المَطلَبُ الثَّاني: الحُكمُ على الفِرَقِ المُنتسِبةِ للإسلامِ
قال
ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا تعيينُ الفِرَقِ الهالِكةِ فأقدَمُ مَن بلَغَنا أنَّه تكلَّم في تضليلِهم يوسُفُ بنُ أسباطٍ، ثُمَّ
عبدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ، وهُما إمامانِ جليلانِ مِن أجلَّاءِ أئمَّةِ المُسلِمينَ؛ قالا: أصولُ البِدَعِ أربعةٌ: الرَّوافِضُ، و
الخوارِجُ، والقَدَريَّةُ، و
المُرجِئةُ. فقيل ل
ابنِ المُبارَكِ: و
الجَهميَّةُ؟ فأجاب: بأنَّ أولئك ليسوا مِن أمَّةِ مُحمَّدٍ، وكان يقولُ: إنَّا لنحكي كلامَ اليهودِ والنَّصارى، ولا نستطيعُ أن نحكيَ كلامَ
الجَهميَّةِ! وهذا الذي قاله اتَّبعه عليه طائِفةٌ مِن العُلَماءِ مِن أصحابِ
أحمَدَ وغَيرِهم، قالوا: إنَّ
الجَهميَّةَ كُفَّارٌ، فلا يدخُلونَ في الاثنتينِ والسَّبعينَ فِرقةً، كما لا يدخُلُ فيهم المُنافِقونَ الذين يُبطِنونَ الكُفرَ ويُظهِرونَ الإسلامَ، وهُم الزَّنادِقةُ، وقال آخَرونَ مِن أصحابِ
أحمَدَ وغَيرِهم: بل
الجَهميَّةُ داخِلونَ في الاثنتينِ والسَّبعينَ فِرقةً، وجعَلوا أصولَ البِدَعِ خمسةً؛ فعلى قولِ هؤلاء يكونُ كُلُّ طائِفةٍ مِن المُبتدِعةِ الخمسةِ اثنتَيْ عَشْرةَ فِرقةً، وعلى قولِ الأوَّلينَ: يكونُ كُلُّ طائِفةٍ مِن المُبتدِعةِ الأربَعةِ ثمانيَ عَشْرةَ فِرقةً، وهذا يُبنى على أصلٍ آخَرَ، وهو تكفيرُ أهلِ البِدَعِ؛ فمَن أخرَج
الجَهميَّةَ منهم لم يُكفِّرْهم؛ فإنَّه لا يُكفِّرُ سائِرَ أهلِ البِدَعِ، بل يجعَلُهم مِن أهلِ الوعيدِ بمنزِلةِ الفُسَّاقِ والعُصاةِ، ويجعَلُ قولَه:
((هم في النَّارِ)) مِثلَ ما جاء في سائِرِ الذُّنوبِ، مِثلُ أكلِ مالِ اليتيمِ وغَيرِه، كما قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء: 10] ، ومَن أدخَلهم فيهم فهُم على قولَينِ: منهم مَن يُكفِّرُهم كُلَّهم، وهذا إنَّما قاله بعضُ المُستأخِرينَ المُنتسِبينَ إلى الأئمَّةِ أو المُتكلِّمينَ، وأمَّا السَّلفُ والأئمَّةُ فلم يتنازَعوا في عَدمِ تكفيرِ
المُرجِئةِ والشِّيعةِ المُفضِّلةِ، ونَحوِ ذلك، ولم تختلِفْ نُصوصُ
أحمَدَ في أنَّه لا يُكفِّرُ هؤلاء، وإن كان مِن أصحابِه مَن حكى في تكفيرِ جميعِ أهلِ البِدَعِ -مِن هؤلاء وغَيرِهم- خِلافًا عنه أو في مَذهَبِه، حتَّى أطلَق بعضُهم تخليدَ هؤلاء وغَيرِهم، وهذا غَلطٌ على مَذهَبِه وعلى الشَّريعةِ، ومنهم مَن لم يُكفِّرْ أحدًا مِن هؤلاء؛ إلحاقًا لأهلِ البِدَعِ بأهلِ المعاصي، قالوا: فكما أنَّ مِن أصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّهم لا يُكفِّرونَ أحدًا بذَنبٍ، فكذلك لا يُكفِّرونَ أحدًا ب
بِدعةٍ.
