المَبحَثُ الرَّابعُ: حُكمُ مُرتكِبِ الكبيرةِ عندَ الأشاعِرةِ
كلامُ
الأشاعِرةِ في مُرتكِبِ الكبيرةِ يُفيدُ أنَّهم فريقانِ:
الأوَّلُ: فريقٌ مُوافِقٌ لِما عليه سائِرُ
المُرجِئةِ في مُرتكِبِ الكبيرةِ.
الثَّاني: فريقُ الواقِفةِ، ومَذهَبُهم التَّوقُّفُ في أحكامِ الفُسَّاقِ، وفي قَبولِ تَوبةِ الفاسِقِ، فعندَهم قد تُقبَلُ توبتُه مِن ذَنبِه، وقد يُعذَّبُ عليه، وهُم مُتوقِّفونَ في دُخولِ الفُسَّاقِ النَّارَ، فعندَهم قد يدخُلونَ كُلُّهم النَّارَ، وقد يدخُلُ بعضُهم، وقد لا يدخُلُ أحدٌ منهم فيها، فلم يجزِموا بنُفوذِ الوعيدِ في حقِّ أحدٍ مِن الفُسَّاقِ
[555] يُنظر: ((آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية)) لعبدِ اللهِ السند (ص: 517، 519). ويُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تيمية (5/284)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/223، 354). .
أقوالُ الأشاعِرةِ في حُكمِ مُرتكِبِ الكبيرةِ:1- قال أبو بكرٍ الباقِلَّانيُّ: (إن قال قائِلٌ: فخبِّروني عن الفاسِقِ الملِّيِّ: هل تُسمُّونَه مُؤمِنًا بإيمانِه الذي فيه؟ وهل تقولونَ: إنَّ فِسقَه لا يُضادُّ إيمانَه؟ قيل له: أجَلْ، فإن قال: فلمَ قلْتُم: إنَّ الفِسقَ الذي ليس بجَهلٍ باللهِ لا يُضادُّ الإيمانَ؟ قيل له: لأنَّ الشَّيئَينِ إنَّما يتضادَّانِ في مَحلٍّ واحِدٍ، وقد علِمْنا أنَّ ما يوجَدُ بالجوارِحِ لا يجوزُ أن يَنفِيَ عِلمًا وتصديقًا يوجَدُ بالقلبِ؛ فثبَت أنَّه غَيرُ مُضادٍّ للعِلمِ باللهِ والتَّصديقِ له.
والدَّليلُ على ذلك أنَّه قد يَعزِمُ على معصيةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم بقلبِه مَن لا ينفي عَزمَه على ذلك معرفةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، وتصديقُه له، وكذلك حُكمُ القولِ في العَزمِ على معصيةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه غَيرُ مُضادٍّ لمعرفتِه والعِلمِ به والتَّصديقِ له: هو الإيمانُ لا غَيرُ، فصحَّ بذلك اجتِماعُ الفِسقِ الذي ليس بكُفرٍ معَ الإيمانِ، وأنَّهما غَيرُ مُتضادَّينِ.
فإن قال: ولمَ قُلْتُم: إنَّه يجِبُ أن يُسمَّى الفاسِقُ الملِّيُّ بما فيه مِن الإيمانِ مُؤمِنًا؟ قيل له: لأنَّ أهلَ اللُّغةِ إنَّما يشتَقُّونَ هذا الاسمَ للمُسمَّى به مِن وُجودِ الإيمانِ به، فلمَّا كان الإيمانُ موجودًا بالفاسِقِ الذي وصَفْنا حالَه، وجَب أن يُسمَّى مُؤمِنًا، كما أنَّه لمَّا لم يضادَّ ما فيه مِن الإيمانِ فِسقَه الذي ليس بكُفرٍ، وجَب أن يُسمَّى به فاسِقًا، وأهلُ اللُّغةِ مُتَّفِقونَ على أنَّ اجتِماعَ الوَصفَينِ المُختلِفَينِ لا يوجِبُ مَنعَ اشتِقاقِ الأسماءِ منهما، ومِن أحدِهما، فوجَب بذلك ما قُلْناه)
[556] ((التمهيد)) (ص:349). .
وقال الباقِلَّانيُّ أيضًا: (إن قال: فما تقولونَ في مُذنِبي أهلِ مِلَّةِ الإسلامِ؟ هل يجوزُ العَفوُ عنهم حتَّى لا يُعاقَبَ الفاسِقُ بما كان مِن ظُلمِه لنَفسِه أو غَيرِه؟ قيل له: نعَم، فإن قال: فما الدَّليلُ على ذلك؟ قيل له: ما قدَّمْناه مِن حُسنِ العَفوِ مِن اللهِ)
[557] ((التمهيد)) (ص: 353). .
