المَبحَثُ الأوَّلُ: إرهاصاتُ البَعثِ الاعتِزاليِّ المُعاصِرِ
للفِكرِ الاعتِزاليِّ شأنٌ في عَصرِنا الحديثِ، ولولا ذلك ما احتِيجَ إلى التَّعريفِ بهذه الفِرقةِ وأفكارِها ومبادِئِها، ولاعتَبَرْناها من الفِرَقِ التي اندثَرت في التَّاريخِ؛ ذلك أنَّ فَضْحَ مباحِثِها من خلالِ فِكرِ الشِّيعةِ الرَّافِضةِ أو تزييفِ مناهجِها من خلالِ مناهِجِ
الأشاعرةِ إنَّما يَتِمُّ في أثناءِ الرَّدِّ على الرَّافضةِ وغيرِهم في مباحِثِهم ومناهِجِهم، وإنَّما جاء بيانُ الأصولِ العقائِديَّةِ والقواعِدِ المنهجيَّةِ للاعتزالِ لَمَّا أطَلَّ خَلَفُهم في عَصرِنا هذا برُؤوسِهم، ونادَوا بما ادَّعَتْه
المُعتَزِلةُ من مناهِجَ، واتَّخذوا من سبيلِ المدحِ لهم والثَّناءِ على "تحرُّرِهم" و"عَقلانيَّتِهم" ذريعةً إلى نَشرِ آرائِهم الفاسِدةِ، والاستتارِ تحتَ شِعارِ الاعتزالِ لدَسِّ السُّمِّ في الفِكرِ الإسلاميِّ التَّوحيديِّ السَّليمِ.
نعَمْ! قالوا: أليس
المُعتَزِلةُ من "المُسلِمين"؟! ألا يحِقُّ لنا الاقتباسُ منهم والرُّجوعُ إليهم؟! وما لنا "نَجمُدُ" مع الجامِدين من الفُقَهاءِ والأئمَّةِ والمحَدِّثين من السَّلَفِ، ونلتَزمُ طريقَهم ولا نقتَبِسُ عن
المُعتَزِلةِ "المُسلِمين" مواقِفَهم "العقليَّةَ" "الثَّوريَّةَ" "التَّحرُّريَّةَ" التي تتناسَبُ ومُقتَضياتِ عَصرِنا الرَّاهِنِ؟! تلك هي مُجمَلُ دعواهم ومُلخَّصُ قولِهم، وهو تلبيسٌ للحَقِّ بالباطِلِ.
وقد بدأَت جُذورُ ذلك الأمرِ تظهرُ في البلادِ الإسلاميَّةِ السُّنِّيَّةِ بعد أن ذاعت المبادِئُ الثَّلاثةُ التي أطلقَها الصَّهايِنةُ من خِلالِ الثَّورةِ الفَرَنسيَّةِ؛ ليتمَكَّنوا من خلالِها من هَدمِ الخَلقيَّةِ البَشَريَّةِ عامَّةً وإقامةِ المجتَمَعِ اليَهوديِّ على أنقاضِها، وهي مبادئُ "الحُرِّيَّة - المُساواة - العَدْل".
"والحُرِّيَّةُ" تعني أن يتحرَّرَ الإنسانُ من كُلِّ القِيَمِ والأعرافِ والأديانِ، ويفعَلَ ما يحلو له كالبَهيمةِ، وإن تمحَّكَ دُعاتُها في معاني الحُرِّيَّةِ السِّياسيَّةِ أو الفِكريَّةِ التي لم يَقِفِ الإسلامُ حائلًا في سبيلِها يومًا من الأيَّامِ داخِلَ الإطارِ الشَّرعيِّ لها.
