الفَصلُ الثَّاني: حرَكاتُ الخَوارِجِ الثَّوريَّةُ ضِدَّ الحُكمِ الأُمَويِّ
ظَلَّ
الخَوارِجُ يَتتابعون في الخروجِ بَعدَ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، وخِلالَ الحُكمِ الأُمَويِّ، وظَلَّ حالُهم على نحوِ ما كانوا عليه خلالَ خلافةِ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه؛ ذلك أنَّه لَمَّا استتبَّ الأمرُ ل
معاويةَ رَضيَ اللهُ عنه واجتمَعَت عليه الكَلِمةُ كان
الخَوارِجُ قد اشتعَلَت جذوتُهم وثبت في أذهانِهم فكرةُ الخروجِ على بني أميَّةَ وعلى رأسِهم
مُعاويةُ بنُ أبي سُفيانَ رَضيَ اللهُ عنه، فأخذوا في التَّجَمُّعِ والتَّربُّصِ للخروجِ في أيِّ فرصةٍ كانت؛ إذ كان
معاويةُ في نظرِهم مغتَصِبًا للحُكمِ، ويجِبُ قتالُه، بل هو في نظَرِهم قُربةٌ للهِ بعكسِ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه؛ فقد كان بعضُهم متردِّدًا في مواجهتِه؛ لهذا فبمُجَرَّدِ وفاةِ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه انفتحت على
معاويةَ رَضيَ اللهُ عنه وحُكَّامِ بني أميَّةَ مِن بَعدِه ثَوراتٌ وحروبٌ طاحنةٌ من
الخَوارِجِ؛ فكانوا شوكةً في جنبِ الدَّولةِ شغَلَتْهم فترةً من الزَّمَنِ.
وكان أوَّلَ هؤلاء الخارِجين على بني أُميَّةَ:
فَروةُ بنُ نَوفَلٍ الأشجَعيُّ، وسمَّاه البَغداديُّ قُرَّةَ
[185] يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص: 82). ، خرج سنةَ 41هـ، وكان هذا الرَّجلُ ممَّن اعتزل قتالَ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، وانحاز معه خمسُمائةِ فارسٍ من
الخَوارِجِ إلى شَهْرَزُورَ قائلًا: (واللهِ ما أدري على أيِّ شيءٍ نقاتِلُ عَلِيًّا؟ أرى أن أنصَرِفَ حتَّى تتَّضِحَ لي بصيرتي في قتالِه أو أتابِعَه). أي: إنَّه كان شاكًّا في قِتالِ عليٍّ، أمَّا
معاويةُ فقد بَيَّنَ موقِفَه منه بقولِه: (قد جاء الآنَ ما لا شَكَّ فيه، فسِيروا إلى
معاويةَ فجاهِدوه).
ثمَّ ذهبوا إلى النُّخَيْلةِ فعَسْكرَوا بها وهي مكانٌ قريبٌ من الكوفةِ، فأرسل لهم
معاويةُ جيشًا من أهلِ الشَّامِ، ولكِنَّ
الخَوارِجَ هزموه، فلجأ
معاويةُ إلى حيلةٍ فقال لأهلِ الكوفةِ: (واللهِ لا أمانَ لكم عِندي حتَّى تَكفُّوهم)، فوقع هذا التَّهديدُ منهم موقِعًا عظيمًا، فخرجوا لقتالِهم، وعندما رآهم
الخَوارِجُ قالوا لهم: (أليس
معاويةُ عَدُوَّنا وعَدُوَّكم؟ دعونا نقاتِلْه، فإنْ أصَبْنا كُنَّا قد كفيناكم عَدُوَّكم، وإن أصابَنا كُنتُم قد كُفيتُمونا)؛ فلم يقتَنِعوا بقولِهم هذا، فقالت
الخَوارِجُ: (رَحِم اللهُ إخوانَنا من أهلِ النَّهرِ، هم كانوا أعلَمَ بكم يا أهلَ الكوفةِ)، ثُمَّ اختُطِف (أشجَعُ) صاحِبُهم وأُدخِل مقهورًا إلى الكوفةِ، ثُمَّ مكَّنَتْه الفرصةُ فيما بَعدُ فخرج على المغيرةِ بنِ شُعبةَ فأرسَلَ له المغيرةُ شَبَثَ بنَ رِبعيٍّ أو مَعقِلَ بنَ قَيسٍ مع فُرسانٍ، فلما التَقَوا قُتِل فَروةُ بشَهْرَزُورَ أو ببعضِ سوادِ العِراقِ
[186] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/166)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/409)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (8/22). .
وأمَّا جيشُ فَروةَ فقد ولَّوا عليهم عبدَ اللهِ بنَ أبي الحَوساءِ الطَّائيَّ، وسمَّاه البَغداديُّ عبدَ اللهِ بنَ جُوشَا
[187] يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص: 82). .
وقد ثار هذا الخارِجيُّ على
معاويةَ بَعدَ أن أوثَقَ أهلُ الكوفةِ صاحِبَهم فَروةَ، فوَلَّاه
الخَوارِجُ أمْرَهم، وكان تهديدُ
مُعاويةَ لا يزالُ له رنينٌ في آذانِ أهلِ الكوفةِ، فقاتلوهم حتَّى قتلوهم هم ورئيسَهم ابنَ أبي الحَوساءِ في ربيعٍ الأوَّلِ أو الآخِرِ سَنةَ 41هـ
[188] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (3/410). ، في موضِعِ خُروجِهم بالنُّخَيْلةِ.
ثمَّ خرج عليه حَوثَرةُ بنُ وَداعٍ الأسديَّ في بَرازِ الرُّوزِ
[189] براز الرُّوز: قرية في شمالي مركز لواء بغداد، اسمها الحالي (بلد روز). يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (1/ 364)، ((مجلة لغة العرب العراقية)) (1/ 369). ، بَعدَ قتلِ ابنِ أبي الحَوساءِ؛ حيثُ اجتمع
الخَوارِجُ فوَلَّوه أمرَهم، وكان لا يَشُكُّ في أنَّ قتالَ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ حَقٌّ. ولمَّا اجتمع له مائةٌ وخمسون رجلًا أتى النُّخَيلةَ مكانَ هزيمةِ سلَفِه ابنِ أبي الحَوساءِ، فانضَمَّ إليه من بَقِيَ من جنودِ أبي الحوساءِ، وهم عدَدٌ قليلٌ، فأراد
معاويةُ أن يَضرِبَه بأبيه فأرسَلَه إليه وقال له: اخرُجْ إلى ابنِك فلعَلَّه يَرِقُّ إذا رآك. فخرج إليه وناشده وذكَّره فلم يقبَلْ منه، فأراد أن يُثيرَ فيه عَطْفَ الأبُوَّةِ، فقال: ألَا أجيئُك بابنِك؛ فلعَلَّك إذا رأيتَه كَرِهتَ فِراقَه؟ فردَّ عليه حوثرةُ قائلًا له: أنا إلى طَعنةٍ من يَدِ كافِرٍ برُمحٍ أنقَلِبُ فيه ساعةً أَشْوَقُ منِّي إلى ابني! فيَئِس أبوه منه وأخبر
معاويةَ خَبَرَه. فأرسل إليه
مُعاويةُ جيشًا بقيادةِ عبدِ اللهِ بنِ عَوفٍ في ألفَينِ، وكان معه أبو حَوثَرةَ، وفي المعركةِ دعا ابنَه إلى البِرازِ، فقال له حَوثرةُ: يا أبتِ لك في غيري سَعةٌ! واشتَدَّ القِتالُ وتبارَزَ حَوثَرةُ وعبدُ اللهِ بنُ عوفٍ، فطَعَن ابنُ عَوفٍ حَوثَرةَ فأرداه قتيلًا، وقُتِل أصحابُه إلَّا خمسين رجلًا دخلوا الكوفةَ
[190] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (3/410). .
ثمَّ أراد الخروجَ على
معاويةَ رَضيَ اللهُ عنه سنةَ 41هـ رجلٌ من محارِبٍ يُسَمَّى (مَعْنًا) فصُغِّرَ إلى مُعَينِ بنِ عَبدِ اللهِ، كان يريدُ الخروجَ في زمَنِ ولايةِ المغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضيَ اللهُ عنه، فلمَّا علم بذلك المغيرةُ أرسل إليه وعنده جماعةٌ، فأخذه وحبسه وكتب في شأنِه إلى
معاويةَ، فكتب إليه
معاويةُ أن يَستَشهِدَه، فإن شَهِد أنَّ خلافةَ
مُعاويةَ حَقٌّ أطلقَه. فأحضره المغيرةُ وقال له: أتشهَدُ أنَّ
معاويةَ خليفةٌ وأنَّه أميرُ المُؤمِنين؟ فأجابه بقولِه: (أشهَدُ أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ حقٌّ، وأنَّ السَّاعةَ آتيةٌ لا رَيبَ فيها، وأنَّ اللهَ يبعَثُ مَن في القُبورِ)، فأمَرَ به فقَتَله قَبيصةُ الهلاليُّ الذي لقيَ فيما بَعدُ حتفَه على أيدي
الخَوارِجِ الذين ائتَمَروا به
[191] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (3/412). انتقامًا لقَتلِه مَعْنًا.