2- قال البَغداديُّ: (أمَّا أصحابُ الذُّنوبِ مِن المُسلِمينَ إذا ماتوا قَبلَ التَّوبةِ؛ فمنهم مَن يغفِرُ اللهُ عزَّ وجلَّ له قَبلَ تعذيبِ أهلِ العذابِ، ومنهم مَن يُعذِّبُه في النَّارِ مُدَّةً، ثُمَّ يغفِرُ له ويرُدُّه إلى الجنَّةِ برحمتِه)
[558] ((أصول الدين)) (ص: 242). .
وقال أيضًا: (رُكوبُ الكبائِرِ أو تَركُ الفرائِضِ مِن غَيرِ عُذرٍ، وذلك فِسقٌ سقَط به الشَّهادةُ، وفيه ما يوجِبُ الحدَّ أو القَتلَ أو التَّعزيرَ، وهو معَ ذلك مُؤمِنٌ إن صحَّ له القِسمُ الأوَّلُ مِن الطَّاعاتِ)
[559] ((أصول الدين)) (ص:268). .
3- قال
الجُوَينيُّ: (مَن مات مِن المُؤمِنينَ على إصرارِه على المعاصي فلا يُقطَعُ عليه بعِقابٍ، بل أمرُه مُفوَّضٌ إلى ربِّه تعالى، فإن عاقَبه بذلك فبعَدلِه، وإن تجاوَز عنه فذلك بفَضلِه ورحمتِه، فلا يُستنكَرُ ذلك عَقلًا وشَرعًا)
[560] ((الإرشاد)) (ص: 392). .
4- قال الإيجيُّ: (ذهَب جُمهورُ أصحابِنا إلى أنَّه يعفو عن بعضِ الكبائِرِ مُطلَقًا، ويُعذِّبُ ببعضِها، إلَّا أنَّه لا عِلمَ لنا الآنَ بشيءٍ مِن هذَينِ البعضَينِ بعَينِه، وقال كثيرٌ منهم: لا نقطَعُ بعَفوِه عن الكبائِرِ بلا توبةٍ، بل نُجوِّزُه)
[561] ((المواقف مع شرح الجرجاني)) (3/506). .
وقال أيضًا: (غَيرُ الكُفَّارِ مِن العُصاةِ ومُرتكِبي الكبائِرِ لا يُخَلَّدُ في النَّارِ؛ لقولِه تعالى:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7] ، ولا شكَّ أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ قد عمِل خيرًا هو إيمانُه، فإمَّا أن يكونَ ذلك، أي: رُؤيتُه للخَيرِ قَبلَ دُخولِ النَّارِ، ثُمَّ يدخُلُ النَّارَ، وهو باطِلٌ بالإجماعِ، أو بَعدَ خُروجِه عنها، وفيه المطلوبُ، وهو خُروجُه عن النَّارِ، وعَدمُ خُلودِه فيها)
[562] ((المواقف مع شرح الجرجاني)) (3/501). .
5- قال التَّفتازانيُّ: (اتَّفَقَت الأمَّةُ، ونطَق الكتابُ والسُّنَّةُ بأنَّ اللهَ تعالى عَفُوٌّ غفورٌ، يعفو عن الصَّغائِرِ مُطلَقًا، وعن الكبائِرِ بَعدَ التَّوبةِ، ولا يعفو عن الكُفرِ قَطعًا، وإن جاز عَقلًا، ومنَع بعضُهم الجوازَ العَقليَّ أيضًا؛ لأنَّه مُخالِفٌ لحِكمةِ التَّفرقةِ بَينَ مَن أحسَن غايةَ الإحسانِ، ومَن أساء غايةَ الإساءةِ، وضَعفُه ظاهِرٌ، واختلَفوا في العفوِ عن الكبائِرِ بدونِ التَّوبةِ؛ فجوَّزه الأصحابُ، بل أثبَتوه خِلافًا للمُعتزلةِ؛ حيثُ منَعوه سَمعًا، وإن جاز عَقلًا عندَ الأكثَرينَ منهم، حتَّى صرَّح بعضُ المُتأخِّرينَ منهم بأنَّ القولَ بعَدمِ حُسنِ العُفوِ عن المُستحِقِّ للعِقابِ عَقلًا قولُ أبي القاسِمِ الكَعبيِّ، لنا على الجوازِ أنَّ العِقابَ حقُّه، فيَحسُنُ إسقاطُه معَ أنَّ فيه نَفعًا للعبدِ مِن غَيرِ ضَررٍ لأحدٍ)
[563] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/235). .
