المطلَبُ السَّادِسُ: خياناتُ الشِّيعةِ لدَولةِ السَّلاجِقةِ السُّنِّيَّةِ
لمَّا زالت دَولةُ بني بُوَيهِ الشِّيعيَّةُ وبادَت، جاءَ بَعدَهمُ الأتراكُ السَّلاجِقةُ فقاموا بنَصرِ السُّنَّةِ، وإخمادِ الرَّفضِ وأهلِه، ولم تَسلَمْ هذه الدَّولةُ السُّنِّيَّةُ من خياناتِ الشِّيعةِ وغَدرِهم.
ففي سَنةِ 450هـ كانت فِتنةُ البساسيريِّ
[2404] قال ابنُ خَلِّكان: (أرسَلانُ بنُ عَبدِ اللهِ البساسيريُّ التُّركيُّ، مُقدَّمُ الأتراكِ ببَغدادَ، يُقالُ: إنَّه كان مَملوكَ بَهاءِ الدَّولةِ بنِ عَضُدِ الدَّولةِ بنِ بُوَيهِ، وهو الذي خَرَجَ على الإمامِ القائِمِ بأمرِ اللهِ ببَغدادَ، وكان قد قدَّمَه على جَميعِ الأتراكِ، وقَلَّدَه الأُمورَ بأسرِها، وخَطَبَ له على مَنابرِ العِراقِ وخوزستانَ، فعَظُمَ أمرُه، وهابَته المُلوكُ، ثُمَّ خَرَجَ على الإمامِ القائِمِ، وأخرَجَه من بَغدادَ، وخَطَبَ للمُستَنصِرِ العُبَيديِّ صاحِبِ مِصرَ، فراحَ الإمامُ القائِمُ إلى أميرِ العَرَبِ مهارِشَ العقيليِّ صاحِبِ الحَديثةِ وعانةَ، فآواه، وقامَ بجَميعِ ما يحتاجُ إليه مُدَّةَ سَنةٍ كامِلةٍ، حتَّى جاءَ طُغْرُلْبَك السُّلجوقيُّ وقاتَل البساسيريَّ وقَتَله، وعادَ القائِمُ إلى بَغدادَ، قَتل البساسيريُّ ببَغدادَ سَنةَ إحدى وخَمسينَ وأربَعمِائةٍ، وطِيفَ برَأسِه في بَغدادَ وصُلِب). يُنظر: ((وفيات الأعيان)) (1/ 192) باختصار وتصرف. الذي خانَ الخَليفةَ العَبَّاسيَّ القائِمَ بأمرِ اللهِ، وخَرَجَ عليه وكان من أكابرِ دَولتِه، ودَعا النَّاسَ إلى بَيعةِ المُستَنصِرِ باللهِ الفاطِميِّ صاحِبِ مِصرَ، ففرِحَ بالبساسيريِّ أهلُ الكَرخِ الرَّافِضةُ وأعانوه، ونَهَبَ أهلُ الكَرخِ الرَّوافِضُ دُورَ أهلِ السُّنَّةِ، وتَملَّكَ البساسيريُّ أكثَرَ السِّجِلاتِ والكُتُبِ الحكميَّةِ، بَعدَ ما نَهَبَ دارَ قاضي القُضاةِ الدَّامغانيِّ، وأعادَتِ الرَّوافِضُ الأذانَ بحَيَّ على خَيرِ العَمَلِ في نواحي بَغدادَ، وخَطَبَ ببَغدادَ للمُستَنصِرِ باللهِ العُبَيديِّ، وضُرِبَت له السِّكَّةُ، وحوصِرَت دارُ الخِلافةِ ثُمَّ نُهبَت، والرَّوافِضُ في غايةِ السُّرورِ، وانتَقَمَ البساسيريُّ من أعيانِ أهلِ السُّنَّةِ ببَغدادَ، ومنهمُ الوزيرُ ابنُ المسلمةِ المُلقَّبُ برَئيسِ الرُّؤَساءِ
[2405] ))البداية والنهاية(( (15/730-731). .
وحينَ كانت بلادُ الشَّامِ مَسرَحًا للمُنازَعاتِ بَينَ السَّلاجِقةِ الذين هم من أهلِ السُّنَّةِ والفاطِميِّينَ الشِّيعةِ أدَّى ذلك إلى تَفكُّكِ المُسلمينَ، وتَمهيدِ الطَّريقِ أمامَ الصَّليبيِّينَ لغَزوِ بلادِ الشَّامِ في يُسرٍ وسُهولةٍ، فوصَلوا إلى أطرافِها سَنةَ 490هـ.
وكان قد أرسَل بَدرٌ الجَماليُّ وزيرُ المُستَعلي الفاطِميِّ الشِّيعيِّ سَنةَ 490هـ سِفارةً مِن قِبَلِه إلى قادةِ الحَملةِ الصَّليبيَّةِ الأولى تَحمِلُ عَرضًا لهم خُلاصَتُه أن يتَعاونَ الطَّرَفانِ للقَضاءِ على السَّلاجِقةِ في بلادِ الشَّامِ، وأن تُقَسَّمَ البلادُ بَينَهما بحَيثُ يكونُ القِسمُ الشَّماليُّ مِنَ الشَّامِ للصَّليبيِّينَ في حينِ يحتَفِظُ الفاطِميُّونَ بفِلسطينَ، ولمَّا كان هَدَفُ الصَّليبيِّينَ هو السَّيطَرةَ على بَيتِ المَقدِسِ فقد كان رَدُّهم غامِضًا، واكتَفوا ببَثِّ شُعورِ الطُّمَأنينةِ في نُفوسِ الفاطِميِّينَ.