ثمَّ خرج أبو مريمَ وهو مولًى لبني الحارِثِ بنِ كَعبٍ، وقد أحبَّ أن يُشرِكَ النِّساءَ معه في الخروجِ؛ إذ كانت معه امرأتانِ قَطامِ وكَحيلةَ، فكان يقالُ لهم: يا أصحابَ كُحَيْلةَ وقَطامِ؛ تعييرًا لهم، وقد أراد بهذا أن يَسُنَّ خُروجَهنَّ، فعابه أبو بلالٍ، فقال له: قد قاتَل النِّساءُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومع المُسلِمين بالشَّامِ، وسأردُّهما، فردَّهما وكان بموضِعٍ يقالُ له بادُورَيَا
[192] في العِراقِ. يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (1/ 317)، تعليق تدمري على ((تاريخ الإسلام)) (29/ 31). فوَجَّه إليه المغيرةُ جابِرًا البَجَليَّ، فقاتله حتَّى قتَلَه وانهزم أصحابُه
[193] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (3/412). .
ثمَّ خَرَج رجلٌ يقالُ له أبو ليلى، وقبل أن يُعلِنَ خروجَه دخل مسجِدَ الكوفةِ وأخذ بعِضادَتَيِ البابِ، وكان في المسجِدِ عَدَدٌ من الأشرافِ، ثُمَّ صاح بأعلى صوتِه: لا حُكمَ إلَّا للهِ، فلم يعتَرِضْ له أحدٌ، ثُمَّ خرج وخرج معه ثلاثون رجلًا من الموالي بسَوادِ الكوفةِ، فبعث له المغيرةُ مَعقِلَ بنَ قَيسٍ الرِّياحيَّ، فقَتَله سَنةَ 42هـ
[194] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (3/413). .
ثمَّ خرج المُستَورِدُ بنُ عُلَّفةَ التَّيميُّ، وكان بدءُ خُروجِهم سَنةَ 42هـ عِندَما بدؤوا يتشاوَرون في ذلك، ولمَّا جاءت سنةُ 43هـ أعلنوا الخروجَ المُسَلَّحَ انتقامًا لمصارعِ إخوانِهم، فقد كانت
الخَوارِجُ يلقى بعضُهم بعضًا فيَذكُرون مصارِعَ إخوَتِهم بالنَّهرِ، فيترَحَّمون عليهم ويحُضُّ بعضُهم بعضًا على الخُروجِ للانتقامِ من حُكَّامِهم الظَّلَمةِ الذين عطَّلوا الحُدودَ واستأثروا بالفَيءِ بزَعْمِهم، فاجتَمَع رأيُهم على ثلاثةِ نَفَرٍ منهم لتولِّي قيادتِهم: المُستَورِدُ بنُ عُلَّفةَ التَّيميُّ، ومعاذُ بنُ جُوَينيٍّ الطَّائيُّ، وحِبَّانُ بنُ ظَبيانَ السُّلَميُّ، الذي كان منزِلُه مكانًا لاجتماعاتِهم، ولكِنَّ كُلَّ واحدٍ من هؤلاء الثَّلاثةِ دفع تولِّي الخلافةِ عن نفسِه، وأخيرًا اتَّفقوا على أن يتولَّاها المُستَورِدَ هذا، وكانوا أربعَمائةِ شخَصٍ ونادَوه بأميرِ المُؤمِنين، وكان المُستَورِدُ ناسِكًا كثيرَ الصَّلاةِ، وله آدابٌ وحِكَمٌ مأثورةٌ، واتُّفِق على أن يكونَ الخروجُ غُرَّةَ شَعبانَ سَنةَ 43هـ.
ولمَّا عَلِم بذلك المغيرةُ بنُ شُعبةَ أرسل مديرَ شُرطتِه قَبيصةَ بنَ الدَّمُونِ إلى مكانِ اجتماعِهم وهو مَنزِلُ حَيَّانَ، فأخذوهم وجاؤوا بهم إلى المغيرةِ، فأودعهم السِّجنَ بَعدَ استجوابِهم وإنكارِهم أن يكونَ اجتماعُهم لشَيءٍ غيرِ مُدارسةِ كِتابِ اللهِ تعالى.
ثمَّ خرج المُستَورِدُ إلى الحِيرةِ، وصار ملجأً للخَوارِج فأخذوا يختَلِفون إليه، فلما خاف أن يفتَضِحَ أمرُهم لجأ إلى دارِ صِهرِه سُلَيمِ بنِ مَحدوجٍ، ولكِنَّ المغيرةَ بنَ شُعبةَ عَلِم أنَّ
الخَوارِجَ قد عزموا على الخروجِ قريبًا، فقام في النَّاسِ خطيبًا، فذَكَر لُطفَه بهم ومحبَّتَه لهم وأنَّهم سيَضطرُّونه إلى تعديلِ رأيِه فيهم حتَّى يأخُذَ الحليمَ بالسَّفيهِ، فأجابه رُؤَساءُ القبائِلِ بأنَّهم مستَعِدُّون للقيامِ معه بمجاهَدةِ من يخالِفُه ويشُقُّ عصا الطَّاعةِ.
فوصل كُلُّ ما دار في هذا الاجتماعِ إلى المُستَورِدِ، فسأل ابنَ محدوجٍ عن كُلِّ هذا فأخبره وقال له: كَرِهتُ أن أُعلِمَكم فتظُنُّوا أنَّه ثَقُل عَلَيَّ مكانُكم، فقال له المُستَورِدُ: قد أكرَمْتَ المثوى وأحسَنْتَ، ونحن مُرتَحِلون عنك.
ثمَّ أرسل المُستَورِدُ إلى أصحابِه أن يخرُجوا متفَرِّقين مُستَخْفين، فاجتَمَعوا ثلاثَمائةِ رجُلٍ ثُمَّ انتَقَلوا إلى الصَّراةِ
[195] الصَّرَاةُ: نهرٌ ببغدادَ، يأخُذُ من نهرِ عيسى مِن عِندِ بَلدةٍ يُقالُ لها (المحوَّل)، قريبةٌ من بغدادَ، ويسقي ضياعَ (بادورَيَا)، ويتفرَّعُ منه أنهارٌ إلى أن يَصِلَ إلى بغدادَ. يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (3/399)، ((مراصد الاطلاع)) للقطيعي (2/836). .
ولَمَّا عَلِم المغيرةُ بهذا الأمرِ استشار النَّاسَ فيمن يلي حَربَهم، وكان عِندَه رؤساءُ الشِّيعةِ، فكُلُّ واحدٍ منهم ترجَّى المغيرةَ أن يكونَ هو المتولِّيَ حَربَهم، فولَّى مَعقِلَ بنَ قَيسٍ الرِّياحيَّ، وجهَّز معه ثلاثةَ آلافِ رَجُلٍ هم خيرةُ الشِّيعةِ وفُرسانُهم.
وقد صار
الخَوارِجُ إلى بَهُرَسِيرَ
[196] موضِعٌ بالعِراقِ. يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (1/ 515). وأرادوا الدُّخولَ إلى المدينةِ التي كانت بها منازِلُ كِسْرى، وكان الوالي عليها سِماكَ بنَ عُبَيدٍ الأزْديَّ، فمنعَهم، فكتَب إليه المُستَورِدُ هذا الكتابَ:
(من عَبدِ اللهِ المُستَورِدِ أميرِ المُؤمِنينَ إلى سِماكِ بنِ عُبيدٍ، أمَّا بعدُ:
فقد نَقَمْنا على قَومِنا الجَورَ في الأحكامِ وتعطيلَ الحدودِ والاستِئثارَ بالفيءِ، وإنَّا ندعوك إلى كتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وسُنَّةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وولايةِ
أبي بكرٍ وعُمَرَ رضوانُ اللهِ عليهما، والبراءةِ من عُثمانَ وعَليٍّ لإحداثِهما في الدِّينِ وترْكِهما حُكمَ الكتابِ، فإن تقبَلْ فقد أدركْتَ رُشدَك، وإلَّا تَقبَلْ فقد بالَغْنا في الإعذارِ إليك، وقد آذنَّاك بحَربٍ، فنَبَذْنا إليكَ على سواءٍ، إنَّ اللهَ لا يحِبُّ الخائِنينَ).
