المَبحَثُ السَّادِسُ: الاستِخارةُ بما يُشبِهُ أزلامَ الجاهليَّةِ
كانتِ العَرَب في جاهليَّتِها إذا أزمَعَ أحَدُهم سَفرًا أو غَزوًا أو نَحوَ ذلك، أجال الأزلامَ، وهي عِبارةٌ عن قِداحٍ
[1357] سهامٌ لا ريشَ لها ولا نَصلَ. ثَلاثةٍ، على أحَدِها مَكتوبٌ: افعَلْ، وعلى الآخَرِ: لا تَفعَلْ، والثَّالِثُ: ليس عليه شَيءٌ، فإذا أجالها فطَلعَ سَهمُ الأمرِ فعَله، أو النَّهيُ تَرَكه، وإن طَلعَ الفارِغُ أعادَ
[1358] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/510)، ((تفسير ابن كثير)) (2/12). .
وقد أدخَلت طائِفةُ الاثنَي عَشريَّةَ الاستِخارةَ بالأزلامِ في دينِها، مَعَ إضافةِ زياداتٍ، وسَمَّوها الرِّقاعَ، وعَقد الحُرُّ العامِليُّ لهذا بابًا بعُنوانِ (بابُ استِحبابِ الاستِخارةِ بالرِّقاعِ وكيفيَّتِها)
[1359] يُنظر: ((وسائل الشيعة)) (5/208-213). . وذَكرَ في هذا البابِ خَمسَ رِواياتٍ، أمَّا المَجلِسيُّ فقد ذَكرَ أنواعًا مِنَ الاستِخاراتِ تَدخُلُ في هذا المَعنى في أبوابٍ ثَلاثةٍ، وهي بابُ الاستِخارةِ بالرِّقاعِ
[1360] يُنظر: ((بحار الأنوار)) (91/226-234). ، وبابُ الاستخارةِ بالبنادِقِ
[1361] يُنظر: ((بحار الأنوار)) (91/235-240). ، وبابُ الاستخارةِ بالسُّبحةِ والحَصى
[1362] يُنظر: ((بحار الأنوار)) (91/247-251). .
وفي هذه الاستِخاراتِ تَذكُرُ كُتُبُ الشِّيعةِ أدعيةً مُعَيَّنةً، وتَنتَهي بما يُشبِهُ عَمَلَ الجاهليَّةِ حَيثُ استِكشافُ ما هو خَيرٌ عن طَريقِ تَحريكِ السُّبحةِ، أو كِتابِ افعَلْ أو لا تَفعَلْ في رِقاعٍ مُعَيَّنةٍ، واختِبارِ ذلك عِدَّةَ مَرَّاتٍ.
ومِن أمثِلةِ ذلك ما رَوَوه عن هارونَ بنِ خارِجةَ عن أبي عَبدِ اللهِ قال: (إذا أرَدتَ أمرًا فخُذْ سِتَّ رِقاعٍ فاكتُبْ في ثَلاثٍ منها: بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، خيرةٌ مِنَ اللهِ العَزيزِ الحَكيمِ لفُلانِ بنِ فُلانةَ، افعَلْ، وفي ثَلاثٍ منها: بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، خيرةٌ مِنَ اللهِ العَزيزِ الحَكيمِ لفُلانِ بنِ فُلانةَ، لا تَفعَلْ، ثُمَّ ضَعها تَحتَ مُصَلَّاك، ثُمَّ صَلِّ رَكعَتَينِ، فإذا فرَغتَ فاسجُدْ سَجدةً، وقُلْ فيها مِائةَ مَرَّةٍ: أستَخيرُ اللهَ برَحمَتِه خيرةً في عافيةٍ، ثُمَّ استَوِ جالسًا، وقُل: اللهمَّ خِرْ لي واختَرْ لي في جَميعِ أُموري، في يُسرٍ مِنك وعافيةٍ، ثُمَّ اضرِبْ بيدِك إلى الرِّقاعِ، فشَوِّشْها وأخرِجْ واحِدةً، فإن خَرَجَ ثَلاثٌ مُتَوالياتٌ افعَلْ، فافعَلِ الأمرَ الذي تُريدُه، وإن خَرَجَ ثَلاثٌ مُتَوالياتٌ لا تَفعَلْ، فلا تَفعَلْه، وإن خَرَجت واحِدةٌ افعَلْ، والأُخرى لا تَفعَلْ، فأخرِجْ مِنَ الرِّقاعِ إلى خَمسٍ، فانظُرْ أكثَرَها فاعمَلْ به، ودَعِ السَّادِسةَ لا تَحتاجُ إليها)
[1363] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (3/131). .