ولمَّا قامَ الأميرُ كربوقُ صاحِبُ الموصِلِ مِن قِبَلِ السَّلاجِقةِ بتَجهيزِ قوَّةٍ لمَنعِ سُقوطِ أنطاكيَةَ بيدِ الصَّليبيِّينَ، وقَف الفاطِميُّونَ مَوقِفَ المُتَفرِّجِ، ولم يكتَفوا بذلك بل استَغَلُّوا هذه الفُرصةَ فسيَّروا جَيشًا إلى بَيتِ المَقدِسِ الذي كان بيدِ السَّلاجِقةِ وحاصَروه، ونَصَبوا عليه أكثَرَ من أربَعينَ مَنجَنيقًا حتَّى تَهَدَّمَت أسوارُه وسَيطَروا عليه
[2406] يُنظر: ))نور الدين محمود زنكي القائد المجاهد(( لكرزون (9-11). .
واستَغَلَّ زُعَماءُ الشِّيعةِ الإسماعيليَّةِ الخِلافَ بَينَ بَعضِ السَّلاطينِ السَّلاجِقةِ في نَحوِ سَنةِ 488هـ، وتَقرَّبوا من رِضوانِ بنِ تاجِ الدَّولةِ تتشَ الذي كان على بلادِ الشَّامِ، وحَصَلوا عِندَه على مَكانةٍ مَرموقةٍ، ولم يعبَأْ باستيلاءِ الصَّليبيِّينَ على بَعضِ بلادِ الإسلامِ في آسيا الصُّغرى، فقد استَولَوا على أنطاكيةَ سَنةَ 491هـ، ثُمَّ سَيطَروا على المَعَرَّةِ سَنةَ 492هـ، ثُمَّ واصَلوا سَيرَهم إلى جَبلِ لُبنانَ، فقَتَلوا مَن به مِنَ المُسلمينَ، ثُمَّ نَزَلوا إلى حِمصٍ فهادَنَهم صاحِبُها على مالٍ يدفَعُه
[2407] يُنظر: ((الجهاد ضد الصليبيين)) للغامدي (ص: 51). .
وفي نَفسِ السَّنةِ سَعى رِضوانُ الذي تَشيَّع لآراءِ الإسماعيليَّةِ إلى التَّصَدِّي لزَعيمِ سَلاجِقةِ الرُّومِ قَلج أرَسلانَ وهَزَمَه وهو يُحاوِلُ قِتالَ الصَّليبيِّينَ حَولَ الرُّها، ولم يكتَفِ بهذا بل انضَمَّ إلى الصَّليبيِّينَ ضِدَّ الأميرِ جاولي صاحِبِ حَلَبٍ سَنةَ 501هـ.
ولم يُقدِّرِ الصَّليبيُّونَ هذا المَوقِفَ من رِضوانَ بل حاصَروا حَلبَ سَنةَ 504هـ وضَيَّقوا على أهلِها حتَّى أكَلوا الميتاتِ وورَقَ الشَّجَرِ، وفرَضوا على رَضوانَ مَبلَغًا كبيرًا يحمِلُه إليهم
[2408] يُنظر: ((الجهاد ضد الصليبيين)) للغامدي (ص: 45). .
وكان إذا تَحَقَّقَ لسَلاطينِ المُسلمينَ من أهلِ السُّنَّةِ نَصرٌ على الفِرِنجةِ يَحزَنُ الشِّيعةُ لأنَّهم يرَونَ فيه قوَّةً لجَنابِ السُّنَّةِ؛ قال
ابنُ كثيرٍ: (وفي سَنةِ 505هـ بَعَثَ السُّلطانُ غياثُ الدِّينِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مَلِكْشاه السُّلجوقيُّ جَيشًا كثيفًا صَحِبَه الأميرُ مَودودُ بنُ زِنكي صاحِبُ الموصِلِ في جُملةِ أُمَراءَ ونوَّابٍ، منهم صاحِبُ تَبريزَ، وصاحِبُ مَراغةَ، وصاحِبُ مارِدِينَ، وعلى الجَميعِ مَودودٌ صاحِبُ الموصِلِ لقِتالِ الفِرِنجةِ بالشَّامِ؛ فانتَزَعوا مِنَ الفِرِنجةِ حُصونًا كثيرةً، وقَتَلوا منهم خَلْقًا كثيرًا، وللهِ الحَمدُ، ولمَّا دَخَلوا دِمَشقَ دَخل الأميرُ مَودودٌ إلى جامِعِها ليُصَلِّيَ فيه، فجاءَه باطِنيٌّ في زيِّ سائِلٍ فطَلب منه شَيئًا فأعطاه، فلمَّا اقتَرَبَ منه ضَرَبَه في فُؤادِه فماتَ في ساعَتِه، ووُجِدَ رَجُلٌ أعمى في سَطحِ الجامِعِ ببَغدادَ مَعَه سِكِّينٌ مَسمومٌ، فقيل: إنَّه كان يُريدُ قَتلَ الخَليفةِ)
[2409] ((البداية والنهاية)) (16/212). .
وقال
ابنُ كثيرٍ في أحداثِ سَنةِ 624هـ: (فيها قَتَلتِ الإسماعيليَّةُ أميرًا كبيرًا من نوَّابِ جَلالِ الدِّينِ بنِ خَوارِزم شاه، فسارَ إلى بلادِهم فقَتَل منهم خَلْقًا كثيرًا، وخَرَّبَ مَدينَتَهم، وسَبى ذَراريَّهم، ونَهَبَ أموالَهم، وقد كانوا -قَبَّحَهم اللهُ- من أكبَرِ العَونِ على المُسلمينَ لمَّا قدِمَ التَّتارُ إلى النَّاسِ، وكانوا أضَرَّ على النَّاسِ منهم)
[2410] ((البداية والنهاية)) (17/158). .