فلمَّا قرأ سِماكٌ كتابَه قال: بِئسَ الشَّيخُ أنا إذًا! ثُمَّ كتَبَ للمُستَورِدِ كتابًا يدعوه فيه إلى الدُّخولِ في الجماعةِ، وأن يأخُذَ له الأمانَ، فلم يجِبْه، وأصَرَّ على ما هو عليه.
وسار مَعقِلٌ إليه، فلمَّا عَلِم به جمَع أصحابَه واستشارهم قائلًا لهم: (إنَّ المُغيرةَ قد بعث إليكم مَعقِلَ بنَ قَيسٍ، وهو من السَّبَئيَّةِ المُفتَرين الكاذِبين، فأشيروا عليَّ برَأيِكم). فافترَقوا في رأيِهم بَينَ قائِلٍ بالحَربِ، وآخَرَ بدُعاءِ النَّاسِ إلى صَفِّهم، وإقامةِ الحُجَّةِ على مُخالِفيهم.
ولكِنْ كان رأيُ المُستَورِدِ غيرَ هذا، وهو أن يستَعمِلَ المُطاوَلةَ في حربِهم، فيخرُجَ من مكانٍ إلى آخَرَ حتَّى يُبَدِّدَهم، ثُمَّ يلقاهم وقد تَعِبوا. فصاروا يتنقَّلون من محلٍّ إلى آخَرَ، وكانت تقعُ بعضُ المناوَشاتِ بَينَهم وبَينَ رجُلٍ كان معه قُوَّةٌ من الفُرسانِ يلازِمُهم من أصحابِ مَعقِلٍ، ولَمَّا انتهى به المطافُ إلى دَيلَمايا
[197] دَيْلَمايا: هي قريةٌ إلى جانِبِ دِجلةَ بالعراقِ. يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/ 203- 204). كانت المعركةُ النِّهائيَّةُ حيثُ تبارَزَ المستَورِدُ مع مَعقِلٍ فضرب كُلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه، فخَرَّا ميَّتَينِ، وهُزِمت
الخَوارِجُ وقُتِلوا شَرَّ قِتلةٍ، فلم يَنجُ منهم غيرُ خمسةٍ أو ستَّةٍ
[198] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/181-209). ويُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (3/421-436)، ((شرح نهج البلاغة)) (4/134). ، وقُتِل المُستَورِدُ سَنةَ 43هـ.
ثمَّ كان خروجُ سَهمِ بنِ غالبٍ الهُجَيْميِّ والخُطَيمِ، واسمُه يزيدُ بنُ مالكٍ سَنةَ 46هـ، عِندَ
الطَّبَريِّ، وعند
ابنِ الأثيرِ أنَّ بدءَ خُروجِهما كان سنةَ 41هـ، ونهايتُه كانت سنةَ 46هـ، فلمَّا اجتمع لسَهمٍ سبعون رجلًا خرجوا على ابنِ أبي عامرٍ الوالي من قِبَلِ
مُعاويةَ رَضيَ اللهُ عنه
[199] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/228)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/417، 418). .
فخرج هؤلاء فنزَلوا بَينَ الجِسرَينِ والبَصرةِ، وهناك أخَذوا في ارتكابِ جرائِمِ القتلِ، وكانوا أشرارًا يقتُلون من يقولُ: إنَّه مُسلِمٌ، ويَترُكون من يقولُ: إنَّه من أيِّ مِلَّةٍ كان! ففي أثناء ذلك الخروجِ مَرَّ بهم الصَّحابيُّ عُبادةُ بنُ قُرْصٍ اللَّيثيُّ راجعًا من غَزْوِ الكُفَّارِ، ومعه ابنُه وابنُ أخيه، فقال لهم
الخَوارِجُ: من أنتم؟ قالوا: قومٌ مُسلِمون. قالوا: كذَبْتُم. قال عُبادةُ: سُبحانَ اللهِ! اقبَلوا منَّا ما قَبِلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منِّي، فإنِّي كذَّبْتُه وقاتَلْتُه، ثُمَّ أتيتُه فأسلَمْتُ فقَبِلَ ذلك مني، قالوا: أنت كافِرٌ، وقتَلوه وقَتَلوا ابنَه وابنَ أخيه! وقد خرَج لقتالِهم ابنُ أبي عامرٍ بنفسِه فانتَصَر عليهم واستأمَنَ بقيَّتَهم، وكان فيهم سَهمٌ والخُطَيمُ فآمنَهم، فلمَّا تولَّى زيادٌ البصرةَ خاف سَهمٌ منه وخرج إلى الأهوازِ، واجتمع إليه النَّاقمون على بني أميَّةَ، ثُمَّ أقبل يريدُ أخْذَ البصرةِ، إلَّا أنَّ جيشَه كان قد تفرَّق عنه حينَ دخل البَصرةَ حتَّى لم يَبقَ إلَّا هو وَحدَه، فطلب الأمانَ لنفسِه، ولكِنْ صادف رجلًا لا يعرِفُ الرَّحمةَ، فأخَذه وقتَله وصَلَبه في دارِه، وأمَّا الخُطَيمُ فإنَّ زيادًا سَيَّره إلى البَحرَينِ، ثُمَّ أذِن له في الرُّجوعِ إلى البصرةِ على أنَّه إذا بات ليلةً خارِجَ دارِه فقد أَذِن في قَتلِه، وذاتَ ليلةٍ لم يَبِتْ في بيتِه فجاء مُسلِمُ بنُ عَمرٍو، وقال لزيادٍ: إنَّ الخُطَيمَ لم يَبِتِ اللَّيلةَ في بيتِه، فأخَذه زيادٌ وقَتَله، وانتهت حركتُهم
[200] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/228)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/417، 418). .
ثمَّ خرج قَريبُ بنُ مُرَّةَ وزحَّافُ بنُ زُحرٍ الطَّائيُّ سنةَ 50هـ، وكان هذان الرَّجلانِ ابنَي خالةٍ ومن العابِدين المجتَهِدين بالبَصرةِ، ولَمَّا غلبَت عليهما شِقْوتُهما خرجا بقلوبٍ تغلي غيظًا على المجتَمَعِ، وقد اختُلِف أيَّهما كان الرَّئيسُ، وذلك في ولايةِ ابنِ زِيادٍ على الكوفةِ، فحينما خرجا أخَذا يستَعرِضان النَّاسَ استِعراضًا، وكانا قد أشاعا القَتلَ والخوفَ فيهم لا يُبالون بمن قَتلوه كائنًا من كان ما دام قد وُجِد أمامَهم، حتَّى إنَّهم مرُّوا بشيخٍ ناسِكٍ من بني ضُبَيعةَ، فقتلوه، وكانوا إذا مرُّوا ببَلَدٍ يَهرُبُ أهلُ تلك البلَدِ إلى بيوتِهم ويتنادَونَ:
الحَروريَّةَ الحَروريَّةَ، النَّجا النَّجا.
وصاروا يتنقَّلون بَينَ القبائِلِ فلا يمرُّون بقبيلةٍ إلَّا قتلوا من تمكَّنوا مِن أخْذِه، ولمَّا مرُّوا ببني عليٍّ من الأزدِ، وكان هؤلاء رُماةً مَهَرةً، وكان فيهم مِئةٌ يُجيدون الرَّميَ، وقفوا لهم ورموهم رميًا شديدًا، حتَّى هربت
الخَوارِجُ منهم، وأتوا مقبرةً لبني يَشكُرَ، ثُمَّ أتَوا إلى مُزَينةَ فقتَلَهم النَّاسُ عن آخِرِهم. ولمَّا بلغ خبَرُهما إلى أبي بلالٍ الخارِجيِّ لم يُرْضِه اعتراضُهما النَّاسَ على هذه الصُّورةِ الوَحشيَّةِ، فقال: قَريبٌ لا قرَّبه اللهُ من الخيرِ، وزحَّافٌ لا عفا اللهُ عنه؛ فلقد رَكِباها عَشواءَ مُظلِمةً. أو نحوًا من هذا القولِ.
وذكر
الطَّبريُّ و
ابنُ الأثيرِ أنَّ خُروجَهما كان سنةَ 50ه بالبصرةِ، وأنَّ زيادًا حينَ بلغه خروجُهما قال لأهلِ البصرةِ: واللهِ لتَكْفُنَّني هؤلاء أو لأبدَأَنَّ بكم، واللهِ لئَنِ أفلَت منهم رجلٌ واحِدٌ لا تأخُذون العامَ من عطائِكم دِرهمًا.