والمأثورُ عن السَّلفِ والأئمَّةِ إطلاقُ أقوالٍ بتكفيرِ
الجَهميَّةِ المحضةِ الذين يُنكِرونَ الصِّفاتِ، وحقيقةُ قولِهم أنَّ اللهَ لا يتكلَّمُ ولا يُرى، ولا يُبايِنُ الخَلقَ، ولا له عِلمٌ ولا قُدرةٌ، ولا سَمعٌ ولا بَصرٌ ولا حياةٌ، بل القرآنُ مخلوقٌ، وأهلُ الجنَّةِ لا يرونَه كما لا يراه أهلُ النَّارِ، وأمثالُ هذه المقالاتِ، وأمَّا
الخوارِجُ والرَّوافِضُ ففي تكفيرِهم نِزاعٌ وتردُّدٌ عن
أحمَدَ وغَيرِه، وأمَّا القَدَريَّةُ الذين ينفونَ الكتابةَ والعِلمَ فكفَّروهم ولم يُكفِّروا مَن أثبَت العِلمَ ولم يُثبِتْ خَلقَ الأفعالِ.
وفَصلُ الخطابِ في هذا بذِكرِ أصلَينِ:أحدُهما: أن يُعلَمَ أنَّ الكافِرَ في نَفسِ الأمرِ مِن أهلِ الصَّلاةِ لا يكونُ إلَّا مُنافِقًا؛ فإنَّ اللهَ منذُ بعَث مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنزَل عليه القرآنَ، وهاجَر إلى المدينةِ؛ صار النَّاسُ ثلاثةَ أصنافٍ: مُؤمِنٌ به، وكافِرٌ به مُظهِرٌ الكُفرَ، ومُنافِقٌ مُستخفٍ بالكُفرِ...، وإذا كان كذلك فأهلُ البِدَعِ فيهم المُنافِقُ الزِّنديقُ؛ فهذا كافِرٌ، ويكثُرُ مِثلُ هذا في الرَّافِضةِ و
الجَهميَّةِ؛ فإنَّ رُؤساءَهم كانوا مُنافِقينَ زنادِقةً. وأوَّلُ مَن ابتدَع الرَّفضَ كان مُنافِقًا.
وكذلك التَّجهُّمُ؛ فإنَّ أصلَه زندقةٌ ونِفاقٌ؛ ولهذا كان الزَّنادِقةُ المُنافِقونَ مِن القَرامِطةِ الباطِنيَّةِ المُتفلسِفةِ وأمثالُهم يميلونَ إلى الرَّافِضةِ و
الجَهميَّةِ لقُربِهم منهم. ومِن أهلِ البِدَعِ مَن يكونُ فيه إيمانٌ باطِنًا وظاهِرًا، لكنْ فيه جَهلٌ وظُلمٌ، حتَّى أخطأ ما أخطأ مِن السُّنَّةِ؛ فهذا ليس بكافِرٍ ولا مُنافِقٍ، ثُمَّ قد يكونُ منه عُدوانٌ وظُلمٌ يكونُ به فاسِقًا أو عاصِيًا، وقد يكونُ مُخطِئًا مُتأوِّلًا مغفورًا له خَطؤُه، وقد يكونُ معَ ذلك معَه مِن الإيمانِ والتَّقوى ما يكونُ معَه مِن وِلايةِ اللهِ بقَدرِ إيمانِه وتقواه؛ فهذا أحدُ الأصلَينِ.
