المَبحَثُ التَّاسعُ: مَوقِفُ الاستِعمارِ البريطانيِّ من المَدرَسةِ العقلانيَّةِ واعترافُه بما قدَّموه له من خِدْماتٍ
قال اللُّورْد كرُومَر مُعلِنًا عَداءَه للإسلامِ: (جئتُ "إلى مِصرَ" لأمحوَ ثلاثًا: القُرآنُ، والكعبةُ، والأزهَرُ)
[1848] ((الخنجر المسموم)) للجندي (ص: 29). .
تُرى مَن الذي عاون هذا الرَّجُلَ لتحقيقِ هَدَفِه؟! إنَّهم -ولا شَكَّ- رجالُ المَدرَسةِ العقليَّةِ، من حيثُ يَدرون "فيكونون عُمَلاءَ"، أو من حيثُ لا يَدرُون "فيكونونَ سُذَّجًا".
قال كرُومَر في تقريرِه السَّنَويِّ لعام 1905م عن محمَّد عَبدُه: (كان لمعرفتِه العميقةِ بالشَّريعةِ الإسلاميَّةِ ولآرائِه المتحَرِّرةِ المُستنيرةِ أثَرُها في جَعْلِ مشورتِه والتَّعاوُنِ معه عظيمَ الجَدوى)
[1849] ((الإسلام والحضارة الغربية)) لحسين (ص: 78). .
وقال أيضًا: (لا رَيبَ عِندي في أنَّ السَّبيلَ القويمَ الذي أرشَدَ إليه المرحومُ الشَّيخُ محمَّد عَبدُه هو السَّبيلُ الذي يُؤَمِّلُ رجالُ الإصلاحِ من المُسلِمين الخيرَ منه لنبيِّ مِلَّتِهم إذا ساروا فيه، فأتباعُ الشَّيخِ حقيقون بكُلِّ ميلٍ وعَطفٍ وتنشيطٍ من الأوروبِّيِّين)
[1850] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (ص: 3 و426). .
وقال أيضًا: (إنَّ أهمِّيَّتَه السِّياسيَّةَ ترجِعُ إلى أنَّه يقومُ بتقريبِ الهُوَّةِ التي تفصِلُ بَينَ الغَربِ وبَينَ المُسلِمين، وأنَّه هو وتلاميذَ مَدرَستِه خليقون بأن يُقَدِّمَ لهم كُلَّ ما يمكِنُ من العونِ والتَّشجيعِ؛ فهم الحُلَفاءُ الطَّبيعيُّون للمُصلِحِ الأوربِّيِّ)
[1851] (Medern Egept)) Cromer (p: 180)). .
وقد امتَثَل هو ما دعا إليه، فمال إليهم وعطَف عليهم وقدَّم لهم كُلَّ عونٍ وتشجيعٍ، فكانوا له "حُلَفاءَ طبيعيِّين" فوَجَبت عليه حمايتُهم!
وقد صرَّح اللُّورْد كرُومَر بنَفسِه قائلًا: (إنَّ الشَّيخَ محمَّد عَبدُه يظَلُّ مُفتيًا في مِصرَ ما ظَلَّت بريطانيا العُظمى محتَلَّةً لها)
[1852] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/501). !
وقال
رشيد رضا: (قد تحقَّق أنَّ اللُّورْد كرُومَر قال للخِدِيوي: إن كان تحريكُ بَعضِ المشايِخِ ضِدَّ المُفتي لأجْلِ فَصلِه من الإفتاءِ، فاسمَحْ لي بأن أقولَ: إنَّه ما دام لبريطانيا العُظمى نفوذٌ في مِصرَ فإنَّ الشَّيخَ محمَّد عَبدُه يكونُ هو المفتي حتَّى يموتَ)
[1853] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/564). !
هذه بعضُ حمايتِه في الدَّاخِلِ المصريِّ، أمَّا إذا ذهب إلى الخارِجِ-كترُكْيا مثلًا- فإنَّه يكتُبُ إلى تلميذِه
رشيد رضا: (إنَّ السُّلطانَ لا يستطيعُ حَبْسي لو أراده، وهو يَعلَمُ عَجْزَه عن ذلك حَقَّ العِلمِ؛ ولذلك أسبابٌ لا أحِبُّ ذِكْرَها الآنَ)
[1854] ((الأعمال الكاملة لمحمد عبده)) جمع عمارة (1/117). !