أمَّا البَغداديُّ فذكر أنَّ خروجَهما كان على عُبَيدِ اللهِ بنِ زيادٍ، فأرسل إليهم عبَّادَ بنَ الحُصَينِ الحَبَطيَّ فقَتَلهم
[201] يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص: 82). ويُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/237، 238)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/463)، ((العقد الفريد)) لابن عبدربه (1/220، 221). ((شرح نهج البلاغة)) لابن أبي حديد (4/135). .
ثمَّ خرج زيادُ بنُ خِراشٍ العِجليُّ في مكانٍ يُسَمَّى "مَسْكَن" من أعمالِ سَوادِ العِراقِ، ومعه ثلاثُمائةِ فارِسٍ، فأرسل زيادٌ فِرقةً من الجيشِ قتلَتْه ومَن معه سنةَ 52هـ
[202] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (3/491). .
ثمَّ خرَج طوَّافُ بنُ غَلَّاقٍ سنةَ 58هـ.
وقد كان بالبصرةِ رجُلٌ اسمُه جِدارٌ يجتَمِعُ إليه
الخَوارِجُ فيَعيبون خلافةَ بني أُميَّةَ، فلمَّا عَلِم بهم ابنُ زيادٍ أخذهم وحبسَهم ثُمَّ اخترع طريقةً في العفوِ عنهم، وهي أن يقتَتِلوا فيما بَينَهم فمَن نجا أَطلَق سراحَه، فقام بعضُهم بقَتلِ بعضٍ كأنَّهم كِلابٌ مَسعورةٌ، وكان فيمن نجا طوَّافُ بنُ غَلَّاقٍ.
ولَمَّا خرجوا عابهم أصحابُهم قائلين لهم: قتَلْتُم إخوانَكم؟ فقالوا: أُكرِهْنا، وقد يُكرَهُ الرَّجُلُ على الكُفرِ وهو مُطمَئِنٌّ بالإيمانِ، فعَرَضوا الدِّيةَ على أولياءِ المقتولين فأبَوها، ثُمَّ عرَضوا عليهم القِصاصَ فأبَوا؛ فعَظُمَ النَّدَمُ في نفوسِهم على فَعلتِهم هذه، وكانوا يبكون ويقولون: أمَا مِن توبةٍ؟ وكان طوَّافٌ قد بلغ به الجزَعُ والحُزنُ مبلغًا عظيمًا، فأتى رجلا يُسَمَّى الهَثهاثَ، فقال له: أمَا ترى لنا من توبةٍ؟ فقال له: لا أجِدُ لكم إلَّا آيةً في كتابِ اللهِ، وهي:
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 110] .
فخرج طوَّافٌ في يومِ عيدِ الفِطرِ ومعه سبعونَ رجلًا، فأخذوا يقتُلون النَّاسَ مُستَعرِضين لهم، فاجتَمَع عليهم النَّاسُ فقَتَلوهم عن آخِرِهم
([203]( يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (3/516- 517). .
ثمَّ كان خُروجُ أبي بلالٍ مِرداسِ الحَنظليِّ سَنةَ 61هـ.
خرج أبو بلالٍ في أربعين شَخصًا بناحيةِ الأهوازِ في تَوَّجٍ، وكان عظيمَ القَدرِ عِندَ
الخَوارِجِ لا يَعدِلون به أحدًا، كان عابدًا مجتهدًا، كُلُّ
الخَوارِجِ تتولَّاه، وكُلُّ فريقٍ يَنسُبُه لنفسِه، حتَّى الشِّيعةُ قد ادَّعت أنَّه خرج غاضبًا لآلِ البيتِ، وكان حين خرج يقولُ لمن لَقِيه: (إنَّا لا نريدُ قِتالًا ولا نُرَوِّعُ أحدًا، وإنَّما هرَبْنا من الظُّلمِ ولا نأخُذُ من الفيءِ إلَّا أَعْطِياتِنا، ولا نُقاتِلُ إلَّا مَن قاتَلَنا).
وقد مرَّ به مالٌ لعُبَيدِ اللهِ بنِ زيادٍ فاستوقَفه وأخذَ أَعْطِياتِ أصحابِه، ثُمَّ ترك الباقيَ، وقال لمن يَحمِلون ذلك المالَ: (قولوا لصاحِبِكم: إنَّما أخَذْنا أَعْطِياتِنا)، فقال له أصحابُه: لماذا تترُكُ الباقيَ؟ قال: (إنَّهم يَقسِمون هذا الفيءَ كما يُقيمون الصَّلاةَ، فلا تُقاتِلوهم ما داموا على الصَّلاةِ).
وحين بلغت أخبارُهم ابنَ زيادٍ وجَّه إليهم جيشًا مُكَوَّنًا من ألفَيْ رَجُلٍ بقيادةِ أسلَمَ بنِ زُرعةَ الكِلابيِّ أو زُرعةَ بنِ مُسلِمٍ العامِريِّ، ويَذكُرُ
الطَّبريُّ أنَّه ابنُ حِصنٍ التَّميميُّ، فالتَحَموا مع
الخَوارِجِ في معركةٍ حاميةٍ انهزم فيها الجيشُ، فلمَّا وصل المُنهَزِمون إلى ابنِ زيادٍ غَضِب عليهم، ثُمَّ وجَّه إلى
الخَوارِجِ قائدًا آخَرَ هو عبَّادُ بنُ أخضَرَ التَّميميُّ، وفي أثناءِ المعركةِ -وكان يومَ جُمُعةٍ- طلَب أبو بلالٍ من عبَّادٍ وجيشِه إمهالَهم حتَّى تؤدَّى الصَّلاةُ فأجابوهم، فلمَّا دخلوا في الصَّلاة شَدُّوا عليهم فقَتَلوهم عن آخِرِهم سنةَ 61هـ، وهم بَينَ راكعٍ وساجدٍ وقائمٍ في الصَّلاةِ وقاعدٍ، فرجع القائدُ عبَّادٌ ظافِرًا إلَّا أنَّه قد نال منيَّتَه على أيدي بعضِ
الخَوارِجِ الذين كانوا في البَصرةِ؛ منهم عُبَيدةُ بنُ هِلالٍ؛ فقد استوقَفوا عبَّادًا كأنَّهم خُصَماءُ فيما بَينَهم في رجلٍ قَتَل أخاهم ولم يُنصِفْهم أحدٌ، فقال لهم عبَّادٌ: اقتُلوه، قتله اللهُ؛ فنزلوا عليه ضربًا بالسُّيوفِ حتَّى قتَلوه!
وممَّا يَجدُرُ ذِكرُه أنَّ أبا بلالٍ كان مع جيشِ عليٍّ في صِفِّينَ أثناءَ الحربِ بَينَ عليٍّ و
معاويةَ.
وقد قيل عن سبَبِ خروجِه أنَّ ابنَ زيادٍ قد توعَّد امرأةً خارِجيَّةً يقالُ لها: البَثجاءُ، فقال لها مِرداسٌ: إنَّ التَّقيَّةَ لا بأسَ بها فتغَيَّبي؛ فإنَّ هذا الجبَّارَ قد ذكَرَكِ. قالت: أخشى أن يلقى أحدٌ بسببي مكروهًا، ولَمَّا أخذها ابنُ زيادٍ قَطَع يدَيها ورِجلَيها ورمى بها في السُّوقِ، فمرَّ أبو بلالٍ في السُّوقِ، فرأى زحامَ النَّاسِ، فجاء فلمَّا شاهد البَثجاءَ عَضَّ على لحيتِه، وقال يخاطِبُ نفسَه: (هذه أطيَبُ نفسًا بالموتِ منك يا مِرداسُ، ما مِيتةٌ أموتُها أحبُّ إليَّ من مِيتةِ البَثجاءِ). فكانت أمنيَّتُه أن يموتَ كمِيتةِ البَثجاءِ التي جادت بنفسِها في جِهادِ ابنِ زيادٍ
[204] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (3/313)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/518، 520)، (4/94، 95)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 91-93)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/217، 218 و399 - 400)، ((شرح نهج البلاغة)) لابن أبي حديد (4/136). .
وكان أبو بلالٍ شخصيَّةً مثاليَّةً عِندَ الشِّيعةِ و
الخَوارِجِ والمُعتَزِلةِ، فكُلُّ فِرقةٍ من هذه الفِرَقِ تدَّعيه كما تقَدَّم.
قال ابنُ أبي الحديدِ في هذا: (كان أبو بلالٍ عابِدًا ناسِكًا شاعِرًا، ومن قُدَماءِ أصحابِنا من يدَّعيه؛ لِما كان يذهَبُ إليه من العَدلِ وإنكارِ المُنكَرِ، ومن قُدَماءِ الشِّيعةِ من يدَّعيه أيضًا)
[205] ((شرح نهج البلاغة)) (4/136). ويُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (3/313)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/518 - 520)، (4/94- 95)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 91-93)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/217، 218 و399- 400). .