والأصلُ الثَّاني: أنَّ المقالةَ تكونُ كُفرًا كجَحدِ وُجوبِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحجِّ، وتحليلِ الزِّنا والخَمرِ والميسِرِ، ونِكاحِ ذَواتِ المحارِمِ، ثُمَّ القائِلُ بها قد يكونُ بحيثُ لم يبلُغْه الخطابُ، وكذا لا يَكفُرُ به جاحِدُه، كمن هو حديثُ عَهدٍ بالإسلامِ، أو نشأ بباديةٍ بعيدةٍ لم تبلُغْه شرائِعُ الإسلامِ، فهذا لا يُحكَمُ بكُفرِه بجَحدِ شيءٍ ممَّا أُنزِل على الرَّسولِ إذا لم يَعلَمْ أنَّه أُنزِل على الرَّسولِ)
[38] ((مجموع الفتاوى)) (3/350-354). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (... وكذا الرَّدُّ على أهلِ البِدَعِ مِن الرَّافِضةِ وغَيرِهم إن لم يُقصَدْ فيه بيانُ الحقِّ وهُدى الخَلقِ ورحمتُهم والإحسانُ إليهم؛ لم يكنْ عَملُه صالِحًا، وإذا غُلِّظ في ذمِّ
بِدعةٍ ومعصيةٍ كان قَصدُه بيانَ ما فيها مِن الفسادِ ليَحذَرَها العِبادُ، كما في نُصوصِ الوعيدِ وغَيرِها، وقد يُهجَرُ الرَّجلُ عُقوبةً وتعزيرًا، والمقصودُ بذلك رَدعُه ورَدعُ أمثالِه؛ للرَّحمةِ والإحسانِ، لا للتَّشفِّي والانتِقامِ.
كما هجَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه الثَّلاثةَ الذين خُلِّفوا لمَّا جاء المُتخلِّفونَ عن الغَزاةِ يعتذِرونَ ويحلِفونَ، وكانوا يكذِبونَ، وهؤلاء الثَّلاثةُ صدَقوا وعوقِبوا بالهَجرِ، ثُمَّ تاب اللهُ عليهم ببركةِ الصِّدقِ.
وهذا مبنيٌّ على مسألتَينِ:إحداهما: أنَّ الذَّنبَ لا يوجِبُ كُفرَ صاحِبِه كما تقولُه
الخوارِجُ، بل ولا تخليدَه في النَّارِ، ومَنْعَ الشَّفاعةِ فيه، كما يقولُه
المُعتزِلةُ.
الثَّاني: أنَّ المُتأوِّلَ الذي قَصدُه مُتابَعةُ الرَّسولِ لا يُكفَّرُ بل ولا يُفسَّقُ إذا اجتهَد فأخطَأ. وهذا مشهورٌ عندَ النَّاسِ في المسائِلِ العَمليَّةِ، وأمَّا مسائِلُ العقائِدِ فكثيرٌ مِن النَّاسِ كفَّر المُخطِئينَ فيها.
وهذا القولُ لا يُعرَفُ عن أحدٍ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ، ولا عن أحدٍ مِن أئمَّةِ المُسلِمينَ، وإنَّما هو في الأصلِ مِن أقوالِ أهلِ البِدَعِ الذين يبتدِعونَ
بِدعةً ويُكفِّرونَ مَن خالَفهم، ك
الخوارِجِ و
المُعتزِلةِ و
الجَهميَّةِ، ووقَع ذلك في كثيرٍ مِن أتباعِ الأئمَّةِ، كبعضِ أصحابِ
مالِكٍ و
الشَّافِعيِّ و
أحمَدَ وغَيرِهم.
وقد يسلُكونَ في التَّكفيرِ ذلك؛ فمنهم مَن يُكفِّرُ أهلَ البِدَعِ مُطلقًا، ثُمَّ يجعَلُ كُلَّ مَن خرَج عمَّا هو عليه مِن أهلِ البِدَعِ، وهذا بعَينِه قولُ
الخوارِجِ و
المُعتزِلةِ الجَهميَّةِ، وهذا القولُ أيضًا يوجَدُ في طائِفةٍ مِن أصحابِ الأئمَّةِ الأربعةِ، وليس هو قولَ الأئمَّةِ الأربَعةِ ولا غَيرِهم، وليس فيهم مَن كفَّر كُلَّ مُبتدِعٍ، بل المنقولاتُ الصَّريحةُ عنهم تُناقِضُ ذلك، ولكن قد يُنقَلُ عن أحدِهم أنَّه كفَّر مَن قال بعضَ الأقوالِ، ويكونُ مقصودُه أنَّ هذا القولَ كُفرٌ ليُحذَرَ، ولا يلزَمُ إذا كان القولُ كُفرًا أن يُكفَّرَ كُلُّ مَن قاله معَ الجهلِ والتَّأويلِ؛ فإنَّ ثُبوتَ الكُفرِ في حقِّ الشَّخصِ المُعيَّنِ كثُبوتِ الوعيدِ في الآخِرةِ في حقِّه، وذلك له شُروطٌ وموانِعُ، كما بسَطْناه في موضِعِه.