وقال التَّفتازانيُّ أيضًا: (حُكمُ الفاسِقِ مِن المُؤمِنينَ الخُلودُ في الجنَّةِ؛ إمَّا ابتداءً بموجِبِ العَفوِ أو الشَّفاعةِ، وإمَّا بَعدَ التَّعذيبِ بالنَّارِ بقَدرِ الذَّنبِ)
[564] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/270). .
وقال أيضًا: (وفي معنى ارتِكابِ الكبائِرِ الإصرارُ على الصَّغائِرِ، بمعنى الإكثارِ منها؛ سَواءٌ كانت مِن نوعٍ واحِدٍ، أو أنواعٍ مُختلِفةٍ)
[565] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 270). .
ويُلاحَظُ أنَّ
الأشاعِرةَ يُوافِقونَ أهلَ السُّنَّةِ في أنَّ صاحِبَ الكبيرةِ تحتَ مشيئةِ اللهِ سبحانَه؛ إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفَر له، وإن عذَّبه في النَّارِ فلا يُخلِّدُه، بل يرحَمُه اللهُ أرحَمُ الرَّاحِمينَ، ولا يُخلِّدُ في النَّارِ إلَّا الكافِرينَ
[566] يُنظر: ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 242)، ((الإرشاد)) للجويني (ص: 392)، ((الإيمان بين السَّلف والمتكلمين)) للغامدي (ص: 173، 174). ، وقد ذكَر
ابنُ تيميَّةَ أنَّ
أبا الحَسنِ الأشعَريَّ (نصَر مَذهَبَ أهلِ السُّنَّةِ في أنَّه لا يُكفَّرُ أحدٌ مِن أهلِ القِبلةِ، ولا يُخَلَّدونَ في النَّارِ، وتُقبَلُ فيهم الشَّفاعةُ...)
[567] ((مجموع الفتاوى)) (7/120). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (
الأشعَريُّ رجَع إلى مَذهَبِ أهلِ الإثباتِ الذين يُثبِتونَ الصِّفاتِ والقَدَرِ، ويُثبِتونَ خُروجَ أهلِ الكبائِرِ مِن النَّارِ، ولا يُخرِجونَ أحدًا مِن الإيمانِ)
[568] ((بيان تلبيس الجهمية)) (3/539). .
وقال أيضًا: (أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، والصَّحابةُ والتَّابِعونَ لهم بإحسانٍ، وسائِرُ طوائِفِ المُسلِمينَ مِن أهلِ الحديثِ، والفُقَهاءُ، وأهلُ الكلامِ مِن مُرجِئةِ الفُقَهاءِ، والكَرَّاميَّةُ، والكُلَّابيَّةُ، و
الأشعَريَّةُ، والشِّيعةُ مُرجِئُهم وغَيرُ مُرجِئِهم- فيقولونَ: إنَّ الشَّخصَ الواحِدَ قد يُعذِّبُه اللهُ بالنَّارِ، ثُمَّ يُدخِلُه الجنَّةَ، كما نطقَت بذلك الأحاديثُ الصَّحيحةُ...؛ فإنَّ هؤلاء الطَّوائِفَ لم يتنازَعوا في حُكمِه، لكن تنازَعوا في اسمِه؛ فقالت
المُرجِئةُ جَهميَّتُهم وغَيرُ جَهميَّتِهم: هو مُؤمِنٌ كامِلُ الإيمانِ، وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ على أنَّه مُؤمِنٌ ناقِصُ الإيمانِ)
[569] ((مجموع الفتاوى)) (7/354). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ عن
الأشاعِرةِ الواقِفةِ: (كثيرٌ مِن مُتكلِّمةِ
المُرجِئةِ تقولُ: لا نعلَمُ أنَّ أحدًا مِن أهلِ القِبلةِ مِن أهلِ الكبائِرِ يدخُلُ النَّارَ، ولا أنَّ أحدًا منهم لا يدخُلُها، بل يجوزُ أن يدخُلَها جميعُ الفُسَّاقِ، ويجوزُ ألَّا يدخُلَها أحدٌ منهم، ويجوزُ دُخولُ بعضِهم، ويقولونَ: مَن أذنَب وتاب لا يُقطَعُ بقَبولِ توبتِه، بل يجوزُ أن يدخُلَ النَّارَ أيضًا، فهُم يقِفونَ في هذا كُلِّه؛ ولهذا سُمُّوا الواقِفةَ، وهذا قولُ القاضي أبي بكرٍ وغَيرِه مِن
الأشعَريَّةِ وغَيرِهم)
[570] ((منهاج السنة)) (5/284). .