المطلَبُ الثَّالِثُ: أبرَزُ مُعتَقَداتِ الكَيْسانيَّةِ
قال الأَسْفَرايِينيُّ: (هؤلاء الكَيْسانيَّةُ فِرَقٌ يجمَعُهم القولُ بنوعينِ من البِدعةِ:
أحدُهما: تجويزُ البَداءِ على اللَّهِ تعالى اللَّهُ عن قولِهم عُلُوًّا كبيرًا.
الثَّاني: قولُهم بإمامةِ مُحمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ.
ثمَّ اختَلَفوا في سَبَبِ إمامتِه.
فمنهم من قال: إنَّ سَبَبَ إمامتِه أنَّ عَليَّ بنَ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه دفَع الرَّايةَ إليه يومَ الجَمَلِ.
ومنهم من قال: إنَّ سبَبَ إمامتِه أنَّ الإمامةَ كانت لعَليٍّ، ثُمَّ
للحَسَنِ، ثُمَّ للحُسَينِ، وقد أوصى حُسَينٌ بها لأخيه مُحمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ حين خرج من المدينةِ قاصِدًا مكَّةَ حتى لا يبايعَ
يزيدَ بنَ معاويةَ.
وقومٌ منهم يقولون: إنَّ مُحمَّدَ بنَ الحَنَفيَّةِ لم يمُتْ ولم يُقتَلْ، وإنَّه في جَبَلِ رَضوى، وعنده عينٌ من الماءِ، وعينٌ من العَسَلِ، إلى أن يُؤذَنَ له في الخُروجِ، وهو المهديُّ المُنتَظَرُ عندَهم!
وقومٌ من الكَيْسانيَّةِ أقرُّوا بموتِه، ثُمَّ اختَلَفوا؛ فقال قومٌ منهم: إنَّ الإمامةَ بعده رجَعَت إلى ابنِ أخيه
عَليِّ بنِ الحُسَينِ زينِ العابِدينَ، وقال قومٌ: إنَّها رجَعَت إلى ابنِه أبي هاشِمٍ عبدِ اللَّهِ بنِ مُحمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ، ثُمَّ قال قومٌ: رجَعَت بعد أبي هاشمٍ إلى مُحمَّدِ بنِ عَليِّ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ بوصيَّةِ أبي هاشمٍ له بها، وقال قومٌ: رجَعَت إلى بَيانِ بنِ سَمعانَ التَّميميِّ، وهؤلاء قومٌ يُلَقَّبون بالبيانيَّةِ، وهم من جملةِ الغُلاةِ، يدَّعون إلهيَّةَ بَيانَ بنِ سَمعانَ، ويزعُمون أنَّ رُوحَ الإلهِ حَلَّ في أبي هاشمٍ، ثُمَّ رجَعَ إلى بيانٍ... وكان كُثَيِّرٌ الشَّاعِرُ
[221] هو: كُثَيِّرُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ بنِ الأسودِ الخُزاعيُّ المدنيُّ ثمَّ المِصريُّ، المشهورُ بكُثَيِّر عزَّةَ، التي هام في حبِّها، وأكثَرَ من الأشعارِ في التَّغزُّلِ بها، وكان كُثَيِّرٌ من غلاةِ الشِّيعةِ الرَّافضةِ، ومِن شَعرِه في انتظارِ رجعةِ محمَّدِ ابنِ الحَنَفيَّةِ قَولَه: ألا إنَّ الأئمَّةَ من قُرَيشٍ ** ولاةَ الحَقِّ أربعةٌ سواءُ عليٌّ والثَّلاثةُ من بنيه ** همُ الأسباطُ ليس بهم خَفاءُ فسِبطٌ سِبطُ إيمانٍ وبِرٍّ ** وسِبطٌ غَيَّبتْه كَرْبلاءُ وسِبطٌ لا يذوقُ الموتَ حتَّى ** يقودَ الخيلَ يَقدُمُها اللِّواءُ تغيَّب لا يُرى عنهم زمانًا ** برضوى عندَه عَسَلٌ وماءُ قال عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ: إنِّي لأعرِفُ صلاحَ بني هاشمٍ وفسادَهم بحبِّ كُثَيِّرٍ؛ من أحبَّه منهم فهو فاسِدٌ، ومن أبغضَه منهم فهو صالحٌ؛ لأنَّه كان يرى الرَّجعةَ. وقد توفِّي سنة 105هـ. يُنظر: ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 160)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (50/ 76 - 111)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (3/ 144 - 146). والسَّيدُ الحِميَريُّ