ولكِنْ
محمد رشيد رضا ذكَرَ السَّبَبَ في هذا (وهم لا يَجهَلون أنَّ السِّفارةَ البِريطانيَّةَ كانت بالمِرْصادِ، وأنَّها لا تسكُتُ للحُكومةِ الحَميديَّةِ على ذلك لو أقدَمَت عليه، والسُّلطانُ ورِجالُه لا يَجهَلونَ هذا أيضًا)
[1855] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/860). .
بل إنَّ الاحتلالَ الإنجليزيَّ كان عاملًا أساسيًّا من عوامِلِ عودة محمَّد عَبدُه من المنفى في الشَّامِ إلى مِصرَ وقد صَرَّح اللُّورْد كرُومَر بهذا في كتابِه (مِصرُ الحديثةِ)؛ حيثُ قال: (العَفوُ صَدَر عن محمَّد عَبدُه بسَبَبِ الضَّغطِ البِريطانيِّ)
[1856] ((الفكر الإسلامي الحديث)) للتوبة (ص: 45). .
هذه إشارةٌ تكفي اللَّبيبَ في بيانِ مدى تعاوُنِ إمامِ المَدرَسةِ العقليَّةِ الحديثةِ وأستاذِها مع الاحتلالِ، ومدى حمايتِهم له، وهو أمرٌ له معناه!
ترحيبُ المُستَشرِقين بالمَدرَسةِ العقليَّةِ الحديثةِ ونتائِجِها:كان لأفكارِ المَدرَسةِ العقليَّةِ صَدًى كبيرٌ في دراساتِ المُستَشرِقين، وقد أفاضوا في تقديمِ عِباراتِ الثَّناءِ والتَّرحيبِ بأصحابِ هذه المَدرَسةِ.
فهذا "جِب" يقولُ عنهم: (لسُوءِ الحَظِّ ظَلَّ قِسمٌ كبيرٌ من المُسلِمين المحافِظين ولا سِيَّما في الهندِ لا يخضَعون لهذه الحرَكاتِ الإصلاحيَّةِ المُهَدِّئةِ، وينظُرون إلى الحرَكةِ التي تزعَّمَتْها مَدرَسةُ "عَلِيكَره" بالهندِ، ومَدرَسةُ محمَّد عَبدُه بمِصرَ نَظرةً كُلُّها ريبةٌ وسوءُ ظَنٍّ، لا تَقِلُّ عن رِيبتِهم في الثَّقافةِ الأوروبيَّةِ نَفسِها)
[1857] ((إلى أين يتجه الإسلام)) لجِب عن مجلة المجتمع العدد (364) (ص: 29). .
ثمَّ وَضَّح هذا المُستَشرِقُ الإنجليزيُّ جِب دَورَ المَدرَسةِ العقليَّةِ بقَولِه: (إنَّ في كُلِّ البلادِ الإسلاميَّةِ - باستِثناءِ شِبهِ جزيرةِ العَرَبِ وأفغانستانَ وبَعضِ أجزاءٍ من أواسِطِ إفريقيا- حركاتٌ مُعَيَّنةٌ تختَلِفُ قُوَّةً واتساعًا ترمي إلى تأويلِ العقائِدِ الإسلاميَّةِ وتنقيحِها)، ثمَّ قال: (وقد اتَّجَهت مَدرَسةُ محمَّد عَبدُه بكُلِّ فروعِها وشُعَبِها نحوَ تحقيقِ هذا الهَدفِ)، ثمَّ ذَكَر: (أنَّ الأديبَ "بانِيرْث" المبَشِّر يرى أنَّ حركةَ الإصلاحِ الإسلاميِّ -على النَّحوِ الذي تسيرُ فيه الآنَ- يجِبُ أن تُقابَلَ من المسيحيَّةِ الغربيَّةِ بالتَّشجيعِ)
[1858] ((إلى أين يتجه الإسلام)) لجِب، عن مجلة المجتمع، العدد (364) (ص: 63)، ((الفكر الإسلامي المعاصر)) للتوبة (ص: 61- 62). .