وفي أوائِلِ السِّتينيَّاتِ الهِجريَّةِ وأثناءَ خُروجِ أبي بلالٍ ظهر نافِعُ بنُ الأزرَقِ بفِرقتِه، ثُمَّ تتابَع ظُهورُ الفِرَقِ بَعدَه، ومع ذلك فقد ظلَّ ظُهورُ
الخَوارِجِ بحرَكَاتِهم الحربيَّةِ -التي تقدَّم ذِكرُها- يتتابَعُ خلالَ بقيَّةِ الحُكمِ الأُمَويِّ.
وفي عَهدِ
عبدِ المَلِكِ بنِ مَروانَ بدأ خروجُ الصَّالحيَّةِ التي يجعَلُها بعضُ العُلَماءِ فِرقةً من الفِرَقِ، بينما هي في الحقيقةِ حَرَكةٌ ثوريَّةٌ -أكثَرَ منها فِرقةً دينيَّةً- من تلك الحرَكاتِ التي كانت تحدُثُ بَينَ آونةٍ وأخرى على الخُلَفاءِ الأُمَويِّين، تزعَّمَهم صالحُ بنُ مُسَرَّحٍ أو ابنِ مَشروحٍ كما يُسَمِّيه بعضُهم، حين خرج في هلالِ شَهرِ صَفَرٍ سَنةَ 76هـ، وكوَّن له جماعةً حارب بهم جيشَ الأُمَويِّين، وكانت له بعضُ الآراءِ التي أخذها من أسلافِه من
الخَوارِجِ قَبلَه.
قال عنه صاحِبُ كتاب (الأديان): (الفِرقةُ السَّادسةُ: الصَّالحيَّةُ أصحابُ صالحِ بنِ مَشروحٍ استحَلَّ من قومِه ما استحَلَّه منهم ابنُ العَسمِ من القَتلِ والسَّبيِ وغنيمةِ الأموالِ، ولم يَزَلْ كذلك حتَّى أهلكه اللهُ)
[206] ((الأديان)) (ص: 103). .
وقال
الأشعَريُّ: (ومن
الخَوارِجِ أصحابُ صالحٍ، ولم يُحدِثْ صالِحٌ قولًا تفرَّد به، ويقالُ: إنَّه كان صُفْريًّا)
[207] ((مقالات الإسلاميين)) (1/196، 201). . هذا ما ذكره عنهم
الأشعَريُّ ولم يَنسُبْ إليهم شيئًا من الآراءِ إلَّا ما قال عنهم من أنَّهم أوصلوا الذَّنبَ المغَلَّظَ إلى أنَّه عِبادةٌ للشَّيطانِ.
ويَذكُرُ
ابنُ الأثيرِ أنَّ اسمَ زعيمِهم صالحُ بنُ مُسَرَّحٍ التَّميميُّ، وأنَّه كان رجُلًا ناسِكًا مُصفَرَّ الوَجهِ صاحِبَ عبادةٍ، وكان بدَارَا وأرضِ المَوصِلِ والجزيرةِ قد تزعَّم أصحابَه يُقرِئُهم القُرآنَ ويُعَلِّمُهم الفِقهَ والقَصَصَ
[208] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (4/393- 396). .
فلمَّا اجتمع له مائةٌ وعِشرون -وقيل: مائةٌ وعَشَرةٌ- دعاهم إلى الخروجِ، وكاتَبَ شَبيبًا في ذلك فأجابه شبيبٌ وأقبل ومعه جماعةٌ من أصحابِه إلى دارَا، وحينئذٍ عَزَم صالحٌ على الخروجِ، ولكنَّ تلك الجِهاتِ قد تحصَّنت منه، ولمَّا بلَغَ محمَّدَ بنَ مَروانَ
[209] هذا ما يذكُرُه الطَّبريُّ وابنُ الأثيرِ وأكثَرُ أهلِ الفِرَقِ، وأمَّا البغداديُّ فيذكُرُ أنَّ خروجَ صالحٍ كان في ولايةِ بِشرِ بنِ مروانَ، ويذكُرُ عن المدائنيِّ أنَّه يقولُ بخروجِ صالحٍ في زمَنِ الحجَّاجِ. يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص: 110). ويُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (6/215- 223)، ((الكامل)) لابن الأثير (4/393- 396). مَخرَجُهم -وهو أميرُ الجزيرةِ حينذاك- أرسل إليهم جيشًا يقوده عَدِيُّ بنُ عَدِيٍّ الكِنديُّ في ألفِ فارسٍ، ولكِنَّ صالحًا باغتَهم فانهزموا هزيمةً مُنكَرةً، وهرب عَدِيٌّ، فانتهب
الخَوارِجُ ما وجدوا في مُعسكَرِ عَدِيٍّ، وحين أقبلت فُلولُ عَدِيٍّ غَضِب عليهم محمَّدُ بنُ مَروانَ، فأرسل لهم قائدَينِ أيُّهما وصل الأوَّلَ فهو أميرُ صاحِبِه، أحدُهما: خالِدُ بنُ جَزءٍ السُّلَميُّ في ألفٍ وخمسِمائةِ فارِسٍ، والثَّاني: الحارِثُ بنُ جَعْوَنةَ العامِريُّ، وبعثه في ألفٍ وخمسِمائةِ فارسٍ أيضًا، فالتَقَوا بصالحٍ في آمِدَ
[210] آمِدُ: هي أعظَمُ مُدُنِ دِيارِ بَكرٍ في العِراقِ، وهو بَلَدٌ قديمٌ حَصينٌ، مبنيٌّ بالحجارةِ السُّودِ عِندَ دِجلةَ. يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (1/56)، ((تاج العروس)) للزبيدي (7/ 392). . ولكنَّ صالحًا قسَّم جيشَه إلى قسمَينِ أيضًا: قِسمٌ بقيادةِ شَبيبٍ، وكان من أشجَعِ الفُرسانِ وجَّهه إلى الحارِثِ بنِ جَعْوَنةَ، وقِسمٌ بقيادتِه هو وتوجَّه إلى خالِدٍ، فنشَبت المعركةُ من وقتِ العَصرِ إلى اللَّيلِ، وكَثُر الجرحى والقتلى في جيشِ الخلافةِ، وقُتِل من أصحابِ صالحٍ ثلاثون رجلًا، وفي اللَّيلِ تم رأيُهم على أن يذهَبوا إلى الدَّسْكَرةِ
[211] الدَّسْكَرةُ: قريةٌ كبيرةٌ بنواحي نهرِ المَلِكِ من غربيِّ بغدادَ. يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (2/455). .
وحين وصلَت أخبارُهم إلى
الحَجَّاجِ بعث لهم جيشًا من أهلِ الكوفةِ يبلُغُ ثلاثةَ آلافٍ بقيادةِ الحارِثِ بنِ عُمَيرةَ بنِ ذي المِشعارِ الهَمدانيِّ، وحين وصلوا إلى صالحِ بنِ مُسَرَّحٍ بدأت المعركةُ، وكان صالحٌ في تسعين رجلًا، واشتدَّت المعركةُ جِدًّا، فقُتِل صالحٌ فيها، وكاد شبيبٌ أن يُقتَلَ وحينذاك نادى من بَقِيَ من أصحابِه، وكانوا 70 رجلًا: إليَّ يا معاشِرَ المُسلِمين، فلاذوا به فقال لأصحابِه: ليَجعَلْ كُلُّ واحدٍ منكم ظَهرَه إلى ظَهرِ صاحِبِه، ولْيُطاعِنْ عَدُوَّه، حتَّى ندخُلَ هذا الحِصنَ ونرى رأيَنا.
وفعلًا تقَدَّموا إلى الحِصنِ وتحَصَّنوا به، فأمر الحارِثُ بالبابِ أن يُحرَقَ، فأُحرِقَ، فقال لأصحابِه: إنَّهم لا يَقدِرون على الخروجِ منه، ونُصَبِّحُهم غدًا فنقتُلُهم، وقد بايع
الخَوارِجُ شبيبًا في ليلتِهم تلك، ثُمَّ أتَوا باللُّبودِ فبَلُّوها وجعلوها على جَمْرِ البابِ وخَرَجوا، فلم يَشعُرِ الحارِثُ ومن معه إلَّا و
الخَوارِجُ يَضرِبون رؤوسَهم بالسُّيوفِ، فصُرِع الحارِثُ فاحتمله أصحابُه، وانهزموا نحو المدائِنِ هارِبين، فأخذ شبيبٌ كُلَّ ما بَقِيَ في مُعسكَرِ الحارِثِ
[212] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (6/215، 223)، ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/196، 201)، ((الكامل)) لابن الأثير (4/393، 396)، ((الأديان)) لكاتب إباضي مجهول (ص: 103). .
