المَطلَبُ الثَّالِثُ: مَوقِفُ المَدرَسةِ العقلانيَّةِ الاعتِزاليَّةِ المُعاصِرةِ من الفِقهِ الإسلاميِّ
إنَّ فتحَ بابِ الاجتهادِ وشُروطِه التي جاؤوا بها قد نَفَذ منها كُلُّ من هبَّ ودَبَّ، وأفتى في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ من غيرِ تردُّدٍ أو خَوفٍ أو وَجَلٍ.
وليس المقصودُ هنا ذِكرَ كُلِّ ما جرى من اجتهاداتٍ فِقهيَّةٍ خارجةٍ عن نطاقِ الاجتهادِ وحُدودِه، ولا يَصِلُ إلى مرتبتِه مُصدِروها، ولكِنْ سيقتَصِرُ الحديثُ هنا على واحدةٍ من تلك الاتِّجاهاتِ الفِقهيَّةِ المُنحَرِفةِ.
ففي مسألةِ تعَدُّدِ الزَّوجاتِ، قال محمَّد عَبدُه: (لا سبيلَ إلى تربيةِ الأُمَّةِ مع فُشُوِّ تعَدُّدِ الزَّوجاتِ فيها، فيَجِبُ على العُلَماءِ النَّظَرُ في هذه المسألةِ خُصوصًا الحنفيَّةَ منهم الذين بيَدِهم الأمرُ، وعلى مذهبِهم الحُكمُ؛ فهم لا يُنكِرون أنَّ الدِّينَ أُنزِل لمصلحةِ النَّاسِ وخَيرِهم، وأنَّ من أصولِه مَنعَ الضَّرَرِ والضِّرارِ، فإذا ترتَّب على شيءٍ مَفسَدةٌ في زَمَنٍ لم تكُنْ تَلحَقُه فيما قَبلَه، فلا شَكَّ في وجوبِ تغيُّرِ الحُكمِ وتطبيقِه على الحالِ الحاضِرةِ)
[1787] ((تفسير المنار)) لرضا (4/349-350). .
وزعم عبد العزيز فهمي باشا أنَّ القرآنَ الكريمَ يُحَرِّمُ بتاتًا تعَدُّدَ الزَّوجاتِ! فالآيةُ -في زعمِه- واضِحةٌ لكُلِّ مُتذَوِّقٍ أنَّها هُزءٌ وسُخريَّةٌ ممَّن يريدُ تعَدُّدَ الزَّوجاتِ؛ لأنَّ المولى سُبحانَه وتعالى أردَفَها بقَولِه:
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء: 129] و(لن) كما يُقَرِّرُ النُّحاةُ هي أشَدُّ أدواتِ النَّفيِ للمُستقبَلِ؛ إذ تنفيه نفيًا باتًّا
[1788] يُنظر: ((مع المفسرين والكتاب)) لأحمد محمد جمال (ص: 208). !
وحتى نكشِفَ مُغالَطةَ الرَّجُلِ نقولُ: إنَّ استدلالَه هنا كَمَن يستَدِلُّ بقولِه تعالى:
لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ [النساء: 43] ، ويَدَعُ
وَأَنتُمْ سُكَارَى، ولو أحسَنَ الاستدلالَ وطَلَب الحقيقةَ لأكمَل ما استدَلَّ به
وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 129] ؛ فقَولُه سُبحانَه:
فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا غَفُورًا رَحِيمًا كلُّها تُبَيِّنُ المرادَ من نفيِ الاستطاعةِ بيانًا لا يُريدُه فهمي باشا؛ ولهذا قطَع الآيةَ!
وأمَّا الاستدلالُ بما قرَّره النُّحاةُ فهو تحريفٌ لقَولِهم، ولا يُستغرَبُ ممَّن كَذَب على القرآنِ أن يكذِبَ على النُّحاةِ؛ إذ لم يقولوا بأنَّ النَّفيَ بلَنْ نفيٌ باتٌّ، أي: دائمٌ، إلَّا
الزَّمخشريُّ المُعتَزِليُّ، قال ذلك ليؤبِّدَ النَّفيَ في قولِه تعالى لموسى
لَنْ تَرَانِي [الأعراف: 143] حتَّى يستَدِلَّ بها على إنكارِ رُؤيةِ اللهِ التي لا يؤمِنُ بها
المُعتَزِلةُ، والنُّحاةُ سِواه على الضِّدِّ من ذلك.
والشَّيخُ الأزهريُّ عبدُ المُتَعال الصَّعيديُّ قال: (لا يُنكِرُ أحَدٌ أن ينقَلِبَ المباحُ حرامًا إذا نهى عنه وَلِيُّ الأمرِ لمصلحةٍ تقتضي النَّهيَ عنه!! كأن ينهى عن زَرعِ القُطنِ في أكثَرَ مِن ثُلُثِ المِلْكِ، تجِبُ طاعتُه شرعًا في ذلك، وتحرُمُ مخالفتُه فيه... وكذلك الأمرُ في تعدُّدِ الزَّوجاتِ، فلوليِّ الأمرِ أن ينهى عنه إذا أساء المُسلِمون استعمالَه، فيصيرَ حرامًا لنَهْيِه عنه، وإن كان في ذاتِه مباحًا! وهذا أمرٌ معروفٌ بَينَ العُلَماءِ)
[1789] ((مجلة الرسالة)) (العدد 773) السنة 16 إبريل 1948م. !
وقال عبدُ المُتعال أيضًا: (ولعَلَّ ممَّا يدعو إليه هذا أنَّ النَّاسَ لم يَتهَيَّؤوا بَعدُ لفَهمِ هذا الحَقِّ، بل يَعُدُّوه خروجًا على الدِّينِ، فيَحمِلُ هذا وليَّ الأمرِ على أن يستثنيَ في ذلك ما يستثني، ولا يذهَبَ فيه إلى آخَرَ ما جعَلَه اللهُ من حَقِّه)
[1790] ((مجلة الرسالة)) (العدد 773) السنة 16 إبريل 1948م. !
وقال عِفَّت محمد الشَّرقاوي رادًّا ومُعَلِّقًا على ما ذهب إليه عبدُ العزيزِ فهمي، وعبدُ المُتَعال: (ومع ما يبدو في هذا من الغَرابةِ والتَّجَوُّزِ في الاستنتاجِ، وخروجِه عن مألوفِ المأثورِ؛ فإنَّه كان النَّتيجةَ الطَّبيعيَّةَ لشِدَّةِ تأثُّرِنا بالنُّظُمِ الأوروبيَّةِ في تشريعِ الزَّواجِ... وكان ذلك في جملتِه تطوُّرًا واضحًا لنزعةٍ قديمةٍ حَمَل لواءَها "محمَّد عَبدُه" محاوِلًا التَّوفيقَ بَينَ النَّصِّ القرآنيِّ وهذا التَّصَوُّرِ الجديدِ)
[1791] ((الفكر الديني في مواجهة العصر)) للشرقاوي (ص: 237). .