وإذا لم يكونوا في نَفسِ الأمرِ كُفَّارًا لم يكونوا مُنافِقينَ، فيكونونَ مِن المُؤمِنينَ، فيُستغفَرُ لهم ويُترحَّمُ عليهم، وإذا قال المُؤمِنُ:
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر: 10] ؛ يقصِدُ كُلَّ مَن سبَقه مِن قُرونِ الأمَّةِ بالإيمانِ، وإن كان قد أخطَأ في تأويلٍ تأوَّله فخالَف السُّنَّةَ، أو أذنَب ذَنبًا؛ فإنَّه مِن إخوانِه الذين سبَقوه بالإيمانِ، فيدخُلُ في العُمومِ، وإن كان مِن الثِّنتينِ والسَّبعينَ فِرقةً؛ فإنَّه ما مِن فِرقةٍ إلَّا وفيها خَلقٌ كثيرٌ ليسوا كُفَّارًا، بل مُؤمِنينَ فيهم ضَلالٌ وذنبٌ يستحِقُّونَ به الوعيدَ، كما يستحِقُّه عُصاةُ المُؤمِنينَ.
والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُخرِجْهم مِن الإسلامِ، بل جعَلهم مِن أمَّتِه، ولم يقُلْ: إنَّهم يُخَلَّدونَ في النَّارِ؛ فهذا أصلٌ عظيمٌ ينبغي مُراعاتُه؛ فإنَّ كثيرًا مِن المُنتسِبينَ إلى السُّنَّةِ فيهم
بِدعةٌ مِن جنسِ بِدَعِ الرَّافِضةِ و
الخوارِجِ. وأصحابُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليُّ بنُ أبي طالِبٍ وغَيرُه لم يُكفِّروا
الخوارِجَ الذين قاتَلوهم، بل أوَّلَ ما خرَجوا عليه وتحيَّزوا بحَروراءَ، وخرَجوا عن الطَّاعةِ والجماعةِ؛ قال لهم عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رضِي اللهُ عنه: إنَّ لكم علينا ألَّا نمنَعَكم مساجِدَنا ولا حقَّكم مِن الفَيءِ، ثُمَّ أرسَل إليهم
ابنَ عبَّاسٍ فناظَرهم، فرجَع نَحوُ نِصفِهم، ثُمَّ قاتَل الباقي وغلَبهم، ومعَ هذا لم يَسْبِ لهم ذُرِّيَّةً، ولا غَنِم لهم مالًا، ولا سار فيهم سيرةَ الصَّحابةِ في المُرتدِّينَ، كمُسَيلِمةَ الكذَّابِ وأمثالِه، بل كانت سيرةُ عليٍّ والصَّحابةِ في
الخوارِجِ مُخالِفةً لسيرةِ الصَّحابةِ في أهلِ
الرِّدَّةِ، ولم يُنكِرْ أحدٌ على عليٍّ ذلك، فعُلِم اتِّفاقُ الصَّحابةِ على أنَّهم لم يكونوا مُرتَدِّينَ عن دينِ الإسلامِ... الصَّحابةُ رضِي اللهُ عنهم والتَّابِعونَ لهم بإحسانٍ لم يُكفِّروهم، ولا جعَلوهم مُرتَدِّينَ، ولا اعتدَوا عليهم بقولٍ ولا فِعلٍ، بل اتَّقَوا اللهَ فيهم، وساروا فيهم السِّيرةَ العادِلةَ، وهكذا سائِرُ فِرَقِ أهلِ البِدَعِ والأهواءِ مِن الشِّيعةِ و
المُعتزِلةِ وغَيرِهم، فمَن كفَّر الثِّنتينِ والسَّبعينَ فِرقةً كُلَّهم فقد خالَف الكتابَ والسُّنَّةَ وإجماعَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ، معَ أنَّ حديثَ الثِّنتينِ والسَّبعينَ فِرقةً ليس في الصَّحيحَينِ، وقد ضعَّفه
ابنُ حَزمٍ وغَيرُه، لكن حسَّنه غَيرُه أو صحَّحه، كما صحَّحه
الحاكِمُ وغَيرُه، وقد رواه أهلُ السُّنَنِ، ورُوِي مِن طُرقٍ، وليس قولُه:
((ثِنتانِ وسبعونَ في النَّارِ وواحِدةٌ في الجنَّةِ)) بأعظَمَ مِن قولِه تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمُا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النِّساء: 10] ، وقولِه:
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء: 30] ، وأمثالِ ذلك مِن النُّصوصِ الصَّريحةِ بدُخولِ مَن فعَل ذلك النَّارَ.