وشَبيبٌ هذا هو شَبيبُ بنُ نُعَيمِ بنِ يَزيدَ الشَّيبانيُّ ويُكنَّى بأبي الصُّحاريِّ، وله شجاعةٌ كبيرةٌ ومعرفةٌ بفُنونِ الحربِ، فكان قائِدًا فَذًّا مُجَرِّبًا للحروبِ، قَتَل من جيشِ الخلافةِ الآلافَ والعديدَ من القوَّادِ رَغمَ قِلَّةِ جيشِه.
واختلف النَّقلُ في كيفيَّةِ توَلِّي شَبيبٍ القيادةَ بَعدَ صالحٍ؛ فالبَغداديُّ ذكر أنَّ صالحًا حينَ أحسَّ بالموتِ قال لأصحابِه: قد استخلَفْتُ عليكم شبيبًا، وأعلَمُ أنَّ فيكم من هو أفقَهُ منه، ولكِنَّه رجلٌ شُجاعٌ مَهيبٌ في عَدُوِّكم، فلْيُعِنْه الفقيهُ منكم بفِقهِه. ثُمَّ مات وبايع أتباعُه شَبيبًا
[213] يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص: 109-110). .
بينما ذكر بعضُهم -ومنهم
ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ، و
ابنُ الأثيرِ- أنَّ شبيبًا تولَّى أثناءَ حِصارِ
الخَوارِجِ في الحِصنِ الذي ألجأهم إليه الحارِثُ بنُ عُمَيرةَ في تلك اللَّيلةِ
([214]( يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 109–110، 223)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/127)، ((الكامل)) لابن الأثير (4/396). وبعد مَقتَلِ صالحٍ، كما تقدَّم.
وتُعرَفُ هذه الفِرقةُ أيضًا بأصحابِ السُّؤالِ، فإذا ذَكَر بعضُهم أصحابَ السُّؤالِ فالمقصودُ بهم الشَّبيبيَّةُ، وقد نسَبهم
الأشعَريُّ إلى
البَيهَسيَّةِ، ونسبَهم غيرُه إلى الصَّالحيَّةِ
[215] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/196، 201). .
وقد خالف شبيبٌ صالحًا في مسألةِ جوازِ توَلِّي المرأةِ الإمامةَ العُظمى؛ إذ كان شبيبٌ يُجيزُها إذا قامت بأمورِهم وخرجت على مُخالِفيهم؛ ولهذا فقد تولَّت غَزالةُ قيادتَهم بَعدَ مقتَلِ شَبيبٍ.
وقد استطرد
الطَّبريُّ و
ابنُ الأثيرِ وغيرُهما من المؤَرِّخين في تفاصيلِ حُروبِ شَبيبٍ، وهي كثيرةٌ، وكلُّها تشيرُ إلى أنَّه قلَّما ينهَزِمُ شبيبٌ في معركةٍ إلَّا لحيلةٍ أو الإعدادِ لكَرَّةٍ أُخرى، وحتى البَدْوُ لم يَسْلَموا من شبيبٍ؛ فقد أغار عليهم وأرهبَهم في عدَّةِ غَزَواتٍ لهم، وقد داهم
الحجَّاجَ في عُقرِ دارِه بالكوفةِ؛ فقد دخَلَها هو وأمُّه غزالةُ، أو زوجتُه في قولٍ آخَرَ، وخَطَبت على مِنبَرِ الكوفةِ وفاءً بنَذْرِها، وصلَّى أيضًا الصُّبحَ في مسجِدِ الكوفةِ. وقد تنقَّل في ليلتِه تلك في أكثَرِ مساجِدِ الكوفةِ لا يجِدُ أحدًا إلَّا قتَلَه.
وقد خبَّأ
الحجَّاجُ نَفسَه فلم يخرُجْ تلك اللَّيلةَ إلى أن اجتَمَع له أربعةُ آلافٍ من جُندِه، ثُمَّ خرجوا يقتَتِلون في سوقِ الكوفةِ، حتَّى كَثُر القَتلُ في أصحابِ شَبيبٍ فانهزم إلى الأنبارِ.
وفي السَّنةِ السَّابعةِ والسَّبعين من الهجرةِ أو الثَّامنةِ والسَّبعين -على قَولٍ- كانت نهايةُ شبيبٍ؛ إذ مات غريقًا
[216] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (6/224-284)، ((الكامل)) لابن الأثير (4/396-433)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 109– 112)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/128)، ((التنبيه والرد)) للملطي (ص: 55)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/219–220)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (9/19)، ((مروج الذهب)) للمسعودي (3/147). .
وفي عَهدِ
عُمَرَ بنِ عَبدِ العزيزِ سَنةَ 100هـ خرج بِسطامٌ اليَشكُريُّ، ويُعرَفُ بشَوذَبٍ، وهو رجلٌ من بني يَشكُرَ خرج بالعراقِ، وكان الوالي على العِراقِ عبدَ الحميدِ بنَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ زيدِ بنِ الخطَّابِ. خرج بِسطامٌ في مكانٍ يُسَمَّى جَوْخَى ومعه ثمانون فارسًا أغلَبُهم من ربيعةَ، ولَمَّا بلَغ أمرُهم إلى عُمَرَ كَتَب إلى عبدِ الحميدِ أن يبعَثَ إليهم رجلًا حازمًا وألَّا يُحَرِّكَهم بشيءٍ إلَّا أن يَسفِكوا دمًا أو يُفسِدوا في الأرضِ؛ فبعث إليهم عبدُ الحميدِ محمَّدَ بنَ جريرٍ في ألفَيْ رَجُلٍ من أهلِ الكوفةِ وأمرَه بما قال عُمَرُ.
ثمَّ كتب عُمَرُ إلى بِسطامٍ يدعوه إلى الطَّاعةِ، ويسألُه عن سَبَبِ خُروجِه، ويطلُبُ إليه أن يبعَثَ مِن قِبَلِه من يناظِرُه لتظهَرَ الحُجَّةُ على أحَدِهما، فكتب بِسطامٌ إلى عُمَرَ: قد أنصَفْتَ، ثُمَّ بعث وفدًا من قِبَلِه إلى عُمَرَ، فتناظرَا فظَهَرت الحُجَّةُ لعُمَرَ، ولكِنْ وَجَّهوا إلى عُمَرَ سؤالًا مُحرِجًا قائلينَ له: (أخبِرْنا عن يزيدَ لمَ تُقِرُّه خليفةً بَعْدَك؟ فاعتذَرَ بأنَّه لم يُوَلِّه هو وإنَّما ولَّاه غيرُه)، ولكِنَّ هذا الجوابَ لم يكُنْ كافيًا عِندَهم في هذه المسألةِ)، فقال له
الخَوارِجُ: (أفرأيتَ لو وَلَّيتَ مالًا لغيرِك، ثُمَّ وكَلْتَه إلى غيرِ مأمونٍ عليه، أتُراك كنتَ أدَّيتَ الأمانةَ إلى من ائتَمَنَك؟)، فقال لمن تولَّى المحاورةَ، وكانا اثنينِ: أنظِراني ثلاثًا، فخرجا من عِندَه. وحين عَلِم بنو أميَّةَ بهذا خافوا خروجَ الخلافةِ عنهم، فيقالُ: إنَّهم دَسُّوا له سُمًّا، فتُوُفِّيَ في تلك الأيَّامِ الثَّلاثةِ، ومناظَرتُهم مشهورةٌ في كُتُبِ التَّاريخِ.
وبَعدَ وفاةِ عُمَرَ أمَرَ عبدُ الحميدِ محمَّدَ بنَ جَريرٍ بمُناجَزتِهم قَبلَ أن يبلُغَ
الخَوارِجَ موتُ عُمَرَ، وقبل أن يرجِعَ وَفدُهم، فعَلِموا حينذاك أنَّ حَدَثًا قد حدث في الخليفةِ وأنَّه قد مات، فحَمَلت
الخَوارِجُ على محمَّدِ بنِ جريرٍ، فهزموه شرَّ هزيمةٍ، فأرسل لهم يزيدُ تميمَ بنَ الحُبابِ في ألفَينِ، ولَمَّا التَقَوا قال لهم تميمٌ: إنَّ يزيدَ لا يفارِقُكم على ما فارقكم عليه عُمَرُ، فلَعَنوه ولَعَنوا يزيدَ معه، ونشَبَت المعركةُ فانهزم تميمٌ وجيشُه، فوَجَّه إليهم يزيدُ جيشًا آخَرَ بقيادةِ الشَّحَّاجِ بنِ وداعٍ في ألفينِ، فكان مصيرُه مصيرَ من سبقه، إلى أن جاء مَسلَمةُ بنُ عبدِ المَلِكِ الكوفةَ، فشكا أهلُها إليه ما لاقَوه من شَوذَبٍ، وخَوَّفوا مَسلَمةَ منه، فأرسل مَسلَمةُ حينذاك سعيدَ بنَ عَمرٍو الحَرَشيَّ في عَشَرةِ آلافِ فارِسٍ، فالتَقَوا في معركةٍ حاميةِ الوَطيسِ، كانت فيها نهايةُ
الخَوارِجِ؛ فقد أفنَوهم عن آخِرِهم، وانتهى بِسطامٌ وانتهت حَرَكتُه
[217] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (6/555، 556، 575، 578)، ((الكامل)) لابن الأثير (5/45-48، 68-70). .
