المَبحَثُ الرَّابع: مِن معالمِ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في تقريرِ العقيدةِ الصَّحيحةِ: الاتباع وعدم الابتداع والإعراض عن البدع وأهلها
قد وردت آيات وأحاديث وآثار عن السَّلَف فيها الأمر بالاتباع والنّهي عن الابتداع والحذر من
البدعة وأهلها.
أوَّلًا: من القرآن:1- قال اللهُ تعالى:
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] .
عن مُجاهِدٍ أنَّه قال في قَولِه:
وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، قال: (البِدَعُ والشُّبُهاتُ)
[85] رواه ابن جرير في تفسيره (9/670). .
وقال
الشَّاطِبيُّ: (الصِّراطُ المُستَقيمُ هو سَبيلُ اللّهِ الَّذي دَعا إليه، وهو السُّنَّةُ، والسُّبُلُ هيَ سُبُلُ أهلِ الاختِلافِ الحائِدينَ عنِ الصِّراطِ المُستَقيمِ، وهم أهلُ البِدَعِ، ولَيسَ المُرادُ سُبُلَ المَعاصي؛ لأنَّ المَعاصيَ من حَيثُ هيَ مَعاصٍ لم يَضَعْها أحَدٌ طَريقًا تُسلَكُ دائِمًا على مُضاهاةِ التَّشريعِ، وإنَّما هذا الوَصفُ خاصٌّ بالبِدَعِ المُحْدَثاتِ)
[86] ((الاعتصام)) (1/80). .
2- قال اللهُ سُبحانَه:
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] .
قال
عَبدُ اللّهِ بنُ المُبارَكِ وسَهلُ بنُ عَبدِ اللَّهِ: (
قَصْدُ السَّبِيلُ: السُّنَّةُ،
وَمِنْهَا جَائِرٌ: الأهواءُ والبِدَعُ)
[87] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/73). .
وقال
الشَّاطِبيُّ: (السَّبيلُ القَصدُ: هو طَريقُ الحَقِّ، وما سِواهُ من الطُّرُقِ جائِرٌ عنِ الحَقِّ، أي: عادِلٌ عنه، وهيَ طُرُقُ البِدَعِ والضَّلالاتِ، أعاذَنا اللَّهُ من سُلوكِها بفَضلِه، وكَفَى بالجائِرِ أن يُحذَّرَ منه، فالمَساقُ يَدُلُّ على التَّحذيرِ والنَّهيِ... وعن مُجاهِدٍ قَصْدُ السَّبِيلِ أي: المُقتَصِدُ منها بَينَ الغُلُوِّ والتَّقصيرِ. وذلك يُفيدُ أنَّ الجائِرَ هو الغالي أوِ المُقَصِّرُ، وكِلاهما من أوصافِ البِدَعِ)
[88] ((الاعتصام)) (1/84). .
3- قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
إنَّ الَّذِين فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] .
قال ابنُ عَطِيَّةَ: (هذه الآيةُ تَعَمُّ أهلَ الأهواءِ والبِدَعِ والشُّذوذِ في الفُروعِ، وغَيرَ ذلك من أهلِ التَّعَمُّقِ في الجَدَلِ والخَوضِ في الكَلامِ، هذه كُلُّها عُرضةٌ للزَّللِ ومَظِنَّةٌ لسُوءِ المُعتَقَدِ)
[89] ((تفسير ابن عطية)) (2/364). .
وقال إسماعيلُ بنُ إسحاقَ الأزديُّ: (ظاهِرُ القُرآنِ يَدُلُّ على أنَّ كُلَّ من ابتَدَعَ في الدِّينِ
بدعةً من
الخَوارِجِ وغَيرِهم، فهو داخِلٌ في هذه الآيةِ؛ لأنَّهم إذا ابتَدَعوا تَجادَلوا وتَخاصَموا وتَفَرَّقوا وكانوا شِيَعًا)
[90] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (1/89). .
