهرًا أو خفيًّا لِما يريدون أن يعتَقِدوا من صفةٍ سياسيَّةٍ للدِّينِ الإسلاميِّ، ثمَّ التَمِسْ ذلك الأثَرَ مَبلَغَ جُهدِك بَينَ أحاديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، تلك منابِعُ الدِّينِ الصَّافيةُ في مُتناوَلِ يديك، وعلى كَثَبٍ منك؛ فالتَمِسْ منها دليلًا أو شِبهَ دليلٍ؛ فإنَّك لن تجِدَ عليها بُرهانًا إلَّا ظنًّا، وإنَّ الظَّنَّ لا يُغني عن الحَقِّ شيئًا)
[1798] ((الإسلام وأصول الحكم)) (ص: 151). !
وذكرَ نحو هذا محمَّد أحمد خلف الله؛ حيث قال: (إنَّ رياسةَ الخُلَفاءِ الرَّاشِدين للدَّولةِ العربيَّة لم تكُنْ دينيَّةً بحالٍ من الأحوالِ، وإنَّما كانت مَدَنيَّةً صِرفةً)
[1799] ((القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة)) (ص: 82). !
وقال: (القرآنُ الكريمُ قد أعرَض إعراضًا تامًّا عن الحديثِ في نظامٍ أساسيٍّ للدَّولةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ، وتَرَك أمْرَ ذلك للمُواطِنين، يُقَرِّرون فيه ما يشاؤُون)
[1800] ((القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة)) (ص: 82). !
ودَعَوا إلى حرَكةِ القوميَّةِ العربيَّةِ وقالوا: (إنَّ هذه الحَرَكةَ لم تتَّخِذْ من الإسلامِ خاصَّةً ومن الدِّينِ عامَّةً أساسًا لها، وإنَّما مضَت على أساسٍ عربيٍّ خالِصٍ)
[1801] ((مجلة العربي)) العدد الأول، مقال ((القومية العربية كما يجب أن نفهمها)) لخلف الله (ص: 22، 24). ، (وإنَّ الفِكرةَ العربيَّةَ أكثَرُ انتشارًا وأوسَعُ نفوذًا من الفِكرةِ الإسلاميَّةِ)
[1802] ((مجلة العربي)) العدد الأول، مقال ((القومية العربية كما يجب أن نفهمها)) لخلف الله (ص: 22، 24). !
ودَعَوا إلى توحيدِ الأديانِ وصَهْرِها بعضِها ببعضٍ، وهو سبيلٌ من سُبُلِ القوميَّةِ، فقال أبو ريَّة: (إنَّ النَّاسَ سيَصِلون -إن شاء اللهُ- بعُلومِهم وعقولِهم إلى مرتقًى تزولُ فيه الجِنسيَّاتُ الدِّينيَّةُ، وتختفي العَصَبيَّاتُ المذهبيَّةُ، ويجتَمِعون على دينٍ واحدٍ يَشمَلُ النَّاسَ جميعًا، وهذا الدِّينُ يقومُ على ثلاثِ قواعِدَ:
1- إيمانٌ باللهِ.
2- عَمَلٌ صالحٌ في الحياةِ.
3- إيمانٌ باليومِ الآخِرِ.
أمَّا ما وراء ذلك ممَّا هو خارجٌ عن عِلمِهم فأمرُه مُفَوَّضٌ إلى ربِّهم، وبذلك يعيشون الحياةَ تحتَ ظِلِّ السَّعادةِ الظَّليلِ، مُتحابِّين مُتعاوِنين على عَمَلِ ما فيه الخيرُ لكُلِّ قبيلٍ)
[1803] ((دين الله واحد على ألسنة جميع الرسل)) لأبي رية (ص: 168). !
وهذه الثَّلاثةُ:
1- القوميَّةُ الوطنيَّةُ.
2- التَّقريبُ بَينَ الأديانِ.
3- فصلُ الدِّينِ عن الدَّولةِ.
هي وُجوهٌ مُتعَدِّدةٌ لقضيَّةٍ واحدةٍ، هَدَفُها واحدٌ: إقصاءُ الدِّينِ الحَقِّ، وقيامُ قوميَّةٍ وطنيَّةٍ عَلمانيَّةٍ، لا دينيَّةٍ، تَنبِذُ الدِّينَ وتُقصيه عن مَيدانِ السِّياسةِ، وحينَئذٍ يَسهُلُ انقيادُها لمن خطَّط لذلك ووقَف خَلْفَه من وراءِ السِّتارِ للقضاءِ على الهُوِيَّةِ الدِّينيَّةِ، وصَهْرِ الأديانِ تحتَ عُنوانِ التَّقريبِ بينها، وهو تذويبٌ لها وتدميرٌ، وفصلٌ للدِّينِ عن الدَّولةِ.