وفي سَنةِ 105هـ، خرج عُقْفانُ ومعه ثمانون رجلًا في خلافةِ يزيدَ بنِ عَبدِ المَلِكِ فأُشيرَ على يزيدَ ألَّا يُرسِلَ جيشًا لمحاربتِه، بل يُرسِلُ إلى كُلِّ رجُلٍ مع عُقْفانَ رَجُلًا من أقاربِه حتَّى يَرُدَّه عن الخروجِ بالاستِعطافِ والتَّلطُّفِ إليه، وفِعلًا نجحت هذه الخطَّةُ حتَّى بَقِيَ عُقْفانُ وَحدَه، فأرسَل إليه يزيدُ أخاه فاستعطَفَه فرَدَّه عن الخروجِ، وانتهت تلك الفِتنةُ بذلك.
فلمَّا تُوفِّيَ يزيدُ وتولَّى
هِشامُ بنُ عَبدِ المَلِكِ، ولَّاه أمرَ العُصاةِ، فاشتَدَّ حتَّى إنَّه لم يرحَمْ وَلَدَه الذي جاء من خُراسانَ غاضِبًا على الخليفة، فقد قَبَض عليه عُقْفانُ وأرسَلَه إلى
هشامٍ مُقَيَّدًا، فقال
هشامٌ: لو خانَنا عُقْفانُ لكَتَم أمرَ ابنِه، ثُمَّ عفا عنه لأبيه، ووَلَّى عُقْفانَ أمرَ الصَّدَقةِ
يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (5/118). .
وهذا التَّصرُّفُ كان نتيجةَ الطَّريقةِ الحَسَنةِ مع عُقْفانَ في رَدِّه عن الخروجِ، ولو كان الأمرُ غيرَ ذلك لحصل على الأرجَحِ عَكسُه من فِتَنٍ وقَتلٍ وقِتالٍ.
ثمَّ خرج مسعودٌ العَبديُّ سَنةَ 105هـ أيضًا.
هذا الخارِجيُّ يُسَمَّى مسعودَ بنَ أبي زَينبَ العَبديَّ، وخَرج من البَحرينِ، وقد أخذ في التَّوسُّعِ إلى أن بلَغَ اليمامةَ، فخرج إليه عامِلُها سفيانُ بنُ عَمرٍو العُقَيليُّ، فالتَقَوا بالخِضْرِمةِ
[219] بلد بأرض اليمامة. يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (2/ 377). واقتَتلوا قتالًا شديدًا، وقُتِل مسعودٌ، فتولى بَعدَه رجلٌ يُسَمَّى هلالَ بنَ مُدلِجٍ، واستمرَّت المعركةُ يومًا آخَرَ كامِلًا إلى أن جاء المساءُ، فتفَرَّق
الخَوارِجُ مُنهَزِمين حتَّى بَقيَ هلالٌ ومعه جماعةٌ قليلةٌ، فتحصَّن بحِصنٍ كان هناك، ولكن لم يَدُمْ بقاؤه فيه فقد نُصِبت السَّلالمُ عليه وأُخِذ هلالٌ فقُتِل واستأمَنَ من بَقِي منهم
يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (5/118). .
وفي نفسِ السَّنةِ خَرَج مُصعَبُ بنُ محمَّدٍ الوالبيُّ ومن معه إلى أن وصلوا إلى مكانٍ يُسَمَّى حَزَّةَ من مقاطعةِ المَوصِلِ، فأرسل لهم
هشامٌ جيشًا، فالتَقَوا هناك في معركةٍ انتهت بقَتلِ مُصعَبٍ وكثيرٍ من
الخَوارِجِ يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (5/118-119). .
ثمَّ خرج الصُّحاريُّ بنُ شَبيبٍ سَنةَ 119هـ.
وقد جاء هذا الرَّجُلُ إلى خالِدِ بنِ عبدِ اللهِ والي العِراقِ من قِبَلِ
هشامِ بنِ عَبدِ المَلِكِ يسألُه الفريضةَ
[222] الظَّاهِرُ من السِّياقِ أنَّ المرادَ: أن يَفرِضَ له مالًا ونحوَه على سبيلِ الأعطيةِ والصَّدَقةِ. واللهُ تعالى أعلَمُ. مع أهلِ الشَّرَفِ، فهَزِئ به خالدٌ، وقال: وما يَصنَعُ ابنُ شَبيبٍ بالفريضةِ؟ فلم يُظهِرِ الصُّحاريُّ أيَّ تغَيُّرٍ ثُمَّ ودَّع خالدًا وخرج، ولكِنَّ ذلك الخروجَ قد هزَّ ضميرَ خالدٍ، فخاف أن يفتحَ عليه أمرًا يكرَهُه، فأرسل في طَلَبِه مَن يَرُدُّه، فقال لهم: أنا كنتُ عِندَه آنفًا فأبَوا أن يَترُكوه فجَرَّد سيفَه عليهم، فتركوه فذهب مستخفيًا بنفسِه إلى أن وصل إلى مكانٍ يُسَمَّى "جَبَل" كما يقولُ
الطَّبَريُّ، أو "حَبْل" كما يقولُ
ابنُ الأثيرِ، ينزِلُه ناسٌ من بني تيمِ اللَّاتِ من ثَعلبةَ، فاستمالهم إليه فقَبِل منه بعضُهم، وتوقَّف آخرون، وأبى غيرُهم وقالوا: نحن في عافيةٍ، فخرج الصُّحاريُّ بمن أطاعه وكانوا ثلاثين فارسًا حتَّى أتى المناذِرَ، وحينَ بلغ أمرُه خالِدًا قال: قد كنتُ خِفتُها منه، فأرسل إليهم جيشًا التَحَم معهم في معركةٍ انتهت بالقضاءِ على الصُّحاريِّ ومَن معه جميعًا
[223] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (7/137-138)، ((الكامل)) لابن الأثير (5/213). .