ومعَ هذا فلا نشهَدُ لمُعيَّنٍ بالنَّارِ؛ لإمكانِ أنَّه تاب، أو كانت له حَسَناتٌ محَت سيِّئاتِه، أو كفَّر اللهُ عنه بمصائِبَ أو غَيرِ ذلك كما تقدَّم، بل المُؤمِنُ باللهِ ورسولِه باطِنًا وظاهِرًا، الذي قصَد اتِّباعَ الحقِّ وما جاء به الرَّسولُ، إذا أخطَأ ولم يعرِفِ الحقَّ؛ كان أَولى أن يعذِرَه اللهُ في الآخِرةِ مِن المُتعمِّدِ العالِمِ بالذَّنبِ؛ فإنَّ هذا عاصٍ مُستحِقٌّ للعذابِ بلا ريبٍ، وأمَّا ذلك فليس مُتعمِّدًا للذَّنبِ، بل هو مُخطِئٌ، واللهُ قد تجاوَز لهذه الأمَّةِ عن الخطأِ والنِّسيانِ.
والعُقوبةُ في الدُّنيا تكونُ لدَفعِ ضَررِه عن المُسلِمينَ، وإن كان في الآخِرةِ خيرًا ممَّن لم يُعاقَبْ، كما يُعاقَبُ المُسلِمُ المُتعدِّي للحُدودِ، ولا يُعاقَبُ أهلُ الذِّمَّةِ مِن اليهودِ والنَّصارى، والمُسلِمُ في الآخِرةِ خَيرٌ منهم)
[39] ((منهاج السُّنَّة النبوية)) (5/239-250). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (إنَّ الرَّجلَ يكونُ مُؤمِنًا باطِنًا وظاهِرًا، لكنْ تأوَّلَ تأويلًا أخطَأ فيه، إمَّا مُجتهِدًا وإمَّا مُفَرِّطًا مُذنِبًا، فلا يُقالُ: إنَّ إيمانَه حبِط بمُجرَّدِ ذلك، إلَّا أن يدُلَّ على ذلك دليلٌ شرعيٌّ، بل هذا مِن جنسِ قولِ
الخوارِجِ و
المُعتزِلةِ، ولا نقولُ: لا يَكفُرُ، بل العَدلُ هو الوَسَطُ، وهو: أنَّ الأقوالَ الباطِلةَ المُبتدَعةَ المُحرَّمةَ المُتضمِّنةَ نَفيَ ما أثبَته الرَّسولُ، أو إثباتَ ما نفاه، أو الأمرَ بما نهى عنه، أو النَّهيَ عمَّا أمَر به: يُقالُ فيها الحقُّ، ويثبُتُ لها الوعيدُ الذي دلَّت عليه النُّصوصُ، ويُبيَّنُ أنَّها كُفرٌ، ويُقالُ: مَن قالها فهو كافِرٌ، ونَحوُ ذلك، كما يُذكَرُ مِن الوعيدِ في الظُّلمِ في النُّفوسِ والأموالِ، وكما قد قال كثيرٌ مِن أهلِ السُّنَّةِ المشاهيرِ بتكفيرِ مَن قال بخَلقِ القرآنِ، وأنَّ اللهَ لا يُرى في الآخِرةِ، ولا يَعلَمُ الأشياءَ قَبلَ وُقوعِها. وعن
أبي يوسُفَ رحِمه اللهُ أنَّه قال: ناظَرْتُ
أبا حَنيفةَ رحِمه اللهُ مُدَّةً، حتَّى اتَّفَق رأيي ورأيُه: أنَّ مَن قال بخَلقِ القرآنِ، فهو كافِرٌ.