وجاءَ في رِوايةٍ: (انوِ الحاجةَ في نَفسِك، ثُمَّ اكتُبْ رُقعَتَينِ، في واحِدةٍ: لا، وفي واحِدةٍ: نَعَمْ، واجعَلْهما في بُندُقَتَينِ مِن طينٍ، ثُمَّ صَلِّ رَكعَتَينِ، واجعَلْهما تَحتَ ذيلِك، وقُلْ: يا اللهُ، إنِّي أُشاوِرُك في أمري هذا، وأنتَ خَيرُ مُستَشارٍ ومُشيرٍ، فأشِرْ عليَّ مِمَّا فيه صَلاحٌ وحُسنُ عاقِبةٍ، ثُمَّ أدخِلْ يَدَك، فإن كان فيها نَعَمْ فافعَلْ، وإن كان فيها لا، لا تَفعَلْ)
[1364] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (3/132). .
أمَّا الاستِخارةُ بالسُّبحةِ والحَصى فقد قال المَجلِسيُّ: (سَمِعتُ والدي يروي عن شَيخِه البَهائيِّ نوَّر اللهَ ضَريحَه أنَّه كان يقولُ: سَمِعْنا مُذاكرةً عن مَشايِخِنا عن القائِمِ صَلواتُ اللهِ عليه في الاستِخارةِ بالسُّبحةِ أنَّه يأخُذُها، ويُصَلِّي على النَّبيِّ وآلِه صَلواتُ اللهِ عليهم ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ويَقبِضُ على السُّبحةِ، ويَعُدُّ اثنَتَينِ اثنَتَينِ، فإن بقِيَت واحِدةٌ فهو افعَلْ، وإن بَقيتِ اثنَتانِ فهو لا تَفعَلْ)
[1365] ((بحار الأنوار)) (91/250). .
فهذه الأنواعُ مِنَ الاستِخارةِ ذاتُ أصلٍ جاهليٍّ وإن أُلبِسَت ثَوبًا إسلاميًّا، وقد ورَدَ في السُّنَّةِ صِفةٌ وحيدةٌ للاستِخارةِ الصَّحيحةِ؛ فعن
جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُنا الاستِخارةَ كما يُعَلِّمُنا السُّورةَ مِنَ القُرآنِ، يقولُ:
((إذا هَمَّ أحَدُكم بالأمرِ فليركَعْ رَكعَتَينِ مِن غَيرِ الفريضةِ، ثُمَّ ليقُلْ: اللهمَّ إنِّي أستخيرُك بعِلمِك، وأستقدِرُك بقُدرَتِك، وأسألُك مِن فضلِك العَظيمِ؛ فإنَّك تَقدِرُ ولا أقدِرُ، وتَعلَمُ ولا أعلمُ وأنت عَلَّامُ الغُيوبِ، اللهمَّ إن كُنتَ تَعلمُ أنَّ هذا الأمرَ خَيرٌ لي في ديني ومَعاشي وعاقِبةِ أمري -أو قال: عاجِلِ أمري وآجِلِه- فاقدُرْه لي ويَسِّرْه لي، ثُمَّ بارِكْ لي فيه، وإنْ كُنتَ تَعلمُ أنَّ هذا الأمرَ شَرٌّ لي في ديني ومَعاشي وعاقِبةِ أمري -أو قال: في عاجِلِ أمري وآجِلِه- فاصرِفْه عنِّي واصرِفْني عنه، واقدُرْ لي الخَيرَ حَيثُ كان، ثُمَّ أرضِني، قال: ويُسَمِّي حاجَتَه)) [1366] أخرجه البخاري (1162). .
وهذه الاستِخارةُ جاءت أيضًا في كُتُبِ الشِّيعةِ
[1367] يُنظر: ((مكارم الأخلاق)) للطبرسي (ص: 372)، ((بحار الأنوار)) للمجلسي (91/265). ، ومَعَ ذلك رَجَّحَ شُيوخُ الشِّيعةِ العَمَلَ برِقاعِ الجاهليَّةِ!