ثانيًا: من السُّنَّةِ:1- عن
عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من أحدَثَ في أَمْرِنا هذا ما لَيسَ منه، فهو رَدٌّ )) [91] رواه البخاري (2695)، ومسلم (1718) واللَّفظُ له. وفي رِوايةٍ:
((من عَمَلِ عَمَلًا لَيسَ عليه أمرُنا فهو رَدٌّ)) [92] أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم قبل حديث (7350)، وأخرجه موصولًا مسلم (1718) واللَّفظُ له. .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((من أحدَثَ في أمرِنا هذا ما لَيسَ منه فهو رَدٌّ)) أي: من اختَرَعَ في الشَّرعِ ما لا يَشهَدُ لَهُ أصلٌ من أصولِه فهو مَفسوخٌ، لا يُعمَلُ به، ولا يُلتَفَتُ إليه)
[93] ((المفهم)) (5/171). .
2- عن
جابِرِ بنِ عَبدِ اللّهِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقولُ في خُطبَتِه:
((أمَّا بَعدُ، فإنَّ خَيرَ الحَديثِ كِتابُ اللَّهِ، وخَيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وشَرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ )) [94] رواه مسلم (867). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (قَولُه: «وشَرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها» يَعني كُلَّ ما أُحدِثَ بَعدَهُ في كُلِّ شَيءٍ إذا كان مُخالِفًا لِما شَرعَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وكَذلك قَولُه: «كُلُّ
بدعةٍ ضَلالةٌ» إذا كانت مُخالِفةً أيضًا، وأصلُ
البِدعةِ من حَيثُ الاشتِقاقُ: الانفِرادُ، فصاحِبُها يَنفَرِدُ بها من جِهةِ أنَّه ابتَدَأها، ومنه قَولُه: أُبدِعَ بي، أي: أُفرِدْتُ، فلَمَّا لم يَرَها المُسْلِمونَ حَسَنةً، كانت ضَلالةً)
[95] ((الإفصاح)) (8/352). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يَكونُ في آخِرِ الزَّمانِ دَجَّالونَ كذَّابون يَأتونَكُم من الأحاديثِ بما لم تَسمَعوا أنتُم ولا آباؤُكُم، فإيَّاكُم وإيَّاهم، لا يُضلُّونَكُم ولا يَفتِنونَكُم )) [96] أخرجه من طرُقٍ: مسلم في ((مقدمة الصَّحيح)) (7) واللَّفظُ له، وأحمد (8596). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (6766)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (8151)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8596)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (16/245). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحَديثِ من الفِقهِ تَشديدُ النَّهيِ عنِ الابتِداعِ، والتَّحذيرُ من أهلِ البِدَعِ، والحَضُّ على الاتِّباعِ، وهو يُنَبِّهُ الإنسانَ ألَّا يَكونَ في شَيءٍ من أمرِه إلَّا مُتَّبِعًا لِمَن يَثِقُ بسَلامةٍ ناحيَتِه، وكَونِه مِمَّن يَصلُحُ اتِّباعُه على سَبيلِ سُنَّةٍ، وحالِ رِوايةٍ)
[97] ((الإفصاح)) (8/195). .
ثالثًا: من آثارِ السَّلَفِ:1- قال
عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (اتَّبِعوا ولا تبتَدِعوا؛ فقد كُفِيتُم)
[98] أخرجه الدارمي (205)، والطبراني (9/168) (8770)، والبيهقي في ((المدخل إلى السنن)) (204). صحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((إصلاح المساجد)) (12)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/186): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ. .
2- قال مُعاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (فإيَّاكم وما ابتُدِعَ؛ فإنَّ ما ابتُدِع ضلالةٌ)
[99] أخرجه من طرق: أبو داود (4611)، والحاكم (8440)، والبيهقي (21444). صحَّحه الحاكِمُ على شرطِ مُسلمٍ، وصَحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4611)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4611). .
3- قال حُذَيفةُ رَضِيَ اللهُ عنه: (يا مَعشَرَ القُرَّاءِ، استَقيموا، فقد سَبَقْتُم سبقًا بعيدًا، فإنْ أخَذْتُم يمينًا وشِمالًا لقد ضلَلْتُم ضلالًا بعيدًا)
[100] صحيح البخاري (7282). .
4- قال
عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (يكونُ عليكم أُمَراءُ يَترُكون من السُّنَّةِ مِثلَ هذا -وأشار إلى أصلِ إصبَعِه- وإن ترَكْتُموهم جاؤوا بالطَّامَّةِ الكُبرى، وإنَّها لم تكُنْ أُمَّةٌ إلَّا كان أوَّلُ ما يتَرُكون من دينِهم السُّنَّةَ، وآخِرُ ما يَدَعون الصَّلاةَ، ولولا أنَّهم يَسْتَحيُون ما صَلَّوا)
[101] أخرجه الحاكم (8584)، والطبراني (9/346) (9497) مختصَرًا. صحَّحه الحاكمُ على شَرطِ الشَّيخينِ، ووثَّق رجالَه الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (5/233). .
