المَبحَثُ الثَّالِثُ: مِن معالمِ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في تقريرِ العقيدةِ الصَّحيحةِ: الوقوفُ عِندَ مفاهيمِ النُّصوصِ مع الاستفادةِ من دَلالةِ العقلِ في حُدودِه وعَدَمِ الخَوضِ فيما لا مجالَ للعَقلِ فيه
من تَكريمِ الإسلامِ للعَقلِ إعمالُه فيما خُلِقَ له، وحَجْبُه عن الخَوضِ فيما لا سبيلَ للوُصولِ إليه.
وإنَّ وظيفةَ العَقلِ في مجالِ العُلومِ المنَزَّلةِ مِنَ اللّهِ أن ينظُرَ فيها، ليستوثِقَ مِن صِحَّةِ نِسبتِها إلى اللّهِ تعالى، فإن تبيَّنَ له صحَّةُ ذلك فعليه أن يستوعِبَ وَحيَ اللّهِ إليه، ويستخدِمَ العَقلَ الذي وهبه اللهُ إيَّاه في فَهمِ وتدَبُّرِ الوَحيِ، ثُمَّ يجتَهِدَ في العَمَلِ به. والوَحيُ مع العَقلِ كنُورِ الشَّمسِ أو الضَّوءِ مع العينِ، فإذا حُجِبَ الوحيُ عن العقلِ لم ينتَفِعِ الإنسانُ بعَقْلِه، كما أنَّ المبصِرَ لا ينتَفِعُ بعينِه إذا عاش في ظُلمةٍ.
والعُلومُ الضَّروريَّةُ يتَّفِقُ عليها جميعُ العُقَلاءِ، والعلومُ النَّظَريَّةُ يتفاوتُ النَّاسُ في إدراكِها بحَسَبِ ما أُوتوا من قُدُراتِ ذِهنيَّةٍ وتدَبُّرٍ ونَظَرٍ،
وأمَّا العلومُ الغَيبيَّةَ فتعَلُّقُ العقلِ بها من جِهتَينِ:
أولًا: العِلمُ بها: وهذا لا يَستَقِلُّ به العَقلُ، ولا يَهتَدي إليه من حيثُ هو إلَّا أن يُهدَى إليه بخَبَرِ الوَحْيِ الصَّادِقِ، فيَعلَمُه حينئذٍ عِلمًا معنويًّا عامًّا مَبنيًّا على الاشتراكِ الذِّهنيِّ مع ما يُوافِقُه في عالَمِ الشَّهادةِ.
ثانيًا: إدراكُ تفاصيلِها وكيفيَّاتِها: وهذا لا سَبيلَ إليه مُطلَقًا؛ إذ إنَّ العقلَ قاصِرٌ قُصورًا ذاتيًّا عن إدراكِه والإحاطةِ بعِلْمِه.
والعَقلُ الصَّريحُ المُستضيءُ بنُورِ الشَّرعِ الصَّحيحِ مِيزانٌ تُوزَنُ به الدَّعاوى والمقَدِّماتُ، يفرق بَينَ الأقيِسَةِ العَقليَّةِ الصَّحيحةِ والأقيِسَةِ العَقليَّةِ الخاطِئةِ: فالأُولى مُنضَبِطةٌ بضَوابِطِ الشَّرعِ المعصومِ، مُوافِقةٌ للفِطَرِ السَّليمةِ، والأُخرى اجتهاداتٌ بَشَريَّةٌ مُنحَرِفةٌ لا ضابِطَ لها، تتأثَّرُ بمؤثِّراتٍ شَتَّى.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (بَيَّنَّا أنَّ كُلَّ ما يدُلُّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ فإنَّه موافِقٌ لصَريحِ المعقولِ، وأنَّ العَقلَ الصَّريحَ لا يخالِفُ النَّقلَ الصَّحيحَ)
[76] ((مجموع الفتاوى)) (12/80). .
وقال أيضًا: (الأنبياءُ جاؤوا بما تَعجِزُ العقولُ عن معرفتِه، ولم يجيئوا بما تعلَمُ العُقولُ بُطلانَه، فهم يُخبِرُون بمحاراتِ العُقولِ لا بمُحالاتِ العُقولِ)
[77] ((مجموع الفتاوى)) (2/312). .
وقال أيضًا: (إنَّ الخَلْقَ لا يَعْلَمون ما يحبُّه اللهُ ويرضاه وما أمر به وما نهى عنه وما أعدَّه لأُوليائه من كرامتِه وما وعد به أعداءَه من عذابِه، ولا يعرفون ما يستحِقُّه اللهُ تعالى من أسمائِه الحُسنى وصِفاتِه العُلْيا التي تَعجِزُ العُقولُ عن معرفتِها، وأمثالَ ذلك؛ إلَّا بالرُّسُلِ الذين أرسلهم اللهُ إلى عبادِه)
[78] ((مجموع الفتاوى)) (1/121). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (لَمَّا أعرَضَ كثيرٌ مِن أربابِ الكلامِ والحُروفِ وأربابِ العَمَلِ والصَّوتِ عن القُرآنِ والإيمانِ، تجِدُهم في العَقلِ على طريقِ كثيرٍ مِن المتكَلِّمةِ يجعَلونَ العَقلَ وَحْدَه أصلَ عِلْمِهم، ويُفرِدونَه ويَجعَلونَ الإيمانَ والقُرآنَ تابِعَينِ له. والمعقولاتُ عِندَهم هي الأصولُ الكُلِّيَّةُ الأوَّلِيَّةُ المُستَغنيةُ بنَفْسِها عن الإيمانِ والقرآنِ. وكثيرٌ مِن المتصَوِّفةِ يَذُمُّونَ العَقْلَ ويَعيبونَه، ويَرَونَ أنَّ الأحوالَ العاليةَ والمقاماتِ الرَّفيعةَ لا تَحصُلُ إلَّا مع عَدَمِه، ويُقِرُّونَ من الأمورِ بما يُكَذِّبُ به صريحُ العَقلِ، ويَمدَحونَ السُّكرَ والجُنونَ والوَلَهَ وأمورًا مِن المعارِفِ والأحوالِ التي لا تكونُ إلَّا مع زَوالِ العَقْلِ والتَّمييزِ، كما يُصَدِّقونَ بأمورٍ يُعلَمُ بالعَقلِ الصَّريحِ بُطلانُها مَّمن لم يُعلَمْ صِدْقُه! وكِلا الطَّرَفينِ مذمومٌ، بل العَقلُ شَرطٌ في معرفةِ العُلومِ، وكَمالِ وصَلاحِ الأعمالِ، وبه يَكمُلُ العِلمُ والعَمَلُ، لكِنَّه ليس مُستَقِلًّا بذلك، بل هو غريزةٌ في النَّفسِ وقُوَّةٌ فيها بمنزلةِ قُوَّةِ البصَرِ التي في العَينِ، فإنِ اتَّصَل به نورُ الإيمانِ والقُرآنِ، كان كنُورِ العَينِ إذا اتَّصَل به نورُ الشَّمسِ والنَّارِ، وإن انفَرَد بنَفْسِه لم يُبصِرِ الأمورَ التي يَعجِزُ وَحْدَه عن دَرَكِها)
[79] ((مجموع الفتاوى)) (3/338). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (المقَدِّمةُ التي تدَّعي طائِفةٌ مِن النُّظَّارِ صِحَّتَها، تقولُ الأخرى: هي باطِلةٌ، وهذا بخلافِ مُقَدِّماتِ أهلِ الإثباتِ الموافِقةِ لِما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّها من العَقليَّاتِ التي اتَّفَقَت عليها فِطَرُ العُقَلاءِ سَلِيمي الفِطرةِ، التي لا يُنازِعُ فيها إلَّا من تلَّقى النِّزاعَ تعليمًا من غيرِه، لا مِن مُوجِبِ فِطرتِه؛ فإنَّما يَقدَحُ فيها بمقَدِّمةٍ تَقليديَّةٍ أو نظَريَّةٍ لا تَرجِعُ إلى العَقلِ الصَّريحِ، وهو يدَّعي أنَّها عقليَّةٌ فِطريَّةٌ، ومَن كان له خِبرةٌ بحقيقةِ هذا البابِ تبَيَّنَ له أنَّ جميعَ المقَدِّماتِ العَقليَّةِ التي ترجِعُ إليها براهينُ المعارِضينَ للنُّصوصِ النّبَوِيَّةِ إنَّما ترجِعُ إلى تقليدٍ منهم لأسلافِهم لا إلى ما يُعلَمُ بضَرورةِ العَقلِ، ولا إلى الفِطرةِ)
[80] ((درء تعارض العقل والنقل)) (4/278). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (فمِن أين للعَقلِ معرفةُ اللّهِ تعالى بأسمائِه وصِفاتِه وآلائِه التي تعَرَّف بها اللهُ إلى عبادِه على ألسِنَةِ رُسُلِه؟ ومِن أين له معرفةُ تفاصيلِ شَرْعِه ودينِه الذي شرعه لعبادِه؟ ومِن أين له تفاصيلُ مواقِعِ محبَّتِه ورِضاه، وسَخَطِه وكَراهتِه؟ ومن أين له معرفةُ تفاصيلِ ثوابِه وعِقابِه، وما أعدَّ لأُوليائه، وما أعدَّ لأعدائه، ومقاديرِ الثّوابِ والعِقابِ، وكيفيَّتِهما، ودرجاتِهما؟ ومن أين له معرفةُ الغيبِ الذي لم يُظهِرِ اللهُ عليه أحدًا من خَلْقِه إلَّا من ارتضاه من رُسُلِه؟ إلى غيرِ ذلك مِمَّا جاءت به الرُّسُلُ، وبلَّغَته عن اللّهِ، وليس في العَقلِ طريقٌ إلى معرفتِه)
[81] ((مفتاح دار السعادة)) (2/1155). .
وقال أيضًا: (العقلُ يُدرِكُ حُسنَ العَدْلِ، وأمَّا كونُ هذا الفِعلِ المُعَيَّنِ عَدلًا أو ظُلمًا فهذا مِمَّا يَعجِزُ العَقلُ عن إدراكِه في كلِّ فِعلٍ وعَقدٍ. وكذلك يَعجِزُ عن إدراكِ حُسنِ كُلِّ فِعلٍ وقُبحِه إلى أن تأتيَ الشَّرائعُ بتفصيلِ ذلك وتبيينِه، وما أدركه العَقلُ الصَّريحُ من ذلك أتت الشَّرائعُ بتقريرِه، وما كان حَسَنًا في وقتٍ قبيحًا في وقتٍ ولم يهتَدِ العَقلُ لوَقتِ حُسْنِه من وقتِ قُبحِه أتت الشَّرائعُ بالأمرِ به في وَقتِ حُسنِه، وبالنَّهيِ عنه في وَقتِ قُبحِه.
وكذلك الفِعلُ يَكونُ مُشتَمِلًا على مصلحةٍ ومَفسدةٍ، ولا تَعلَمُ العُقولُ أمَفسَدتُه أرجَحُ أم مصلَحَتُه؟ فيتوقَّفُ العَقلُ في ذلك، فتأتي الشَّرائعُ ببيانِ ذلك، وتأمُرُ براجِحِ المصلحةِ، وتنهى عن راجِحِ المفسدةِ.
وكذلك الفِعلُ يَكونُ مصلحةً لشَخصٍ مَفسدةً لغَيرِه، والعَقلُ لا يدرِكُ ذلك، فتأتي الشَّرائعُ ببيانِه، فتأمُرُ به من هو مصلحةٌ له، وتنهى عنه من هو مَفسَدةٌ في حَقِّه.
وكذلك الفِعلُ يَكونُ مَفسَدةً في الظَّاهِرِ، وفي ضِمْنِه مَصلحةٌ عَظيمةٌ لا يهتدي إليها العقلُ، فلا تُعلَمُ إلَّا بالشَّرعِ، كالجِهادِ والقَتلِ في اللّهِ. ويَكونُ في الظَّاهِرِ مصلحةٌ، وفي ضِمْنِه مَفسدةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العَقلُ، فتجيء الشَّرائعُ ببيانِ ما في ضِمْنِه من المصلحةِ والمفسدةِ الرَّاجِحةِ)
[82] ((مفتاح دار السعادة)) (2/1153). .
وقال السّفاريني: (إنَّ اللهَ تعالى خلق العقولَ، وأعطاها قُوَّةَ الفِكرِ، وجعل لها حَدًّا تقف عنده من حيث ما هي مُفَكِّرةٌ، لا من حيث ما هي قابلةٌ للوَهبِ الإلهيِّ، فإذا استعملت العقولُ أفكارَها فيما هو في طَورِها وَحَدِّها ووَفَّت النَّظَرَ حَقَّه، أصابت بإذنِ اللّهِ تعالى، وإذا سلَّطت الأفكارَ على ما هو خارجٌ عن طورِها ووراءَ حَدِّها الذي حَدَّه اللهُ لها، رَكِبَت مَتْنَ عَمياءَ، وخبَطَت خَبطَ عَشواءَ، فلم يَثبُتْ لها قَدَمٌ، ولم ترتكِنْ على أمرٍ تَطمَئِنُّ إليه، فإنَّ معرفةَ اللّهِ التي وراءَ طَورِها مِمَّا لا تستَقِلُّ العقولُ بإدراكِها من طريقِ الفِكرِ وترتيبِ المقَدِّماتِ، وإنما تُدرِك ذلك بنور النُّبُوَّةِ وولايةِ المتابعةِ، فهو اختِصاصٌ إلهيٌّ يختصُّ به الأنبياءُ وأهلُ وِراثتِهم مع حُسنِ المتابعةِ، وتصفيةِ القَلبِ مِن وَضَرِ البِدَعِ والفِكرِ مِن نَزَغاتِ الفَلسَفةِ، واللهُ يختَصُّ برحمتِه من يشاءُ، واللهُ ذو الفَضلِ العظيمُ)
[83] ((لوامع الأنوار البهية)) (1/105). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (إنَّ العَقلَ يُدرِكُ ما يجِبُ لله سُبحانَه وتعالى ويمتَنِعُ عليه على سَبيلِ الإجمالِ لا على سَبيلِ التَّفصيلِ؛ فمثلًا: العَقلُ يُدرِكُ بأنَّ الرَّبَّ لا بُدَّ أن يكونَ كامِلَ الصِّفاتِ، لكِنْ هذا لا يعني أنَّ العَقلَ يُثبِتُ كُلَّ صِفةٍ بعَينِها أو ينفيها، لكِنْ يُثبِتُ أو ينفي على سَبيلِ العُمومِ أنَّ الرَّبَّ لا بدَّ أن يكونَ كامِلَ الصِّفاتِ سالِمًا من النَّقصِ... على سَبيلِ العُمومِ نُدرِكُ ذلك، لكِنْ على سَبيلِ التَّفصيلِ لا يمكِنُ أن نُدرِكَه، فنتوقَّفُ فيه على السَّمعِ)
[84] ((شرح العقيدة الواسطية)) (1/81). .