[222] هو: إسماعيلُ بنُ محمَّدِ بنِ يزيدَ بنِ ربيعةَ، وُلِد في عُمانَ ونشأ في البصرةِ، وكان شاعرًا محسنًا، بديعَ القولِ، وله مدائحُ جمَّةٌ في أهلِ البيتِ، إلَّا أنَّه رافضيٌّ جَلْدٌ، زائغٌ عن القصدِ، له أشعارٌ في سبِّ بعضِ الصَّحابةِ والطَّعنِ عليهم، وكان يرى رأيَ الكَيسانيَّةِ في رجعةِ محمَّدِ ابنِ الحنفيَّةِ إلى الدُّنيا، وهو القائلُ فيه: يا شِعبَ رَضوى ما لمن بك لا يُرى ** وبنا إليه من الصَّبابةِ أَولَقُ حتَّى متى؟ وإلى متى؟ وكم المدى؟ ** يا ابنَ الوَصيِّ وأنت حيٌّ تُرزَقُ وقد توفي سنة 173ه. يُنظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (4/ 638 - 640)، ((لسان الميزان)) لابن حجر (2/ 172). من جملةِ الكَيْسانيَّةِ، كانا ينتظِرانِ مُحمَّدَ بنَ الحَنَفيَّةِ، ولهما في ذلك أشعارٌ كثيرةٌ؛ فممَّا قاله السَّيِّدُ الحِميَريُّ في معناه:
ألَا قُلْ للوَصيِّ فدَتْك نفسي
أطلْتَ بذلك الجَبَلِ المُقاما
أضرَّ بمعشرٍ والَوكَ مِنَّا
وسَمَّوك الخليفةَ والإماما
وعادَوا فيك أهلَ الأرضِ طُرًّا
مُقامُك عندَهم سِتِّين عاما
وأوَّلُ من قام ببِدعةِ الكَيْسانيَّةِ ودعا إلى إمامةِ مُحمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ: المختارُ بنُ أبي عُبَيدٍ، أخذ في طلَبِ ثأرِ الحُسَين بنِ عَليٍّ، وظَفِر بأعدائِه، ولمَّا تمَّ له الظَّفَرُ في حروبٍ كثيرةٍ اغتَرَّ بنفسِه، فأخذ يتكلَّمُ بأسجاعٍ كأسجاعِ الكَهَنةِ، ولَمَّا بلغ خَبَرُ كِهانتِه إلى مُحمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ خاف أن يقَعَ بسببِه فِتنةٌ في الدِّينِ، وهمَّ ليقبِضَ عليه، فلمَّا عَلِم به المختارُ، وخاف على نفسِه منه، اختار قَتْلَه بحيلةٍ، فقال لقومِه: المهديُّ مُحمَّدُ بنُ الحَنَفيَّةِ، وأنا على ولايتِه، غيرَ أنَّ للمهديَّ علامةٌ، وهي أن يُضرَبَ عليه بالسَّيفِ فلا يَحيكُ فيه السَّيفُ، وأنا أُجَرِّبُ هذا السَّيفَ على مُحمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ؛ فإن حاك فيه فليس بمَهديٍّ، فلمَّا بلغ إلى مُحمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ هذا الخَبَرُ خاف أن يقتُلَه بما ذكَرْناه من حيلتِه، فتوقَّف حيث كان، ثُمَّ إنَّ السَّبئيَّةَ خدعوا المختارَ، وقالوا له: أنت حُجَّةُ الزَّمانِ، وحملوه على دعوى النُّبوَّةِ، فادَّعاها، وزعَم أنَّ أسجاعَه وَحيٌ يُوحى إليه، ثُمَّ قَوِيت شوكتُه، واستفحل أمرُه، حتَّى قصَد جُندًا من جنودِ مُصعَبِ بنِ الزُّبَيرِ فهزَمَهم، وأسَرَ جماعةً منهم فيهم سُراقةُ بنُ مِرداسٍ البارِقيُّ، فلمَّا قَدِم إلى المختارِ احتال، وقال: "لم تهزِمْنا جُندُك، ولا أسَرَنا قَومُك، ولكنَّ الملائكةَ الذين جاؤوا لنُصرتِك ونُصرةِ جُندِك هم الذين هَزَمونا، فاعفُ عَنَّا؛ فإنَّا لم نعلَمْ أنَّك على الحقِّ، والآن فقد عَلِمْناه؛ فعليك أقسِمُ بحَقِّ أولئك الملائكةِ الذين كانوا على أفراسٍ بُلقٍ، قائمين بنُصرتِك أن تعفوَ عنا"، فعفا عنهم، وعاد سُراقةُ إلى جُندِ مُصعَبِ بنِ الزُّبَيرِ بالبصرةِ،... واعلَمْ أنَّ السَّببَ الذي جوَّزت الكَيْسانيَّةُ البَداءَ على اللَّهِ تعالى أنَّ مُصعَبَ بنَ الزُّبَيرِ بعث إليه عسكرًا قويًّا، فبعث المختارُ إلى قتالِهم أحمدَ بنَ شُمَيطٍ مع ثلاثةِ آلافٍ من المقاتِلةِ، وقال لهم: أُوحيَ إليَّ أنَّ الظَّفرَ يكونُ لكم، فهُزم ابنُ شُمَيطٍ فيمن كان معه، فعاد إليه فقال: أين الظَّفَرُ الذي قد وعَدْتنا؟! فقال له المختارُ: هكذا كان قد وعَدَني ثُمَّ بدا؛ فإنَّه سُبحانَه وتعالى قد قال:
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39] ! ثُمَّ خرج المختارُ إلى قِتالِ مُصعَبٍ، ورجع مهزومًا إلى الكوفةِ، فقَتَلوه بها.
واعلَمْ أنَّ الكَيْسانيَّةَ اختَلَفوا في حَبسِ مُحمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ بجَبَلِ رَضوى؛ فمنهم من قال: كان ذلك عقوبةً له على خروجِه بعد قتلِ الحُسَينِ بنِ عَليٍّ إلى
يزيدَ بنِ معاويةَ، وطَلَبِ الأمانِ منه، وقَبولِه العطاءَ مِن قِبَلِه، وعلى أنَّه خرج من مكَّةَ في أيَّامِ
ابنِ الزُّبَيرِ، وقصَدَ
عبدَ المَلِكِ بنِ مَروانَ، ثُمَّ انصرف من الطَّريقِ وعدل إلى الطَّائفِ، وكان بها
عبدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ، فتُوفِّيَ
عبدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ، وصلَّى عليه بها مُحمَّدُ بنُ الحَنَفيَّةِ، ودفنه هناك، ثُمَّ قصَد المدينةَ فلمَّا بلَغَ شِعبَ رَضوى تُوُفِّيَ هناك ودُفِن، والذين يقولون بانتظارِه يُنكِرون موتَه، ويزعُمون أنَّه غُيِّبَ عن النَّاسِ إلى أن يؤذَنَ له في الخروجِ، وقال قومٌ من الكَيْسانيَّةِ: لا ندري سبَبَ حَبسِه هناك، وللهِ في حبسِه سِرٌّ لا يعلَمُه إلَّا هو، هذا تفصيلُ قولِ الكَيْسانيَّةِ من الرَّوافِضِ)
[223] ((التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين)) (ص: 30) باختصار وتصرف. ويُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) لأبي الحسن الأشعري (1/ 35 - 37)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 27 - 38)، ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (4/ 137 - 141). .
وذَكَر المُؤَرِّخُ البَلاذُريُّ أنَّ المختارَ قال لآلِ جَعدةَ بنِ هُبَيرةَ، وأمُّ جَعدةَ هي أمُّ هانئٍ بنتُ أبي طالبٍ: (ائتوني بكُرسيِّ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ، فقالوا: لا واللَّهِ ما له عندَنا كُرسيٌّ، قال: لا تكونوا حمقى، وائتوني به، فظَنَّ القومُ عِندَ ذلك أنَّهم لا يأتونَه بكُرسيٍّ فيقولونَ: هذا كرسيُّ عليٍّ إلَّا قَبِلَه منهم، فجاؤوه بكرسيٍّ، فقالوا: هذا هو، فخَرَجَت شبامٌ وشاكِرٌ ورؤوسُ أصحابِ المختارِ وقد عَصَبوه بخِرَقِ الحريرِ والدِّيباجِ،... وكان أصحابُ المختارِ يعكُفون عليه ويقولون: هو بمنزلةِ تابوتِ موسى، فيه السَّكينةُ، ويستسقون به يستَنصِرون، ويقدِّمونه أمامَهم إذا أرادوا أمرًا! فقال الشَّاعِرُ:
أبلِغْ شَبامًا وأبا هانئٍ
أنِّي بكُرسيِّهم كافِرُ
وقال أعشى هَمدانَ:
شَهِدتُ عليكم أنَّكم خَشَبيَّةٌ
وأنِّي بكم يا شُرطةَ الكُفرِ عارِفُ
وأقسِمُ ما كرسيُّكم بسَكينةٍ
وإنْ ظَلَّ قد لُفَّت عليه لفائِفُ
وأنْ ليس كالتَّابوتِ فينا وإن سَعَت
شَبامٌ حوالَيه ونهدٌ وخارِفُ
وإنْ شاكِرٌ طافت به وتمسَّحت
بأعوادِه أو أدبَرَت لا يساعِفُ
وإنِّي امرؤٌ أحبَبتُ آلَ محمَّدٍ
وآثَرتُ وَحيًا ضمَّنَته الصَّحائِفُ
وكان له عمٌّ يُكنى أبا أُمامةَ، وكان من أصحابِ المختارِ، فكان يأتي مجلِسَ قومِه فيقولُ: أتانا اليومَ بوَحيٍ ما سَمِع النَّاسُ بمِثلِه!
وحَدَّثني عبَّاسُ بنُ هِشامٍ عن أبيه عن جَدِّه قال: قيل ل
ابنِ عُمَرَ: إنَّ المختارَ يَعمِدُ إلى كُرسيِّ عليٍّ، فيَحمِلُه على بَغلٍ أشهَبَ ويُحَفُّ بالدِّيباجِ ويَطوفُ به أصحابُه، يستسقون به ويستنصِرون! فقال: فأين جَنادبةُ الأزدِ عنه لا يَعقِرُ به بعضُهم؟ قال: وهم جُندَبُ بنُ زُهَيرٍ، وجُندَبُ بنُ كَعبٍ مِن بني ظَبيانَ، وجُندَبُ بنُ عَبدِ اللَّهِ وهو جُندَبُ الخيرِ)
[224] ((أنساب الأشراف)) (6/ 413، 414). ويُنظر: ((الأنساب)) للسمعاني (5/ 134)، ((تاج العروس)) للزبيدي (2/ 359). .