"والمساواةُ" تعني: أنْ لا فرقَ بَينَ مُسلِمٍ ونصرانيٍّ ومجوسيٍّ، بل الكُلُّ مُشتَرِكون في صفةِ الإنسانيَّةِ، فهم إخوةٌ بهذا المعنى، ولا معنى للتَّفريقِ بَينَهم بسَبَبِ العقيدةِ؛ فلْنُسقِطِ الأديانَ كُلَّها باسمِ المساواةِ، وليتَّحِدِ البَشَرُ باسمِ الإنسانيَّةِ! وسُبحانَ اللهِ القائِلِ:
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120] ، وقال تعالى أيضًا:
وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران: 118] ، فكيف السَّبيلُ للاتِّحادِ مع أمثالِ هؤلاء من المُشرِكين!؟
"والعَدلُ" يعني: نَزْعَ الثَّرَواتِ من أيدي مالِكيها بدعوى سلامةِ التَّوزيعِ ورَدِّها إلى فئةٍ من اليهودِ المُسَيطِرين على الاقتِصادِ العالَميِّ كُلِّه، وما تجارِبُ الشُّيوعيَّةِ والاشتِراكيَّةِ والرَّأسماليَّةِ إلَّا أفكارٌ يهوديَّةٌ في أصلِها ومَنشَئِها.
وقد ساعدَتْ على نَشرِ الأفكارِ الهَدَّامةِ المُؤَسَّساتُ التي أقامها الصَّهاينةُ لتَكونَ شِعارًا لهم يَنشُرون من ورائِه تلك الخبائِثَ، كنوادي الرُّوتاري واللَّيُونْزِ، وهي مُؤَسَّساتٌ ماسونيَّةٌ تنتَشِرُ في العالَمِ كُلِّه لامتصاصِ طاقتِه وثَرَواتِه، واجتذابِ عِليةِ القومِ فيه للاستفادةِ منهم.
وقد سَرَت عدوى "التَّحَرُّرِ" و"العَقلانيَّةِ" وأمثالِها إلى الوطَنِ الإسلاميِّ؛ نتيجةَ الاختلاطِ بَينَ الشَّرقِ والغَربِ في مَطلَعِ القَرنِ الماضي عن طريقِ البَعَثاتِ التَّعليميَّةِ وغيرِها، فتأثَّر تلامذةُ البَعَثاتِ بما وجَدوه في أورُبَّا، ونقَلوا ذلك في كتُبِهم بقَصدٍ أو بدونِ قَصدٍ، كرِفاعةَ الطَّهطاويِّ، وخَيرِ الدِّينِ التُّونُسيِّ، إلى أن جاء دَورُ
جمالِ الدِّينِ الأسَد آباديِّ المعروفِ ب
الأفغانيِّ، وهو إيرانيُّ المَولِدِ والمَنشَأِ، وتربَّى في أحضانِهم
[1643] يُنظر: ((الإسلام والحضارة الغربية)) لحسين، ((دعوة جمال الدين الأفغاني في الميزان)) لفوزي (ص: 380). ، وقد قام بالعديدِ من الأعمالِ التي كان لها أسوَأُ الأثَرِ في العالَمِ الإسلاميِّ، وكان رئيسًا لأكبَرِ مَحفِلٍ ماسونيٍّ في الشَّرقِ!
قال محمَّد محمَّد حُسَين: (إلى جانِبِ ذلك كُلِّه نجِدُ إشاراتٍ صريحةً في كتابٍ لأحَدِ كِبارِ رجالِ الماسونيَّةِ في مِصرَ -ومن المعروفِ أنَّها دعوةٌ تَخدُمُ الصُّهيونيَّةَ العالميَّةَ- تؤكِّدُ أنَّ جمالَ الدِّينِ كان رئيسًا لمَحفِلِ كوكَبِ الشَّرقِ الماسونيِّ، كما تؤكِّدُ أنَّ محمَّد عَبدُه كان عُضوًا في هذا المَحفِلِ)
[1644] ((الاتجاهات الوطنية)) (1/339). .
ونقَلَ أحمد أمين عن جمالِ الدِّينِ قَولَه: (أوَّلُ ما شَوَّقَني للعَمَلِ في بِنايةِ الأحرارِ عُنوانٌ كَبيرٌ خَطيرٌ (حُرِّيَّةٌ - مُساواةٌ - إخاءٌ)، وإنَّ غَرَضَها منفعةُ الإنسانِ)!
[1645] ((زعماء الإصلاح)) (ص: 73). .
وقد تكَشَّفَت حقيقةُ جمالِ الدِّينِ هذا لعُلَماءِ تُركيا، فطَرَدوه من بلادِهم ورَمَوه بالكُفرِ، مِن أمثالِ الشَّيخِ مصطفى صبري مُفتي الدَّولةِ العُثمانيَّةِ، وغيرِه من العُلَماءِ
[1646] يُنظر: ((دعوة جمال الدين في الميزان)) (ص: 12)، ((موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين)) لصبري. .
ولا مجالَ للإطالةِ في الحديثِ عن جمالِ الدِّينِ هذا إلَّا بِمقدارِ ما ينبغي أن نَعرِفَه كأستاذٍ لمحمَّد عَبدُه صاحِبِ المدرسةِ العقليَّةِ الاعتِزاليَّةِ -التي اصطُلِح على تسميتِها بالمدرسةِ الإصلاحيَّةِ!- والتي ظهَرت أوائِلَ هذا القَرنِ في مِصرَ، وخرج من تحتِ عباءتِها كثيرٌ من الكُتَّابِ الذين اتُّهِموا بالدَّخَلِ في دينِهم مِن بَعدُ، مِثلُ
طه حُسَين، الذي وضَع كتابَ الشِّعرِ الجاهليِّ، فحشاه بالكُفرِ البَواحِ، وحُوكِمَ بسَبَبِه في مِصرَ، وعُزِل من عَمَلِه بالجامعةِ.
ثمَّ تتابعت الكِتاباتُ الهَدَّامةُ المُستَتِرةُ تحتَ سِتارِ الاعتزالِ والتَّحَرُّرِ والعقلانيَّةِ تَنخُرُ في جسَدِ الأمَّةِ المُسلِمةِ بعد أن سقطَت الخلافةُ -التي كانت آخِرَ دِرعٍ يُتَّقى به كيدُ المُفسِدين- فظهَرت كتاباتُ
طه حُسَين عن الشِّعرِ الجاهِليِّ، ثمَّ عن مُستقبَلِ الثَّقافةِ في مِصرَ، وضرورةِ نَبذِ التَّقاليدِ الشَّرقيَّةِ. كذلك كتاباتُ قاسِم أمين عن تحريرِ المرأةِ، وقد تمحَّك هؤلاء بلَفظِ الحُرِّيَّةِ ودعوى العَقلانيَّةِ والتَّقَدُّمِ، وامتدَحوا الاعتزالَ و
المُعتَزِلةَ، واعتَبَروهم الأجدَرَ بالاتِّباعِ في "تُراثنا الإسلاميِّ"!
وتساءَل أحمد أمين: (والآنَ يحِقُّ لنا أن نتساءَلَ: هل كان في مصلحةِ المُسلِمين موتُ الاعتزالِ وانتِصارُ المُحَدِّثين؟)
[1647] ((ضحى الإسلام)) (3/202). .
ثمَّ أعلن أنَّه ليس في صالحِهم القضاءُ على الاعتزالِ، بل كان من الواجِبِ على
المُعتَزِلةِ والمحَدِّثين أن يستَمِرَّا كحِزبَينِ، أحَدُهما تقَدُّميٌّ، والآخَرُ محافِظٌ؛ ليستفيدَ المُسلِمون مِن كليهما!
[1648] يُنظر: ((ضحى الإسلام)) (3/203). .
وما أبعَدَ هذا الفِكرَ عن الفَهمِ الإسلاميِّ المستوحى من أحاديثِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، التي تُقَرِّرُ أنَّ هناك طائفةً واحدةً منصورةً ظاهرةً على الحَقِّ، وأنَّها وَحدَها النَّاجيةُ دونَ سائِرِ الفِرَقِ الاثنَتَينِ والسَّبعينَ!
وقال أحمد أمين صراحةً: (في رأيي أنَّ مِن أكبَرِ مصائِبِ المُسلِمين موتَ
المُعتَزِلةِ)
[1649] ((ضحى الإسلام)) (3/207). .
