تمهيدٌ: لمحةٌ موجزةٌ عن امتدادِ الخروجِ على الحكَّامِ من الأسلافِ إلى الأخلافِ
المعنيُّ بفِرَقِ
الخَوارِجِ تلك التي كان لكُلٍّ منها كِيانُها الخاصُّ واسمُها الذي تتمَيَّزُ به عن غيرِها من الفِرَقِ نتيجةً للاختلافاتِ التي حدَثت بينها في الآراءِ الاعتقاديَّةِ، ولم يكُنِ
الخَوارِجُ على هذا النَّحوِ بَعدَ موقِعةِ النَّهْرَوانِ مباشَرةً، وإنَّما بدأت تلك المَرحلةُ من تاريخِ
الخَوارِجِ بظهورِ نافِعِ بنِ الأزرَقِ وبَدءِ تكوينِ فِرقةِ الأزارقةِ، وذلك في أوائِلِ السِّتينيَّاتِ من الهجرةِ، وبه وبفِرقتِه يبتَدِئُ مؤَرِّخو الفِرَقِ -بَعدَ كلامِهم على المُحَكِّمةِ الأولى- من التَّأريخِ لفِرَقِ
الخَوارِجِ، وذِكرِ آرائِها المختَلِفةِ -بل المتناقِضةِ أحيانًا- سواءٌ منها الفِرَقُ الكبرى أو ما تشعَّب عن كُلٍّ منها من فِرَقٍ صُغرى.
أمَّا ما قَبلَ هذه المرحلةِ -وهي الفترةُ التي تقَعُ بَينَ موقعةِ النَّهْرَوانِ وظهورِ الأزارقةِ، فقد كان
الخَوارِجُ فيها مجرَّدَ جماعاتٍ حَربيَّةٍ تثورُ هنا وهناك على عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، أو على الحُكمِ الأُمَويِّ مِن بَعدِه، وكانوا جميعًا على رأيٍ واحدٍ في المُطالبةِ بتحكيمِ كتابِ اللهِ تعالى، ورَفعِ المظالِمِ، والعَدلِ في تقسيمِ الفَيءِ، إلى غيرِ ذلك ممَّا مضى عليه سلَفُهم من أهلِ النَّهْرَوانِ، دونَ أن تكونَ بَينَهم خلافاتٌ عقائديَّةٌ، وليس معنى هذا أنَّ حَرَكاتِ
الخَوارِجِ انتهت بقيامِ نافِعِ بنِ الأزرَقِ وفِرقتِه، بل ظلَّت تلك الحرَكاتُ الثَّوريَّةُ جنبًا إلى جنبٍ مع وجودِ الفِرَقِ العقائديَّةِ طَوالَ الحُكمِ العباسيِّ والأُمَويِّ.
وقد انتشر هؤلاء
الخَوارِجُ في بقاعٍ كثيرةٍ من العالَمِ الإسلاميِّ، وكثيرٌ عَدَدُهم، وبديهيٌّ أنَّ ذلك لا يرجِعُ إلى مجرَّدِ أولئِكَ التِّسعةِ الذين قيل عنهم: إنَّهم هم الذين نجَوا من موقعةِ النَّهْرَوانِ، وإنَّما يرجِعُ إلى وجودِ هذا العَدَدِ الكبيرِ من
الخَوارِجِ الذين لم يلتَحِقوا بجيشِ النَّهْرَوانِ، وإلى وجودِ مَن بَقِيَ من هذا الجيشِ بَعدَ المعركةِ، وكانوا عددًا كثيرًا على الأرجَحِ، ثُمَّ إلى وجودِ هؤلاء الذين اعتَزلوا حَربَ النَّهْرَوانِ من
الخَوارِجِ شكًّا منهم في مدى صِحَّةِ مَوقِفِهم في قتالِ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، مِثلُ فَروةَ بنِ نَوفَلٍ وغَيرِه، وكانوا أكثَرَ من 1700 رجُلٍ.
وكذلك الذين طلَبوا الأمانَ من
الخَوارِجِ فأمَّنهم عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه، إضافةً إلى الفارِّين من وجهِ العَدالةِ والموالي وطلَّابِ الرِّياسةِ والمُطالِبين بالثَّاراتِ؛ فقد كان هؤلاء جميعًا يُشَكِّلون حركاتِ خروجٍ على عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، والحُكمِ الأُمَويِّ مِن بَعدِه، ثُمَّ الحُكمِ العباسيِّ، وكان مُعظمُهم من خَوارِج النَّهْرَوانِ وما قبلَه؛ ولهذا فليس هناك انفصالٌ بَينَ خَوارِجِ النَّهْرَوانِ والفِرَقِ التي ظهَرت فيما بَعدُ، كما يقولُ البعضُ، وإنَّما تاريخُ
الخَوارِجِ ممتَدٌّ من أسلافِ
الخَوارِجِ إلى أخلافِهم، ولا يمنَعُ هذا من أنَّ الأوضاعَ التَّاليةَ في الحُكمِ الأُمَويِّ والعبَّاسيِّ قد ساعدت على تعميقِ معنى الخروجِ وتكثيرِ عَدَدِ
الخَوارِجِ ممَّن لم يكونوا من المُحَكِّمةِ الأولى
[175] يُنظر: ((الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية)) لعواجي (ص: 125- 155). بتصرُّفٍ يسيرٍ. وللاستزادة يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (10/ 577- 647)، ((الخلافة الأموية من كتاب الأخبار الطوال المنسوب للدينوري)) للبريدي (ص: 277- 315). .