وأمَّا الشَّخصُ المُعيَّنُ إذا قيل: هل تشهَدونَ أنَّه مِن أهلِ الوعيدِ وأنَّه كافِرٌ؟ فهذا لا نشهَدُ عليه إلَّا بأمرٍ تجوزُ معَه الشَّهادةُ؛ فإنَّه مِن أعظَمِ البَغيِ أن يُشهَدَ على مُعيَّنٍ أنَّ اللهَ لا يغفِرُ له، ولا يرحَمُه، بل يُخلِّدُه في النَّارِ؛ فإنَّ هذا حُكمُ الكافِرِ بَعدَ الموتِ؛ ولهذا ذكَر
أبو داودَ في سُننِه في كتابِ الأدَبِ: «بابُ النَّهيِ عن البَغيِ»، وذكَر فيه عن أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه، قال: سمعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((كان رجُلانِ في بَني إسرائيلَ مُتواخِيَينِ، فكان أحدُهما يُذنِبُ، والآخَرُ مُجتهِدًا في العِبادةِ، فكان لا يزالُ المُجتهِدُ يرى الآخَرَ على الذَّنبِ، فيقولُ: أقصِرْ، فوجَده يومًا على ذَنبٍ، فقال له: أقصِرْ، فقال: خَلِّني وربِّي، أبُعِثْتَ عليَّ رقيبًا؟ فقال: واللهِ لا يغفِرُ اللهُ لك، أو لا يُدخِلُك الجنَّةَ، فقبَض أرواحَهما، فاجتمَعا عندَ ربِّ العالَمينَ، فقال لهذا المُجتهِدِ: أكنْتَ بي عالِمًا؟ أو كنْتَ على ما في يدَيَّ قادِرًا؟ وقال للمُذنِبِ: اذهَبْ فادخُلِ الجنَّةَ برحمتي، وقال للآخَرِ: اذهَبوا به إلى النَّارِ )). قال أبو هُرَيرةَ: والذي نَفسي بيدِه، لَتكلَّمَ بكلمةٍ أوبقَت دُنياه وآخِرتَه
[40] أخرجه أبو داود (4901) واللَّفظُ له، وأحمد (8749). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (5712)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4901)، وحَسَّنه الوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (1318)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (16/127). ، وهو حديثٌ حَسنٌ.
ولأنَّ الشَّخصَ المُعيَّنَ يُمكِنُ أن يكونَ مُجتهِدًا مُخطِئًا مغفورًا له، أو يُمكِنُ أن يكونَ ممَّن لم يبلُغْه ما وراءَ ذلك مِن النُّصوصِ، ويُمكِنُ أن يكونَ له إيمانٌ عظيمٌ وحَسناتٌ أوجَبَت له رحمةَ اللهِ، كما غفَر للذي قال: إذا مِتُّ فاسحَقوني ثُمَّ ذَرُّوني، ثُمَّ غفَر اللهُ له لخَشيتِه، وكان يظُنُّ أنَّ اللهَ لا يقدِرُ على جَمعِه وإعادتِه، أو شكَّ في ذلك
[41] لفظُه: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (كانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ علَى نَفْسه، فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قالَ لِبَنِيه: إذا أنا مُتُّ فأحْرِقُونِي، ثُمَّ اطْحَنُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي في الرِّيحِ، فَواللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذابًا ما عَذَّبَهُ أحَدًا، فَلَمَّا ماتَ فُعِلَ به ذلكَ، فأمَرَ اللهُ الأرْضَ فقالَ: اجْمَعِي ما فِيكِ منه، فَفَعَلَتْ، فإذا هو قائِمٌ، فقالَ: ما حَمَلَكَ علَى ما صَنَعْتَ؟ قال: يا رَبِّ، خَشْيَتُكَ، فَغَفَرَ له. وقال غيرُه: مخافتُك يا رَبِّ). أخرجه البخاري (3482) واللَّفظُ له، ومسلم (2756). ، لكنَّ هذا التَّوقُّفَ في أمرِ الآخِرةِ لا يمنَعُنا أن نُعاقِبَه في الدُّنيا لمَنعِ بِدعتِه، وأن نستتيبَه، فإن تاب وإلَّا قتَلْناه.
ثُمَّ إذا كان القولُ في نَفسِه كُفرًا قيل: إنَّه كُفْرٌ، والقائِلُ له يُكفَّرُ بشُروطٍ وانتِفاءِ موانِعَ، ولا يكونُ ذلك إلَّا إذا صار مُنافِقًا زِنديقًا، فلا يُتصوَّرُ أن يُكفَّرَ أحدٌ مِن أهلِ القِبلةِ المُظهِرينَ الإسلامَ إلَّا مَن يكونُ مُنافِقًا زِنديقًا، وكتابُ اللهِ يُبيِّنُ ذلك؛ فإنَّ اللهَ صنَّف الخَلقَ فيه ثلاثةَ أصنافٍ: صِنفٌ كُفَّارٌ مِن المُشرِكينَ ومِن أهلِ الكتابِ، وهُم الذين لا يُقِرُّونَ بالشَّهادتَينِ. وصِنفٌ مُؤمِنونَ باطِنًا وظاهِرًا، وصِنفٌ أقَرُّوا به ظاهِرًا لا باطِنًا. وهذه الأقسامُ الثَّلاثةُ مذكورةٌ في أوَّلِ سورةِ البقَرةِ، وكُلُّ مَن ثبَت أنَّه كافِرٌ في نَفسِ الأمرِ، وكان مُقِرًّا بالشَّهادتَينِ؛ فإنَّه لا يكونُ إلَّا زِنديقًا، والزِّنديقُ هو المُنافِقُ.
وهنا يظهَرُ غَلطُ الطَّرفَينِ؛ فإنَّه مَن كفَّر كُلَّ مَن قال القولَ المُبتدَعَ في الباطِنِ يلزَمُه أن يُكفِّرَ أقوامًا ليسوا في الباطِنِ مُنافِقينَ، بل هم في الباطِنِ يُحبُّونَ اللهَ ورسولَه، ويُؤمِنونَ باللهِ ورسولِه، وإن كانوا مُذنِبينَ، كما ثبَت في صحيحِ
البُخاريِّ عن أسلَمَ مولى عُمرَ رضِي اللهُ عنه، عن عُمرَ: أنَّ رجُلًا كان على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان اسمُه: عبدَ اللهِ، وكان يُلقَّبُ: حمارًا، وكان يُضحِكُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد جلَده مِن الشَّرابِ، فأُتي به يومًا، فأمَر به فجُلِد، فقال رجُلٌ مِن القومِ: اللَّهمَّ العَنْه، ما أكثَرَ ما يُؤتى به! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تلعَنْه؛ فإنَّه يُحِبُّ اللهَ ورسولَه )) [42] أخرَجه البخاري (6780) ولفظُه: عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ (أنَّ رجُلًا كان على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان اسمُه: عبدَ اللهِ، وكان يُلقَّبُ: حمارًا، وكان يُضحِكُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد جلَده مِن الشَّرابِ، فأُتي به يومًا، فأمَر به فجُلِد، فقال رجُلٌ مِن القومِ: اللَّهمَّ العَنْه، ما أكثَرَ ما يُؤتى به! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تلعَنوه؛ فواللهِ -ما عَلِمتُ- إنَّه يحِبُّ اللهَ ورسولَه). ، وهذا أمرٌ مُتيقَّنٌ به في طوائِفَ كثيرةٍ وأئمَّةٍ في العِلمِ والدِّينِ، وفيهم بعضُ مقالاتِ
الجَهميَّةِ أو
المُرجِئةِ أو القَدَريَّةِ أو الشِّيعةِ أو
الخوارِجِ، ولكنَّ الأئمَّةَ في العِلمِ والدِّينِ لا يكونونَ قائِمينَ بجُملةِ تلك
البِدعةِ، بل بفَرعٍ منها؛ ولهذا انتحَل أهلُ هذه الأهواءِ لطوائِفَ مِن السَّلفِ المشاهيرِ.
فمِن عُيوبِ أهلِ البِدَعِ تكفيرُ بعضِهم بعضًا، ومِن ممادِحِ أهلِ العِلمِ أنَّهم يُخطِّئونَ ولا يُكفِّرونَ)
[43] ((شرح الطحاوية)) (2/435-439). .
وقد استُشكِل الحديثُ الوارِدُ في افتِراقِ الأمَّةِ بأنَّه يلزَمُ منه أيضًا أن يكونَ أكثَرُ المُسلِمينَ في النَّارِ، وأجاب العُلَماءُ على هذا الإشكالِ، ومنهم صالِحٌ المَقْبَليُّ، فقال ما حاصِلُه أنَّ عامَّةَ المُسلِمينَ أكثَرُهم على رأيِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، ولا يعرِفونَ الآراءَ المُبتدَعةَ. أمَّا الخاصَّةُ فمنهم مُبتدِعٌ يدعو إلى
البِدعةِ، وله أتباعٌ ينصُرونَ رأيَه ويتوسَّعونَ فيه. وهناك فِئةٌ مِن النَّاسِ يُوافِقونَهم على
البِدعةِ في الظَّاهِرِ، وإن كانوا في داخِلِ أنفُسِهم يُؤمِنونَ بالحقِّ. وتوجَدُ طائِفةٌ أخرى ليسوا مِن العُلَماءِ المُحقِّقينَ، ولكنَّهم عرَفوا أشياءَ مِن
البِدعةِ، وحفِظوا كثيرًا مِن غُثاءِ المذاهِبِ والآراءِ، وهُم يخلِطونَ الحقَّ بالباطِلِ؛ فهؤلاء ليسوا مِثلَ الخاصَّةِ مِن العُلَماءِ، ولم يُدرِكوا سلامةَ العامَّةِ، وقال المَقبَليُّ بأنَّ القِسمَ الأوَّلَ مِن الخاصَّةِ مُبتدِعةٌ قَطعًا، والثَّاني: ظاهِرُه الابتِداعُ، والثَّالثُ: له حُكمُ الابتِداعِ، ثُمَّ ذكَر أنَّ مِن الخاصَّةِ قِسمًا رابِعًا هم المُتابِعونَ للكتابِ والسُّنَّةِ، والواقِفونَ عندَ حُدودِهما؛ فهؤلاء هم السُّنيَّةَ حقًّا وهُم الفِرقةُ النَّاجيةُ، وإليهم العامَّةُ بأسرِهم، ومَن شاء ربُّك مِن أقسامِ الخاصَّةِ الثَّلاثةِ المذكورينَ بحسَبِ عِلمِه بقَدرِ بِدعتِهم ونيَّاتِهم، وبناءً على هذا لا يلزَمُ الهلاكُ على مُعظَمِ الأمَّةِ؛ لأنَّ الأكثَرَ عددًا هم العامَّةُ قديمًا وحديثًا، وكذا الخاصَّةُ في الأعصارِ المُتقدِّمةِ، وقال: لعلَّ القِسمَينِ الأوسَطَينِ، وكذا مَن خفَّت بِدعتُه مِن الأوَّلِ تُنقِذُهم رحمةُ ربِّك مِن النِّظامِ في سِلكِ الابتِداعِ بحسَبِ المُجازاةِ الأُخرَويَّةِ. واللهُ تعالى أعلَمُ
[44] يُنظر: ((العلم الشامخ)) (ص: 512-517) بتصَرُّفٍ. .