ولم يكُنْ هذا الرَّأيُ -الذي عَبَّر عنه أحمد أمين بشأنِ دَورِ الاعتزالِ وأهمِّيَّتِه، وضرورةِ تبنِّي المُسلِمين له في طُرُقِ البحثِ ومِنهاجِه- رأيًا ارتآه وَحدَه، بل عُرِف عِندَ كثيرٍ من غيرِه من الكُتَّابِ الذين لمعَت أسماؤُهم في هذه الحِقبةِ الأخيرةِ من الزَّمانِ.
فهذا كاتبٌ آخَرُ -وهو زكي نجيب محمود- يزعُمُ أنَّه إن كان لنا أن نُحييَ جُزءًا من تُراثِنا الإسلاميِّ فلْيَكُنْ هو الاعتزالَ، فقال: (يبدو لكاتِبِ هذه الصَّفحاتِ أنَّ أهَمَّ جماعةٍ يمكِنُ لعَصرِنا أن يَرِثَها في وجهةِ نَظَرِها... أعني أن يَرِثَها في طريقتِها ومِنهاجِها عِندَ النَّظَرِ إلى الأمورِ، هي جماعةُ
المُعتَزِلةِ التي جعَلَت العَقلَ مبدَأَها الأساسيَّ كُلَّما أشكَل أمرٌ)
[1650] ((تجديد الفكر العربي)) (ص: 117). .
ويؤكِّدُ ذلك بَعدَ صَفَحاتٍ، فيقولُ: (فما زِلتُ أرى أنَّه لو أراد أبناءُ عَصرِنا أن يَجِدوا عِندَ الأقدَمينَ خَيطًا فِكريًّا ليتَمَسَّكوا بطَرَفِه فيكونوا على صِلةٍ موصولةٍ بشَيءٍ من تُراثِهم، فذلك هو الوَقفةُ المعتزليَّةُ من المُشكِلاتِ القائمةِ)
[1651] ((تجديد الفكر العربي)) (ص: 123). .
وهذا الكاتِبُ قد وقع في خطَأٍ كان لا بُدَّ له من الوقوعِ فيه؛ نظرًا لانشغالِه طَوالَ حياتِه بالفِكرِ الغَربيِّ دراسةً وتحليلًا وتسليةً -كما عَبَّر بنفسِه في مُقَدِّمةِ كتابِه المذكورِ- إلَّا سَنَواتٍ قليلةً أخذ (يَعُبُّ فيها التُّراثَ عَبًّا) على عَجَلٍ وبنَظَرِ المُستَشرِقين، وهذا الخطَأُ هو اعتقادُ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ كانوا يَقِفون بالمِرصادِ لمحاولاتِ إعمالِ العقلِ في مجالِ الطَّبيعةِ والحياةِ بحُرِّيَّةٍ وانطلاقٍ، وهو أمرٌ ما كان في يومٍ من الأيَّامِ، وإنَّما يَشهَدُ التَّاريخُ أنَّ الصِّراعَ بَينَ أهلِ السُّنَّةِ وبَينَ غيرِهم من الفِرَقِ الضَّالَّةِ كان بسَبَبِ إدخالِ العَقلِ في مجالِ الغيبِ أوَّلًا، ومحاولةِ تحكيمِه في نُصوصِ الشَّارعِ الثَّابتةِ التي توجِّهُ الحياةَ البَشَريَّةَ بكُلِّيَّاتٍ وقواعِدَ قد رَضِيَها اللهُ سُبحانَه لخَلقِه وهو أعلَمُ بهم، أمَّا في مجالِ العُلومِ الطَّبيعيَّةِ والتَّجريبيَّةِ فعلى أمثالِ هؤلاء إبرازُ دليلٍ واحدٍ يَستَدِلُّون به على وقوفِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في وَجهِ تلك العُلومِ، أو عَدَمِ إعمالِ العَقلِ فيها، وحتَّى مهاجمةُ أهلِ السُّنَّةِ للفلاسفةِ إنَّما كانت في الجانِبِ الميتافيزيقيِّ الذي خاضوا فيه غِمارَ العُلومِ الإلهيَّةِ بعُقولِهم القاصرةِ، فخرجوا إلى الكُفرِ البَواحِ، كما فعَل
ابنُ سِينا والفارابيِّ، بينما لم يُنكِرْ أحدٌ على
ابنِ سِينا وَضْعَه لكتابِ (القانون) في الطِّبِّ مَثَلًا، وإنَّما ادعاءاتُ هؤلاء كُلُّها محضُ باطِلٍ وتجَنٍّ وهَوًى، ولَمَّا كان الإسلامُ يعالجُ في مبادئِه وأساسيَّاتِه قواعِدَ اجتماعيَّةً وتشريعاتٍ دوليَّةً وسياسيَّةً واقتصاديَّةً تصادَمت في كثيرٍ منها مع تلك الاتِّجاهاتِ الهدَّامةِ، كان لهم في المواقِفِ الاعتِزاليَّةِ التي قدَّمت العَقلَ فيما لا يمكِنُ الحُكمُ فيه خَيرُ سَنَدٍ في دعواهم للقضاءِ على الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ والنَّهجِ الرَّبَّانيِّ.
وقال عِرفان عبد الحميد تحتَ عُنوانِ "أهمِّيَّةُ
المُعتَزِلةِ في الفِكرِ الإسلاميِّ": (
المُعتَزِلةُ أوَّلُ مدرسةٍ كلاميَّةٍ ظهَرت في الإسلامِ، وكان لها دورٌ كبيرٌ في تطويرِ الفِكرِ الدِّينيِّ والفلسفيِّ فيه؛ فهي التي أوجَدت الأصولَ العقليَّةَ للعقيدةِ الإسلاميَّةِ، وجعَلَت للنَّزعةِ العقليَّةِ في الفِكرِ الإسلاميِّ مكانةً مرموقةً، ورفَعت من شأنِ العَقلِ وأحكامِه وقُدرتِه في الوصولِ إلى الحقيقةِ)
[1652] ((دراسات في الفِرَق والعقائد الإسلامية)) (ص: 125). .
وقال عبدُ السَّتَّارِ الرَّاوي عن الحَرَكةِ الاعتِزاليَّةِ: (حركةٌ ثقافيَّةٌ تتخطَّى المذهبيَّاتِ المُغلَقةَ، تنتَهِجُ في جَدَليَّاتِها الكلاميَّةِ "الحُرِّيَّةَ"، وأنَّها تقيمُ الأدِلَّةَ المَنطِقيَّةَ على عُقمِ الاتِّجاهاتِ السَّلفيَّةِ ومواقِفِها الوُثوقيَّةِ!)
[1653] ((فلسفة العقل)) (ص: 5). .
ومعنى قَولِه: "مواقِفُ السَّلَفِ الوُثوقيَّةُ" هو وُثوقُ أهلِ السُّنَّةِ وأتباعِ السَّلَفِ بقيمةِ النَّصِّ إزاءَ العقلِ، ووثوقُهم من مُقَرَّراتِ النُّصوصِ الثَّابتةِ القَطعيَّةِ.
ثمَّ قال في بيانِ شَرحِه لموقِفِ
أحمدَ بنِ حَنبَلٍ إزاءَ محاوريه من
المُعتَزِلةِ إبَّانَ المحنةِ وتمسُّكِه بالنُّصوصِ الثَّابتةِ: (لَمَّا حاصرَتْه براهينُ
المُعتَزِلةِ العقليَّةُ أقَرَّ بعَجزِ عَقلِه غيرِ المُدَرَّبِ عن رَدِّ جَدَليَّاتِهم الكلاميَّةِ في مسألةِ الصِّفاتِ، يقولُ: لا أدري. هو (اللهُ) كما وصَف نفسَه، لا أزيدُ عن ذلك شيئًا!)
[1654] ((فلسفة العقل)) (ص: 24). .
فقد ضاقت عُقولُهم بَعدَ اثنَي عَشَرَ قَرنًا عن أن يَفهَموا معنى مَوقِفِه هذا وحقيقتِه، الذي حافظ به على قيمةِ النَّصِّ الشَّرعيِّ، وأوقَف محاولاتِ التَّلاعُبِ بدينِ اللهِ عزَّ وجَلَّ.
وهذا الدُّكتور عَدْنان زَرْزور قدَّم رسالتَه عن "الحاكِمِ الجُشَميِّ ومنهجِه في التَّفسيرِ"، ونقَل ثناءَ الشَّيخِ
محمَّد أبو زهرة على
المُعتَزِلةِ في كتابِه (تاريخُ المذاهِبِ الإسلاميَّةِ) مؤيِّدًا هذا الثَّناءَ، فقال: (قال -أي
أبو زهرة- حفظه اللهُ: أوَّلًا: إنَّ هؤلاء -أي
المُعتَزِلةَ- يُعَدُّون فلاسفةَ الإسلامِ حَقًّا؛ لأنَّهم درَسوا العقائِدَ الإسلاميَّةَ دراسةً عقليَّةً مُقيِّدين أنفُسَهم بالحقائِقِ الإسلاميَّةِ غَيرَ مُنطَلِقينَ في غيرِ ظِلِّها، فهم يَفهَمون نصوصَ القرآنِ فَهمًا فلسفيًّا، ويغوصون في فَهمِ الحقائِقِ التي تدُلُّ عليها غيرَ خالِعين للشَّريعةِ ولا مُتحَلِّلين من النُّصوصِ)!
[1655] ((الحاكم الجشمي)) (ص: 21). .
كما أنَّه يدعو (للإفادةِ من منهَجِ
المُعتَزِلةِ العقليِّ -ومن سائِرِ المناهِجِ الكلاميَّةِ الأُخرى- في الدِّفاعِ عن الإسلامِ، وشَرحِ حقائِقِه أمامَ مُناوِئيه ومخالِفيه من أتباعِه والغُرَباءِ عنه على حَدٍّ سواءٍ)!
[1656] ((الحاكم الجشمي)) (ص: 18). فهل يا تُرى في منهَجِ المُتكَلِّمين وطريقةِ
المُعتَزِلةِ ما يُدفَعُ به عن الإسلامِ بحَقٍّ؟!
ثمَّ يَدَّعي دعوى عريضةً خالف فيها منطوقَ ومفهومَ نُصوصٍ ثابتةٍ صريحةٍ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كحديثِ الفِرَقِ الثَّلاثةِ والسَّبعين
[1657] أخرجه أبو داود (4596)، والتِّرْمِذي (2640) واللَّفظُ له، وابن ماجه (3991) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه التِّرْمِذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (6731)، والألباني في ((صحيح سنن التِّرْمِذي)) (2640) وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4596)، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1333). وحديثِ
الطَّائفةِ المنصورةِ [1658] أخرجه التِّرْمِذي (2192) واللَّفظُ له، وابن ماجه (6)، وأحمد (15597) من حديثِ قُرَّةَ بنِ إياسٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه التِّرْمِذيُّ، وابنُ حِبان في ((صحيحه)) (61)، والألباني في ((صحيح سنن التِّرْمِذي)) (2192)، وصحَّح إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (15597). ، فقال: (ليس في تاريخِ الإسلامِ فرقةٌ واحدةٌ تستطيعُ أن تزعُمَ لنَفسِها فَهْمَ العقيدةِ الإسلاميَّةِ على الوَجهِ الأكمَلِ، حتَّى يكونَ كُلُّ من خالفها في شيءٍ ضالًّا مُبتَدِعًا أو من أهلِ الزَّيغِ والأهواءِ، ولا تخلو فِرقةٌ واحدةٌ من الغُلُوِّ في جانبٍ، والتَّفريطِ في جانِبٍ آخَرَ، وليست مُهِمَّتُنا الانتصارَ لفِرقةٍ على أُخرى، أو تعميقَ الخلافِ بَينَ هذه الفِرَقِ)
[1659] ((الحاكم الجشمي)) (ص: 18). .
وقد اشتمَلَت هذه الفِقرةُ وَحدَها على ثلاثةِ أخطاءٍ مُرَكَّبةٍ:
أوَّلُها: قولُه: إنَّه لا توجَدُ فرقةٌ واحدةٌ فَهِمَت العقيدةَ الإسلاميَّةَ على الوَجهِ الأكمَلِ!
فأين هو من قَولِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي ظاهِرين على الحَقِّ )) [1660] أخرجه مسلم (1920) من حديثِ ثوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه. ؟ وقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وإنَّ هذه المِلَّةَ ستفترِقُ على ثلاثٍ وسبعين؛ ثِنتانِ وسبعون في النَّارِ، وواحِدةٌ في الجنَّةِ، وهي الجماعةُ )) [1661] أخرجه أبو داود (4597) واللَّفظُ له، وأحمد (16937) من حديثِ معاويةَ بنِ أبي سفيانَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (443)، وشعيب الأرناؤوط بشواهده في تخريج ((سنن أبي داود)) (4597)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4597)، وحَسَّنه لغيرِه الوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (577). ؟ وأين فِرقةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ التي من زُعمائِها أئمَّةُ الإسلامِ:
أبو حنيفةَ، و
مالِكٌ، و
الشَّافِعيُّ، و
أحمدُ، وغيرُهم كثيرٌ ممَّن اتَّفَقت عقائِدُهم وإن اختلفوا في بعضِ الفُروعِ!؟ وهل العقيدةُ الإسلاميَّةُ بهذا القَدرِ من الصُّعوبةِ لِيتعَذَّرَ فَهمُها على أيِّ طائفةٍ طَوالَ هذه القُرونِ؟!
أوَليس معنى ما تقدَّم من أنَّه (حتى يكونَ مَن خالفَها في شيءٍ ضالًّا ومبتَدِعًا أو من أهلِ الزَّيغِ والأهواءِ) إنكارًا صريحًا لوجودِ أهلِ الأهواءِ ابتداءً، وأين نذهَبُ بأقوالِ أئمَّةِ الإسلامِ التي تحَذِّرُ من اتِّباعِ أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ؟
ثانيها: قولُه: ولا تخلو فرقةٌ واحدةٌ من الغُلُوِّ في جانبٍ والتَّفريطِ في جانبٍ آخَرَ!
فيُقالُ: إنَّ سِمةَ أهلِ السُّنَّةِ الوسطيَّةُ لا إلى إفراطٍ ولا إلى تفريطٍ، كما وصَفَهم
ابنُ تيميَّةَ بقولِه: (هم وَسَطٌ في بابِ أفعالِ اللهِ عزَّ وجَلَّ بَينَ
المُعتَزِلةِ المُكَذِّبين بالقَدَرِ، والجَبريَّةِ النَّافين لحِكمةِ اللهِ ورحمتِه وعَدلِه. وفي بابِ الوعدِ والوعيدِ بَينَ الوعيديَّةِ الذين يقولون بتخليدِ عُصاةِ المُسلِمين في النَّارِ، وبَينَ
المُرجِئةِ الذين يَجحَدون بعضَ الوعيدِ وما فَضَّل اللهُ به الأبرارَ على الفُجَّارِ. وهم وَسَطٌ في أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَ الغالي في بعضِهم الذي يقولُ فيه بإلهيَّةٍ أو نُبوَّةٍ، والجافي فيهم الذي يُكَفِّرُ بعضَهم أو يُفَسِّقُه، وهم خيارُ هذه الأمَّةِ)
[1662] ((الجواب الصحيح)) (1/8). .
وثالثُها: قولُه: "وليست مُهِمَّتُنا اليومَ الانتصارَ لفرقةٍ على أُخرى".
فيقالُ: إنَّ من المهِمِّ جِدًّا مناهَضةَ الإلحادِ والكُفرِ، وأمَّا التَّلفيقُ ومحاولةُ التَّقارُبِ المزعومِ بَينَ الفِرَقِ فهو بمثابةِ الطَّعنِ في صِحَّةِ عقيدةِ الحَقِّ التي عليها أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ.
ولو تُتُبِّعَ هذا التَّيَّارُ الذي انتَشَر في الكتاباتِ الحديثةِ لطال الأمرُ، وفيما ذُكِر كفايةٌ كدليلٍ وشاهِدٍ على محاولةِ الفِكرِ الاعتِزاليِّ العودةَ إلى السَّطحِ من خلالِ مفاهيمِ التَّحَرُّرِ والتَّقدُّمِ والعقلانيَّةِ، محمولًا على أقلامٍ بعيدةٍ عن منهَجِ الإسلامِ الصَّافي الأصيلِ.