ولعَلَّه يكفي هنا نَقلُ رأيِ "جِب" في تلاميذِ محمَّد عَبدُه؛ حيثُ قال: (إنَّ تلامِذتَه هم من أولئك الذين تعلَّموا على الطَّريقةِ الأوروبيَّةِ، وذلك من ناحيتَينِ؛ أولاهما: أنَّ ما كتبه الشَّيخُ كان بمثابةِ دِرعٍ واقيةٍ للمُصلِحين الاجتماعيِّينَ والسِّياسيِّين؛ فإنَّ عَظمةَ اسمِه قد ساهمت في نَشرِ أخبارٍ لم تكُنْ تُنشَرُ من قَبلُ، ثمَّ إنَّه قد أقام جِسرًا من فوقِ الهُوَّةِ السَّحيقةِ بَينَ التَّعليمِ التَّقليديِّ والتَّعليمِ العقليِّ المُستورَدِ من أوربَّا، الأمرُ الذي مهَّد للطَّالبِ المُسلِمِ أن يدرُسَ في الجامعاتِ الأوروبيَّةِ دونَ خشيةٍ من مخالَفةِ مُعتَقَدِه، وهكذا انفَرَجت مِصرُ المُسلِمةُ بَعدَ كَبتٍ؛ فقد ساهم الشَّيخُ محمَّد عَبدُه أكثَرَ من أيِّ شخصٍ آخَرَ في خَلقِ اتجاهٍ أدبيٍّ جديدٍ في إطارِ الرُّوحِ الإسلاميَّةِ)
[1859] ((الاتجاهات الحديثة في الإسلام)) (ص: 70). .
أمَّا الجاسوسُ البريطانيُّ "أَلْفِريد سكَاوِنْ بِلَنْت" فيَصِفُ دَعوتَهم بأنَّها (الإصلاحُ الدِّينيُّ الحُرُّ "ويَصفِهُم بأنَّهم" زعماءُ الإصلاحِ في الأزهَرِ)، ويَصِفُ مدرستَهم بأنَّها (تلك المَدرَسةُ الواسعةُ التَّقيَّةِ)
[1860] ((التاريخ السِّرِّي لاحتلال إنجلترا مصر)) (ص: 76). .
وقال أيضًا: (من أغرَبِ ما يُروى أنَّ الفضلَ في نَشرِ هذا الإصلاحِ الدِّينيِّ الحُرِّ بَينَ العُلَماءِ في القاهرةِ لا يعودُ إلى عَرَبيٍّ أو مِصريٍّ أو عُثمانيٍّ، ولكِنْ إلى رجُلٍ عَبقريٍّ غريبٍ يُدعى السَّيِّدَ
جمالَ الدِّين الأفغانيِّ)
[1861] ((التاريخ السِّرِّي لاحتلال إنجلترا مصر)) (ص: 77). .
وقال عن محمَّد عَبدُه: (رجُلٌ من أحسَنِ وأحكَمِ الرِّجالِ العِظامِ، ويجِبُ ألَّا يتوَهَّمَ أحدٌ أنِّي إذ أستخِدُم هذه الألفاظَ أُلقي القولَ على عواهِنِه أو أبالِغُ مِثقالَ ذَرَّةٍ، ولكِنِّي أقولُها معتَمِدًا على معرفتي بأخلاقِه في ظروفٍ مختلفةٍ وأحوالٍ صعبةٍ؛ فقد عرَفْتُه في أوَّلِ الأمرِ مُعَلِّمًا دينيًّا، ثمَّ قائدًا لحركةِ الإصلاحِ الاجتماعيِّ... وأخيرًا حينَ سوَّدَتْه مواهِبُه العقليَّةُ ونصرَتْه من جديدٍ)
[1862] ((التاريخ السِّرِّي لاحتلال إنجلترا مصر)) (ص: 80). .
وتحدَّث عن هَدَفِ
الأفغانيِّ فقال: (كان همُّه أن يُطلِقَ العقولَ من الأغلالِ التي قيَّدتْها طَوالَ الأجيالِ الماضيةِ) وأنَّ هذا (يماثِلُ ما حدَث من إحياءِ المسيحيَّةِ بأوربَّا في القرنَينِ الخامِسَ عَشَرَ والسَّادِسَ عَشَرَ)
[1863] ((التاريخ السِّرِّي لاحتلال إنجلترا مصر)) (ص: 78). .
وهذا جُولْد تسِيهَرْ يُبَيِّنُ قَصدَ مَدرَسةِ المنار بأنَّه (تحقيقُ قُدرةِ الإسلامِ على الحياةِ بَينَ تيَّاراتِ العصرِ الحديثِ عن طريقِ إصلاحِ الأحوالِ المغلولةِ بقُيودِ المذاهِبِ الجامدةِ)، واعتَبَر
جمالَ الدِّينِ الأفغانيَّ المحَرِّكَ الأوَّلَ لهذا الاتِّجاهِ
[1864] ((مذاهب التفسير الإسلامي)) (ص: 347-348). .