وقال
عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أيضًا: (ستَجِدون أقوامًا يَزعُمون أنَّهم يَدْعُون إلى كتابِ اللهِ، وقد نبَذوه وراءَ ظُهورِهم. عليكم بالعِلمِ، وإيَّاكم والبِدَعَ والتَّنطُّعَ والتَّعمُّقَ، وعليكم بالعتيقِ)
[102] يُنظر: ((البدع والنهي عنها)) لابن وضاح (ص: 59). .
5- عن أبي أُمامةَ الباهِليِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (ما كان شِركٌ قَطُّ إلَّا كان بَدؤُه تكذيبًا بالقَدَرِ، ولا أشرَكَت أمَّةٌ قَطُّ إلَّا بَدؤُه تكذيبٌ بالقَدَرِ، وإنَّكم ستُبْلَون بهم أيَّتُها الأمَّةُ، فإنْ لَقِيتُموهم فلا تُمَكِّنوهم من المسألةِ فيُدخِلوا عليكم الشُّبُهاتِ)
[103] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 128). .
6- قال عبدُ اللهِ بنُ الدَّيلَميِّ: (إنَّ أوَّلَ ذَهابِ الدِّينِ تَركُ السُّنَّةِ، يذهَبُ الدِّينُ سُنَّةً سُنَّةً، كما يذهَبُ الحَبلُ قُوَّةً قُوَّةً)
[104] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/93). .
7- قال
عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ: (سَنَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ووُلاةُ الأمرِ مِن بِعدِه سُنَنًا، الأخذُ بها تَصديقٌ لكِتابِ اللَّهِ، واستِكمالٌ لطاعةِ اللَّهِ، وقوَّةٌ على دينِ اللَّهِ، ليس لأحَدٍ تغييرُها ولا تبديلُها ولا النَّظَرُ في رأيِ مَن خالفَها، فمَن اقتدى بما سَنُّوا فقد اهتدى، ومن استبصَر بها بُصِّرَ، ومن خالفَها واتَّبَع غيرَ سَبيلِ المؤمِنين ولَّاه اللهُ عزَّ وجَلَّ ما تولَّاه، وأصلاه جَهنَّمَ وساءت مصيرًا)
[105] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/93). .
8- قال
الحَسَنُ البَصريُّ: (لا تُجالِسوا أهلَ الأهواءِ ولا تُجادِلوهم ولا تَسمَعوا منهم)
[106] أخرجه اللالكائي (1/ 133). .
9- قال
الشَّافِعيُّ: (إذا ثَبَت عن رَسولِ اللهِ الشَّيءُ، فهو اللَّازِمُ ولا يُوهِنُه شَيءٌ غَيرُه، بل الفَرضُ الذي على النَّاسِ اتِّباعُه، ولم يجعَلِ اللهُ لأحَدٍ معه أمرًا يخالِفُ أمْرَه)
[107] ((الرسالة)) (1/ 330). .
10- قال
الأوزاعيُّ: (اصبِرْ نَفْسَك على السُّنَّةِ، وقِفْ حيث وَقَف القَومُ، وقُلْ فيما قالوا، وكُفَّ عما كَفُّوا عنه، واسلُكْ سَبيلَ سَلَفِك الصَّالحِ؛ فإنَّه يَسَعُك ما وَسِعَهم)
[108] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/673). .
وقال أيضًا: (عليك بآثارِ مَن سَلَف وإن رَفَضَك النَّاسُ، وإيَّاك وآراءَ الرِّجالِ وإنْ زَخْرَفوا لك بالقَولِ)
[109] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (1/445). .
11- قال
أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (من ردَّ حديثَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو على شَفَا هَلَكةٍ)
[110] رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (3/ 478). .
12- قال
البَرْبَهاريُّ: (إذا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَطعَنُ على الآثارِ، أو يَرُدُّ الآثارَ، أو يريدُ غيرَ الآثارِ؛ فاتِّهمْه على الإسلامِ، ولا تَشُكَّ أنَّه صاحِبُ هَوًى مُبتَدِعٌ)
[111] ((شرح السنة)) (ص: 112). .