قال الحُرُّ العامِليُّ: (قد رَجَّحَ ابنُ طاووسٍ العَمَلَ باستِخارةِ الرِّقاعِ بوُجوهٍ كثيرةٍ؛ منها: أنَّها لا تَحتَمِلُ التَّقيَّةَ؛ لأنَّه لم ينقُلْه أحَدٌ مِنَ العامَّةِ)
[1368] ((وسائل الشيعة)) (5/211). ويُنظر: ((الإيقاظ من الهجعة)) للحر العاملي (ص: 3، 70). . ويعني بالعامَّةِ أهلَ السُّنَّةِ، وهذا اعتِرافٌ منهم أنَّ استِخارةَ الرِّقاعِ مِمَّا شَذَّت به طائِفتُهم.
ويبدو أنَّ بَعضَ شُيوخِهم قد رابَهم أمرُ هذه الرِّقاعِ وشَعَروا بشُذوذِه، فقال جَعفرُ بنُ الحَسَنِ الحليُّ: (وأمَّا الرِّقاعُ وما يتَضَمَّنُ افعَلْ ولا تَفعَلْ، ففي حَيِّزِ الشُّذوذِ)
[1369] يُنظر: (بحار الأنوار)) للمجلسي (91/287). .
وطَعنَ بَعضُهم في إسنادِها، فقال ابنُ إدريسَ الحليُّ: (إنَّه مِن شَواذِّ الأخبارِ؛ لأنَّ رواتَها فطحيةٌ مَلعونونَ، مثلُ: زُرعةَ وسماعةَ)
[1370] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (91/287). .
ورَدَّ بَعضُهم طَعنَ ابنِ إدريسَ، فقال: (وإنكارُ ابنِ إدريسَ الاستِخارةَ بالرِّقاعِ لا مَأخَذَ له مَعَ اشتِهارِها بَيْنَ الأصحابِ، وعَدَمِ رادٍّ لها سِواه
[1371] ذكر المجلسيُّ أنَّ أصلَ الإنكارِ كان من شيخِهم المفيدِ، وأنَّه حين ذكَر روايةَ الاستخارةِ بالرِّقاعِ قال: (وهذه الرِّوايةُ شاذَّةٌ، أوردناها للرُّخصةِ دونَ تحقيقِ العَمَلِ)، وأنكر بعضُهم وجودَ هذا الكلامِ في نسخةِ كتابِ المفيدِ، وقالوا بأنَّه مما أُلحِقَ في كلامِه وليس منه. يُنظر: ((بحار الأنوار)) (91/287). ومَن أخَذَ مَأخَذَه، كالشَّيخِ نَجمِ الدِّينِ، وكيف تَكونُ شاذَّةً وقد دَوَّنَها المُحَدِّثونَ في كُتُبِهم، والمُصَنِّفونَ في مُصَنَّفاتِهم؟ وقد صَنَّف السَّيِّدُ العالمُ العابدُ صاحِبُ الكراماتِ الظَّاهرةِ والمَآثِرِ الباهرةِ، رَضيُّ الدِّينِ أبو الحَسَنِ عَليُّ بنُ طاوُسٍ الحَسَنيُّ كِتابًا ضَخمًا في الاستِخاراتِ، واعتَمَدَ فيه على رِوايةِ الرِّقاعِ، وذَكرَ مِن آثارِها عَجائِبَ وغَرائِبَ أراه اللهُ تعالى إيَّاها)
[1372] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (91/288). بتصرف يسير. .
وخَصَّصت بَعضُ رِواياتِهم مَوضِعَ هذه الاستِخارةِ بأن تَكونَ عِندَ قَبرِ الحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنه
[1373] يُنظر: ((وسائل الشيعة)) للعاملي (5/220)، ((بحار الأنوار)) للمجلسي (101/285). .
وقد حرَّم اللهُ الاستقسامَ بالأزلامِ، فقال سُبحانَه:
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ [المائدة: 3] ، أي: حَرَّمَ عليكم أيُّها المُؤمِنونَ الاستِقسامَ بالأزلامِ، والاستِقسامُ مَأخوذٌ مِن طَلبِ القَسمِ مِن هذه الأزلامِ. وقَولُه سُبحانَه:
ذَلِكُمْ فِسْقٌ أي: تَعاطيه فِسقٌ وغَيٌّ وضَلالةٌ وجَهالةٌ
[1374] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/12). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (الاستِقسامُ هو إلزامُ أنفُسِهم بما تَأمُرُ به القِداحُ، كقَسَمِ اليمينِ)
[1375] ((إغاثة اللهفان)) (1/227). .
فهذه الرِّقاعُ تَدفعُ المُستَقسِمَ بها للمُضيِّ في أمرِه أو تَمنعُه بلا بَيِّنةٍ ولا بُرهانٍ، كحالِ أهلِ الجاهليَّةِ.