وفي هذه السَّنةِ أيضًا خرج كُثارةُ، ويُسَمَّى بَهْلولَ بنَ بِشرٍ، ويُلَقَّبُ كُثارةَ، كان عابدًا مجتَهِدًا وكان على جانبٍ عظيمٍ من الشَّجاعةِ والخِبرةِ الحربيَّةِ، وكان السَّبَبُ في خروجِه أنَّه أرسل ذاتَ يومٍ غلامًا ليشتريَ له خَلًّا بدِرهَمٍ، فجاء الغلامُ بخَلٍّ، وكان قد التَبس على صاحِبِ المحَلِّ الاسمُ، ولم يتأكَّدْ من الغلامِ، فسارع وأعطاه خمرًا، وحينَ جاء الغلامُ بالخمرِ إلى كُثارةَ قال لغلامِه: ارجِعْ فخُذِ الدِّرهَمَ، فامتنع البائعُ من رَدِّ الدِّرهَمِ، وتطوَّر هذا النِّزاعُ فذهب كُثارةُ إلى حاكِمِ تلك المِنطَقةِ ليَشكوَ أمرَه فأجابه الحاكِمُ بغايةِ القَسوةِ، قائلًا له: الخَمرُ خَيرٌ منك ومِن قومِك! وعندها عَقَد بَهْلولٌ العزمَ على الخروجِ، ولكِنَّه أخفى ذلك حتَّى يُتِمَّ حَجَّه، فذهب إلى مكَّةَ، وفيها قابل بعضَ أصدقائِه الذين يَرَون رأيَه، فعزموا على الخروجِ معه وتحتَ إمرتِه، واتَّعَدوا مكانًا سمَّوه من نواحي المَوصِلِ، فلمَّا اجتمعوا في تلك القريةِ أجمعَ رأيُهم على ألَّا يمُرُّوا بأحدٍ إلَّا قالوا له بأنَّهم راجعون من عِندِ الخليفةِ
هِشامٍ وأنَّهم ذاهِبون إلى خالدٍ لتوَلِّي بعضِ الأعمالِ، وكانوا يأخُذون في طريقِهم دوابَّ البريدِ إلى أن وصَلوا تلك القريةَ التي اشترى فيها الخَلَّ. قال بَهْلولٌ: نبدأ بهذا العامِلِ فنَقتُلُه، وقال أصحابُه: إنَّ الغَرَضَ الأهَمَّ هو قَتلُ خالدٍ. فقال كُثارةُ له: إنِّي لأرجو أن أقتُلَ هذا وخالِدًا، فبدأ وقتَلَه وبلغت أخبارُهم خالِدًا، فحَذَّرهم النَّاسُ، ثُمَّ خرج خالدٌ إلى الحِيرةِ، ومنها أرسَل لهم ثمانِمائةِ رَجُلٍ، وعندما بدأت الحربُ بَينَهم انهزموا أمامَ
الخَوارِجِ، فبعث إليهم خالِدٌ جيشًا آخَرَ يقودُه رجُلٌ من بني شَيبانَ، وحينَ لَقِيَهم بَهْلولٌ شَدَّ عليهم، فقال له ذلك القائِدُ: نَشَدتُك بالرَّحِمِ فإنِّي جانِحٌ مستجيرٌ، فكَفَّ عنه. وانهزم أصحابُه، ثُمَّ طَمِحَت نفسُ كُثارةَ إلى قَتلِ الخليفةِ
هِشامٍ نَفسِه ما دام كُثارةُ قد خرج للهِ، ثُمَّ عزم على السَّيرِ لقَتلِ
هِشامٍ، ولكِنَّ عُمَّالَ
هِشامٍ خافوا إن وصَل كُثارةُ إلى الشَّامِ أن ينتَقِمَ منهم الخليفةُ، فجَنَّد له خالِدٌ جُندًا من أهلِ العِراقِ، ومِثلُه عامِلُ الجزيرةِ، ووجَّه إليه
هشامٌ أيضًا جُندًا من أهلِ الشَّامِ لاستغاثةِ عامِلِ الموصِلِ به، فنَشَبت معركةٌ حاميةٍ بَينَهم، قُتِل فيها كُثارةُ وتفَرَّق من بَقِيَ من أتباعِه مُنهَزِمين إلى الكوفةِ، فتلقَّاهم عَبيدُ أهلِ الكوفةِ وسَفِلَتُهم فرَمَوهم بالحِجارةِ حتَّى قَتَلوهم
[224] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (7/130- 134)، ((الكامل)) لابن الأثير (5/209-212). .
ثمَّ خرج الضَّحَّاكُ بنُ قَيسٍ سَنةَ 127هـ، وقُتِل سَنةَ 128هـ.
وكان قد خرج بالعِراقِ وكَثُر أتباعُه حتَّى بلَغوا مِئةً وعِشرين ألفًا، فاستولى على عِدَّةِ مناطِقَ، وكان ذلك في زَمَنِ مَروانَ بنِ محمَّدِ بنِ محمَّدٍ، ولم يستَطِعْ أحَدٌ من قوَّادِ مَرْوانَ إيقافَه، وأخيرًا قرَّر الضَّحَّاكُ الذَّهابَ لمُلاقاةِ مَرْوانَ، فاجتَمَعوا في مكانٍ مِن كَفرِ تُوثَا
[225] قرية كبيرة بالعراق. يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (4/ 468). فدارت معركةٌ قُتِل فيها الضَّحَّاكُ.
فولَّى
الخَوارِجُ عليهم رجلًا يُسَمَّى الخُبَيريَّ صبيحةَ اللَّيلةِ التي قُتِل فيها الضَّحَّاكُ، وبدأت معركةٌ بَينَ الخُبَيريِّ وجُندِ الخلافةِ، وفيهم مروانُ نَفسُه، فانتصر الخُبَيريُّ على القَلبِ من جيشِ مَروانَ حتَّى دَخَل فيهم ووَصَل إلى حُجرةِ مَروانَ، فانهزم مروانُ حتَّى خرج عن العسكَرِ بسِتَّةِ أميالٍ منهَزِمًا، وكانت ميمنةُ مَروانَ ومَيسَرتُه ثابتةً، فاقتَحَم بعضُ جيشِ مَروانَ على الخُبَيريِّ ومن معه فقُتِل الخُبَيريُّ، وأُخبِر بذلك مَروانُ فرَجَع.
وانصَرَف أهلُ عَسكَرِ الخُبَيريِّ، ووَلَّوا عليهم شَيبانَ بنَ عبدِ العزيزِ، ثُمَّ ارتحلوا من ذلك المكانِ، فتَبِعَهم مروانُ يُقيمُ عليهم إذا أقاموا، ويحارِبُهم إذا حارَبوا، فصاروا يتنقَّلون من مكانٍ إلى مكانٍ وهم يَنقُصون ما بَينَ متسَلِّلٍ بنفسِه وبَينَ مقتولٍ، إلى أن تفرَّقوا وذهب كُلٌّ إلى جهةٍ، فأُخذ شيبانُ في بعضِ تلك الجِهاتِ حتَّى قُتِل بعُمانَ
[226] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (7/345 – 353). .
وأخيرًا كان خروجُ عبدِ اللهِ بنِ يحيى المُلَقَّبِ (بطالب الحَقِّ) سَنةَ 128هـ، وقُتِل سَنةَ 130هـ، وهو من حَضْرَموتَ، كان مشهورًا بأنَّه من العُبَّادِ المجتَهِدين، وكان السَّبَبُ في ظهوِره هو أبو حمزةَ الشَّاري، فقد كان أبو حمزةَ يحُجُّ في كُلِّ سنةٍ ويدعو من يتوسَّمُ فيه الإجابةَ إلى خِلافِ مَرْوانَ بنِ محمَّدٍ، والخروجِ عليه، وكان ممَّن التَقى بهم طالِبُ الحَقِّ، فدعاه إلى رأيِه وحسَّن له الخروجَ على مَروانَ، فقال له عبدُ اللهِ بنُ يحيى: (يا رجُلُ، أسمَعُ كلامًا حَسَنًا وأراك تدعو إلى حقٍّ، فانطَلِقْ معي فإنِّي رجُلٌ مُطاعٌ في قومي)، فخرج معه إلى حَضْرَموتَ، وهناك بايعه أبو حمزةَ على الخلافةِ وعلى الخروجِ على مَرْوانَ، فكتب إلى عُلَماءِ البَصرةِ من
الإباضيَّةِ يشاوِرُهم في الخُروجِ، فكتبوا إليه: إنِ استطَعْتَ ألَّا تقيمَ يومًا واحِدًا فافعَلْ؛ فإنَّ المبادَرةَ بالعَمَلِ الصَّالحِ أفضَلُ، ولستَ تدري متى يأتي عليك أجَلُك، وللهِ خِيرةٌ من عبادِه يَبعَثُهم إذا شاء لنُصرةِ دينِه، ويخُصُّ بالشَّهادةِ منهم من يشاءُ!
وهنا عَزَم على الخُروجِ، وبدأ في التَّوسُّعِ، فأخذ مِنطَقةَ حَضْرَموتَ، وامتَدَّ سُلطانُه إلى صَنعاءَ، حين سار إليها في ألفَينِ، فقابله عامِلُ مَروانَ على صَنعاءَ: القاسِمُ بنُ عُمَرَ، في مكانٍ يُسَمَّى لَحْجًا، ودارت بَينَهم معركةٌ انتصر فيها
الخَوارِجُ، وواصلوا زَحْفَهم إلى صنعاءَ، فمَكَث فيها طالِبُ الحَقِّ شَهرًا يُحسِنُ السِّيرةَ في أهلِها، وألان جانِبَه لهم فكَثُر أتباعُه ووافاه
الخَوارِجُ من كُلِّ مكانٍ، وبسط سيطرتَه على تلك المناطِقِ، فبعث إليه مَروانُ بنُ محمَّدٍ عَبدَ المَلِكِ بنَ محمَّدِ بنِ عطيَّةَ السَّعديَّ، فالتَقى ب
الخَوارِجِ ودارت بَينَهم معركةٌ قُتِل فيها طالِبُ الحَقِّ، وحُمِل رأسُه إلى مَروانَ بالشَّامِ سَنةَ 130هـ
[227] يُنظر: ((كشف الغمة)) لمؤلف إباضي (ص: 307 – 314). ويُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (7/348-400)، ((الكامل)) لابن الأثير (5/351- 392). .
وكان هذا هو آخِرَ عَهدِ بني أميَّةَ ب
الخَوارِجِ؛ حيثُ انتهت دولتُهم في عام 132هـ بقيامِ الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ.