المَبحَثُ الخامِسُ: المَدرَسةُ العَقلانيَّةُ والدَّعوةُ إلى التَّحَرُّرِ
يمكِنُ للباحِثِ من خِلالِ كتاباتِ عديدٍ من الكُتَّابِ في العُقودِ الماضيةِ أن يتلَمَّسَ آثارَ تلك المَدرَسةِ الفِكريَّةِ التي ينتمي إليها فِكرُ هؤلاء الكُتَّابِ، ويَستَدِلَّ عليها بوَحدةِ الآراءِ، وتقارُبِ المفاهيمِ، وتشابُهِ الموضوعاتِ، وتَلاقي المقاصِدِ والغاياتِ.
وهذه المَدرَسةُ -وإنْ لم تتَّخِذْ صِبغةً رسميَّةً- تَفجَأُ القارِئَ المُسلِمَ بتلك الدَّعاوى والآراءِ التي هي امتدادٌ لِما عُرِف بالمَدرَسةِ الإصلاحيَّةِ، وهي كذلك إحياءٌ للمَنهَجِ الاعتِزاليِّ في تناوُلِ الشَّريعةِ، وتحكيمِ العقلِ فيما لا يُحتكَمُ فيه إليه.
ويمكنُ تحديدُ ما تجتمعُ عليه آراءُ تلك المَدرَسةِ في كَلِمةٍ واحدةٍ، هي الحَداثةُ أو العَصرانيَّةُ، وما تعنيه من تناوُلِ أصولِ الشَّريعةِ وفروعِها بالتَّعديلِ والتَّغييرِ، تبَعًا للمناهِجِ العقليَّةِ التي اصطنَعها الغَربُ حديثًا، أو ما تُمليه عَقليَّاتُ أربابِ ذلك المذهَبِ، التي تتلمذَتْ لتلك المناهِجِ. ولا يَسلَمُ من هذا التَّطويرِ أمرٌ من أمورِ الشَّريعةِ؛ كأصولِ الفِقهِ، والحديثِ، أو التَّفسيرِ، أو مسائِلِ الفِقهِ، كالحِجابِ والطَّلاقِ، أو تعَدُّدِ الزَّوجاتِ، والحُدودِ، أو الطَّامَّةِ التي عُرِفَت بالتَّقارُبِ بَينَ الأديانِ!
ومن دُعاةِ الفِكرِ الاعتِزاليِّ الحديثِ: سعد زغلول الذي نادى بنَزعِ الحِجابِ عن المرأةِ المِصريَّةِ، وقاسِم أمين مؤلِّفُ كِتابِ (تحريرُ المرأةِ) و (المرأةُ الجديدةُ)، ولطفي السَّيِّد الذي أطلقوا عليه لَقَب: "أستاذُ الجيلِ"، وطه حُسَين الذي أسمَوه: "عميد الأدَبِ العربيِّ"!
ومن هؤلاء أيضًا مُفَكِّرون عَلْمانيُّون لم يُعرَفْ عنهم الالتِزامُ بالإسلامِ، مِثلُ: زكي نجيب محمود صاحِبِ (الوَضعيَّةُ المنطقيَّةُ)، وهي من الفلسفةِ الوضعيَّةِ الحديثةِ التي تُنكِرُ كُلَّ أمرٍ غيبيٍّ؛ فهو يزعُمُ أنَّ الاعتزالَ جزءٌ من التُّراثِ، ويجِبُ أن نُحيِيَه، وعلى أبناءِ العصرِ أن يَقِفوا موقِفَ
المُعتَزِلةِ من المُشكِلاتِ القائمةِ
[1665] يُنظر: ((تجديد الفكر العربي)) (ص: 123). .
وأحمد أمين صاحِبِ المُؤَلَّفاتِ التَّاريخيَّةِ والأدبيَّةِ، مِثلُ: (فَجرُ الإسلامِ) و(ضُحى الإسلامِ) و(ظَهَر الإسلامُ)، كان يتباكى على موتِ
المُعتَزِلةِ في التَّاريخِ القديمِ، وكأنَّ من مصلحةِ الإسلامِ بقاءَهم، ويقولُ في كتابِه: (ضُحى الإسلام): (في رأيي أنَّ من أكبَرِ مَصائِبِ المُسلِمين موتَ
المُعتَزِلةِ)
[1666] ((ضحى الإسلام)) (3/ 207). !
وفي القارَّةِ الهِنديَّةِ ظهر السِّير أحمد خان الهنديُّ، الذي مُنِح لَقَبَ "سِير" مِن قِبَل السُّلُطاتِ البِريطانيَّةِ تكريمًا له، والذي يرى أنَّ القرآنَ الكريمَ هو المصدَرُ الوحيدُ الذي يجِبُ أن نستقيَ منه أحكامَ الشَّريعةِ، والأحاديثَ لا يُعتَدُّ بها في هذا الشَّأنِ لتأخُّرِ تدوينِها، ولأنَّ أكثَريَّتَها أحاديثُ آحادٍ لا تفيدُ يقينًا! كما يُحِلُّ
الرِّبا البسيطَ في التِّجارةِ والمعامَلاتِ، ويرفُضُ عقوبةَ الرَّجمِ والحِرابةِ، وينفي شرعيَّةَ الجهادِ لنشرِ الدِّينِ!
ويُحِلُّ سيد أمير علي -تلميذُ أحمد خان- زواجَ المُسلِمةِ من كتابيٍّ، والاختلاطَ بَينَ الرَّجُلِ والمرأةِ! كذلك يرى محمَّد أسَد أنَّ اللهَ سُبحانَه لا يُوصَفُ إلَّا بالصِّفاتِ السَّلبيَّةِ (الإيمانُ ليس كذا وليس كذا...) تمامًا كما قالت
المُعتَزِلةُ [1667] يُنظر: ((عن مفهوم تجديد الدين)) لسعيد (ص: 151). ، وينحو منحى محمَّد عَبدُه في إنكارِ المُعجِزاتِ المادِّيَّةِ، كتفسيرِ إهلاكِ أصحابِ الفِيلِ بوَباءِ الحَصبةِ أو الجُدَريِّ الذي حملَتْه الطَّيرُ الأبابيلُ!
ومن المُعاصِرين محمَّد فتحي عثمان الذي نادى بتطويرِ العقيدةِ والشَّريعةِ معًا في كتابِه عن الفِكرِ الإسلاميِّ والتَّطَوُّرِ، ويزيدُ الدُّكتورُ حسن التُّرابي خُطوةً، فيدعو إلى تجديدِ أصولِ الفقهِ، فقال: (إنَّ إقامةَ أحكامِ الإسلامِ في عَصرِنا تحتاجُ إلى اجتهادٍ عقليٍّ كبيرٍ، وللعَقلِ سبيلٌ إلى ذلك لا يسَعُ عاقِلًا إنكارُه، والاجتهادُ الذي نحتاجُ إليه ليس اجتهادًا في الفُروعِ وَحدَها، وإنَّما هو اجتهادٌ في الأصولِ أيضًا)
[1668] ((الدعوة إلى التجديد)) لعصام البشير. ، ويدعو عبدُ اللَّطيفِ غزالي إلى دَثْرِ التُّراثِ كُلِّه؛ حيثُ يقولُ: (أمَّا عُلومُ سَلَفِ المُسلِمين فهي شَيءٌ متخَلِّفٌ غايةَ التَّخَلُّفِ بالنِّسبةِ لِما لدينا، ولا أقولُ: لما لدى الأوربِّيِّين من علومٍ)
[1669] ((الدعوة إلى التجديد)) لعصام البشير. !
أمَّا في الحُدودِ فيرى حَسَن التُّرابي أنَّ
الرِّدَّةَ الفِكريَّةَ التي لا يصاحِبُها خروجٌ على نظامِ الدَّولةِ، لا تستوجِبُ إقامةَ الحَدِّ! ويعني بالرِّدَّةِ الفِكريَّةِ الكُفرَ الاعتِقاديَّ بالتَّعبيرِ الشَّرعيِّ. ويرى محمد فتحي عثمان أنَّ عُقوبةَ
الرِّدَّةِ كانت لضَرورةٍ عسكريَّةٍ أملَتْها الظُّروفُ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم!
أمَّا عن التَّقارُبِ بَينَ الأديانِ فيرى عبد العزيز كامِل أنَّ مِنطَقةَ الشَّرقِ الأوسَطِ هي مِنطَقةُ التَّوحيدِ بدياناتِها الثَّلاثِ: الإسلامِ، والمسيحيَّةِ، واليهوديَّةِ
[1670] ((جريدة الأخبار المصرية)) (17/10/1979م) نقلًا عن ((الدعوة إلى التجديد)) للبشير. !
أمَّا عبدُ اللهِ غزالي فيَشرَحُ معنى الإسلامِ بقولِه: (الإسلامُ: هو أن تُسلِمَ وَجهَك للهِ وأنت مُحسِنٌ، وأيُّ امرئٍ كان هذا حالَه فإنَّه مُسلِمٌ، سواءٌ كان مُؤمِنًا بمحمَّدٍ، أو كان من اليهودِ، أو النَّصارى، أو الصَّابِئين)! ويُبَيِّنُ أنَّ الجنَّةَ ليست حِكرًا على المُسلِمين المُوحِّدين، وأنَّ الدِّينَ المُنجيَ عِندَ اللهِ ليس الإسلامَ وَحدَه! فيقولُ: (لماذا يعتَقِدُ أتباعُ كُلِّ دينٍ أنَّ اللهَ يختَصُّهم بالجنَّةِ ويَذَرُ غَيرَهم وأكثَرَ النَّاسِ في النَّارِ؟) ثمَّ يؤكِّدُ أنَّ حقيقةَ الشِّركِ هي العَداءُ بَينَ الأديانِ
[1671] ((نظرات في الدين)) (ص: 16). !
وبَعدُ؛ فلْيَحذَرِ الشَّبابُ من تلك الدَّعَواتِ الباطِلةِ وإن تحَلَّت بالأسماءِ الرَّنَّانةِ، واللَّافتاتِ المُضيئةِ التي تتحَدَّثُ عن العقلِ والتَّحَرُّرِ، والتَّجديدِ والتَّوفيقِ، أو تستَتِرُ خَلفَ تلك الفِرَقِ التي تعَلَّقت باسمِ الإسلامِ في تاريخِه رَغمَ ضَلالِها وانحِرافِها.