المطلَبُ السَّابعُ: تَعاوُنُ الشِّيعةِ مَعَ التَّتارِ
قال
ابنُ كثيرٍ في أحداثِ سَنةِ 642ه: (فيها استَوزَرَ الخَليفةُ المُستَعصِمُ باللهِ مُؤَيدُ الدِّينِ أبا طالبٍ مُحَمَّدَ بنَ عَليِّ بنِ مُحَمَّدٍ العَلقمِيَّ المَشئومَ على نَفسِه وعلى أهلِ بَغدادَ، الذي لم يُعصَمِ المُستَعصِمُ في وَزارَتِه، فإنَّه لم يكُنْ وَزيرَ صِدقٍ، ولا مَرضيَّ الطَّريقةِ؛ فإنَّه هو الذي أعانَ على المُسلمينَ في قَضيَّةِ هولاكو وجُنودِه قَبَّحَه اللهُ وإيَّاهم)
[2411] ((البداية والنهاية)) (17/273). .
وقال
ابنُ كثيرٍ أيضًا في أحداثِ 656هـ: (استَهَلَّت هذه السَّنةُ وجُنودُ التَّتارِ قد نازَلت بَغدادَ صُحبةَ الأميرَينِ اللَّذَينِ على مُقدِّمةِ عَساكِرِ سُلطانِ التَّتارِ هولاكو خانَ، وجاءَت إليهم أمدادُ صاحِبِ الموصِلِ يُساعِدونَهم على البَغادِدةِ، وميرَتُه وهَداياه وتُحَفُه، وكُلُّ ذلك خَوفًا على نَفسِه مِنَ التَّتارِ، ومُصانَعةً لهم قَبَّحَهمُ اللهُ تعالى، وأحاطَتِ التَّتارُ بدارِ الخِلافةِ يرشُقونَها بالنِّبالِ من كُلِّ جانِبٍ، وكان قُدومُ هولاكو خانَ بجُنودِه كُلِّها، وكانوا نَحوَ مِائَتَي ألفِ مُقاتِلٍ، وهو شَديدُ الحَنَقِ على الخَليفةِ بسَبَبِ أنَّ هولاكو خانَ لمَّا كان أوَّلَ بُروزِه من هَمدانَ مُتَوجِّهًا إلى العِراقِ أشارَ الوزيرُ مُؤَيَّدُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بنُ العَلقَميِّ على الخَليفةِ بأن يبعَثَ إليه بهَدايا سَنيَّةٍ ليكونَ ذلك مُداراةً له عَمَّا يُريدُه من قَصدِ بلادِهم، فخَذَل الخَليفةَ عن ذلك دويدارُه الصَّغيرُ أيبَك وغَيرُه، وقالوا: إنَّ الوزيرَ إنَّما يُريدُ بهذا مُصانَعةَ مَلِكِ التَّتارِ بما يبعَثُه إليه مِنَ الأموالِ، وأشاروا بأن يبعَثَ بشَيءٍ يسيرٍ، فأرسَل شَيئًا مِنَ الهَدايا فاحتَقَرَها هولاكو خان، وأرسَل إلى الخَليفةِ يطلُبُ منه دويدارَه المَذكورَ وسُليمانَ شاه، فلم يبعَثْهما إليه، ولا بالى به حتَّى أزِف قُدومُه، ووصل بَغدادَ بجُنودِه الكثيرةِ الكافِرةِ الفاجِرةِ الظَّالمةِ الغاشِمةِ مِمَّن لا يُؤمِنُ باللهِ ولا باليومِ الآخِرِ، فأحاطوا ببَغدادَ من ناحيتِها الغَربيَّةِ والشَّرقيَّةِ، وجُيوشُ بَغدادَ في غايةِ الضَّعفِ، ونِهايةِ الذِّلَّةِ، لا يبلُغونَ عَشرةَ آلافِ فارِسٍ، وهم بَقيَّةُ الجَيشِ، فكُلُّهم كانوا قد صُرِفوا عن إقطاعاتِهم حتَّى استَعطى كثيرٌ منهم في الأسواقِ، وأبوابِ المَساجِدِ، وأنشَد فيهمُ الشُّعَراءُ قَصائِدَ يرثونَ لهم، ويحزَنونَ على الإسلامِ وأهلِه، وذلك كُلُّه من آراءِ الوزيرِ ابنِ العلقَميِّ الرَّافِضيِّ، وذلك أنَّه لمَّا كان في السَّنةِ الماضيةِ كان بَينَ أهلِ السُّنَّةِ والرَّافِضةِ حَربٌ عَظيمةٌ نُهِبَت فيها الكَرخُ ومَحلَّةُ الرَّافِضةِ، حتَّى نُهِبَت دُورُ قَراباتِ الوزيرِ؛ فاشتَدَّ حَنَقُه على ذلك، فكان هذا مِمَّا أهاجَه على أن دَبَّر على الإسلامِ وأهلِه ما وقَعَ مِنَ الأمرِ الفظيعِ الذي لم يُؤَرَّخْ أبشَعُ منه مُنذُ بُنِيَت بَغدادُ وإلى هذه الأوقاتِ؛ ولهذا كان العَلْقَميُّ أوَّلَ مَن بَرَزَ إلى التَّتارِ، فخَرَجَ بأهلِه وأصحابِه وخَدَمِه وحَشَمِه، فاجتَمَعَ به السُّلطانُ هولاكو خانَ لعنَه اللهُ، ثُمَّ عادَ فأشارَ على الخَليفةِ بالخُروجِ إليه، والمُثولِ بَينَ يدَيه لتَقَعَ المُصالحةُ على أن يكونَ نِصفُ خَراجِ العِراقِ لهم، ونِصفُه للخَليفةِ، فاحتاجَ الخَليفةُ إلى أن خَرَجَ في سَبعِمِائةِ راكِبٍ مِنَ القُضاةِ والفُقَهاءِ والصُّوفيَّةِ ورؤوسِ الأُمَراءِ والدَّولةِ والأعيانِ، فلمَّا اقتَرَبوا من مَنزِلِ السُّلطانِ هولاكو خانَ حُجِبوا عنِ الخَليفةِ إلَّا سَبعةَ عَشَرَ نَفسًا، فخَلصَ الخَليفةُ بهؤلاء المَذكورينَ، وأُنزِلَ الباقونَ عن مَراكِبهم ونُهِبَت، وقُتِلوا عن آخِرِهم، وأُحضِرَ الخَليفةُ بَينَ يدَي هولاكو فسَأله عن أشياءَ كثيرةٍ، فيُقالُ: إنَّه اضطَرَبَ كلامُ الخَليفةِ من هَولِ ما رَأى مِنَ الإهانةِ والجَبَروتِ، ثُمَّ عادَ إلى بَغدادَ في صُحبَتِه
نَصيرُ الدِّينِ الطُّوسيُّ والوزيرُ ابنُ العَلْقَميِّ وغَيرُهما، والخَليفةُ تَحتَ الحَوطةِ والمُصادَرةِ، فأحضَرَ من دارِ الخِلافةِ شَيئًا كثيرًا مِنَ الذَّهَبِ والحُليِّ والمصاغِ والجَواهرِ والأشياءِ النَّفيسةِ، وقد أشارَ أولئك المَلأُ مِنَ الرَّافِضةِ وغَيرِهم مِنَ المُنافِقينَ على هولاكو ألَّا يُصالحَ الخَليفةَ، وقال الوزيرُ: متى وقَعَ الصُّلحُ على المُناصَفةِ لا يستَمِرُّ هذا إلَّا عامًا أو عامَينِ، ثُمَّ يعودُ الأمرُ إلى ما كان عليه قَبلَ ذلك، وحَسَّنوا له قَتلَ الخَليفةِ.
فلمَّا عادَ الخَليفةُ إلى السُّلطانِ هولاكو أمَرَ بقَتلِه، ويُقال: إنَّ الذي أشارَ بقَتلِه هو الوزيرُ ابنُ العَلْقَميِّ والمَولى
نَصيرُ الدِّينِ الطُّوسيُّ، وكان
النَّصيرُ عِندَ هولاكو قد استصحبه في خِدمَتِه لمَّا فَتحَ قِلاعَ الأَلَمُوتِ وانتَزَعَها من أيدي الإسماعيليَّةِ، وكان
النَّصيرُ وزيرًا لشَمسِ الشُّموسِ ولأبيه قَبلَه عَلاءِ الدِّينِ بنِ جَلالِ الدِّينِ، وانتخَبَ هولاكو
النَّصيرَ ليكونَ في خِدمتِه كالوزيرِ المُشيرِ، فلمَّا قدِمَ هولاكو وتَهَيَّب من قَتلِ الخَليفةِ هَوَّنَ عليه الوزيرُ ذلك، فقَتَلوه رَفسًا وهو في جوالقَ لئَلَّا يقَعَ على الأرضِ شَيءٌ من دَمِه، فباؤوا بإثمِه وإثمِ مَن كان مَعَه من ساداتِ العُلماءِ والقُضاةِ والأكابرِ والرُّؤَساءِ والأُمَراءِ وأُولي الحَلِّ والعَقدِ ببلادِه، ومالوا على البلدِ فقَتَلوا جَميعَ مَن قدَروا عليه مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والوِلدانِ والمَشايِخِ، والكُهولِ والشُّبَّانِ، ودَخل كثيرٌ مِنَ النَّاسِ في الآبارِ وأماكِنِ الحُشوشِ، وكمَنوا كذلك أيَّامًا لا يَظهَرونَ، وكان الجَماعةُ مِنَ النَّاسِ يجتَمِعونَ إلى الخاناتِ ويُغلِقونَ عليهمُ الأبوابَ فتَفتَحُها التَّتارُ إمَّا بالكسرِ وإمَّا بالنَّارِ، ثُمَّ يدخُلونَ عليهم فيَهرُبونَ إلى أعالي الأمكِنةِ فيقتُلونَهم بالأسطِحةِ حتَّى تَجريَ الميازيبُ مِنَ الدِّماءِ في الأزِقَّةِ، وكذلك في المَساجِدِ والجَوامِعِ والرُّبُطِ، ولم ينجُ منهم أحَدٌ سِوى أهلِ الذِّمَّةِ مِنَ اليهودِ والنَّصارى، ومَن التَجَأ إليهم، وإلى دارِ الوزيرِ ابنِ العَلْقَميِّ الرَّافِضيِّ، وطائِفةٍ مِنَ التُّجَّارِ أخَذوا لهم أمانًا بَذَلوا عليه أموالًا جزيلةً حتَّى سَلِموا وسَلِمَت أموالُهم، وعادَت بَغدادُ بَعدَما كانت آنَسَ المُدُنِ كُلِّها كأنَّها خَرابٌ ليسَ فيها إلَّا القَليلُ مِنَ النَّاسِ، وهم في خَوفٍ وجوعٍ وذِلَّةٍ وقِلَّةٍ، وكان الوزيرُ ابنُ العَلْقَميِّ قَبلَ هذه الحادِثةِ يجتَهدُ في صَرفِ الجُيوشِ، وإسقاطِ اسمِهم مِنَ الدِّيوانِ، فكانتِ العَساكِرُ في آخِرِ أيَّامِ المُستَنصِرِ قَريبًا من مِائةِ ألفِ مُقاتِلٍ، منهم من الأُمَراءِ مَن هو كالمُلوكِ الأكابِرِ والأكاسِرِ، فلم يزَلْ يجتَهدُ في تَقليلِهم إلى أن لم يبقَ سِوى عَشَرةِ آلافٍ، ثُمَّ كاتَبَ التَّتارَ، وطَمَّعَهم في البلادِ، وسَهَّل عليهم ذلك، وحَكى لهم حَقيقةَ الحالِ، وكشَف لهم ضَعفَ الرِّجالِ، وذلك كُلُّه طَمَعًا منه أن يُزيلَ السُّنَّةَ بالكُلِّيَّةِ، وأن يُظهِرَ بِدعةَ الرَّافِضةِ، وأن يُقيمَ خَليفةً مِنَ الفاطِميِّينَ، وأن يُبيدَ العُلماءَ والمُفتينَ، واللهُ غالِبٌ على أمرِه)
[2412] يُنظر: ))البداية والنهاية(( (17/356- 360) باختصار وتصرف يسير. .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (كان الوزيرُ ابنُ العَلْقَميِّ الرَّافِضيُّ الخائِنُ شَديدَ الحَنَقِ على العُلماءِ من أهلِ السُّنَّةِ، وكان يتَشَفَّى بقَتلِهم، ومِمَّن قَتَله التَّتارُ في بَغدادَ مُحيي الدِّينِ يوسُفُ بنُ الشَّيخِ أبي الفرَجِ بنِ الجَوزيِّ، وأولادُه الثَّلاثةُ، وأكابرُ الدَّولةِ واحِدًا واحِدًا، كان الرَّجُلُ يُستَدعى به من دارِ الخِلافةِ فيُذهَبُ به إلى مَقبَرةِ الغِلالِ فيُذبَحُ كما تُذبَحُ الشَّاةُ، ويُؤسَرُ مَن يختارونَ من بَناتِه وجَواريه، وقَتَل الخُطَباءَ والأئِمَّةَ وحَمَلةَ القُرآنِ، وتَعَطَّلتِ المَساجِدُ والجَماعاتُ والجُمُعاتُ مُدَّةَ شُهورٍ ببَغدادَ، وأرادَ الوزيرُ ابنُ العَلْقَميِّ قَبَّحَه اللهُ ولعنَه أن يُعَطِّلَ المَساجِدَ والمَدارِسَ ببَغدادَ، ويستَمِرَّ بالمَشاهدِ ومَحالِّ الرَّفضِ، وأن يبنيَ للرَّافِضةِ مَدرَسةً هائِلةً ينشُرونَ عِلمَهم بها، فلم يُقدِرْه اللهُ تعالى على ذلك، بل أزال نِعمَتَه عنه، وقَصَف عُمُرَه بَعدَ شُهورٍ يسيرةٍ من هذه الحادِثةِ)
[2413] يُنظر: ))البداية والنهاية (((17/362) باختصار وتصرف. .
قال
ابنُ كثيرٍ أيضًا: (وقد اختَلف النَّاسُ في كمِّيَّةِ مَن قُتلَ ببَغدادَ مِنَ المُسلمينَ في هذه الواقِعةِ، فقيل: ثَمانِمِائةِ ألفٍ، وقيل: ألفُ ألفٍ وثَمانِمِائةِ ألفٍ، وقيل: بلغَتِ القَتلى ألفَيْ ألفِ نَفسٍ، فإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعونَ)
[2414])) البداية والنهاية (((17/361). .
وقال أيضًا: (ولمَّا انقَضى أمَدُ الأمرِ المَقدورِ، بَقِيَت بَغدادُ خاويةً على عُروشِها، ليسَ بها أحَدٌ إلَّا الشَّاذُّ مِنَ النَّاسِ، والقَتلى في الطُّرُقاتِ كأنَّها التُّلولُ، وسَقَطَ عليهمُ المَطَرُ فتَغَيَّرَت صورُهم، وأنتَنَت مِن جِيَفِهمُ البلَدُ، وتَغَيَّرَ الهَواءُ، فحَصَل بسَبَبهِ الوباءُ الشَّديدُ حتَّى تَعَدَّى وسَرى في الهَواءِ إلى بلادِ الشَّامِ، فماتَ خَلقٌ كثيرٌ من تَغَيُّرِ الجَوِّ، وفسادِ الرِّيحِ؛ فاجتَمَعَ على النَّاسِ الغَلاءُ والوَباءُ والفَناءُ والطَّعنُ والطَّاعونُ، فإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعونَ)
[2415] يُنظر: ((البداية والنهاية (((17/362) بتصرف. .
ومِثلُ خيانةِ العَلْقَميِّ خيانةُ بَدرِ الدِّينِ لُؤلُؤ الذي كان عَبدًا أرمينيًّا، اشتَراه رجلٌ خَيَّاطٌ، ثُمَّ صارَ إلى المَلكِ نورِ الدِّينِ أرسلان شاه بنِ عِزّ الدِّينِ مَسعودٍ الأتاباكيِّ صاحِبِ الموصِلِ، وكان مَليحَ الصُّورةِ، فحَظِيَ عِندَه، وتَقدَّمَ في دَولتِه إلى أن صارَتِ الكَلِمةُ دائِرةً عليه، والوُفودُ من سائِرِ جِهاتِ مُلكِهم إليه، ثُمَّ إنَّه قَتَل أولادَ أُستاذِه واحِدًا بَعدَ واحِدٍ حتَّى لم يبقَ أحَدٌ منهم، وصَفَتْ له الأُمورُ، فاستَقَلَّ هو بالمُلكِ، وكان في كُلِّ سَنةٍ يبعَثُ إلى مَشهَدِ عَليٍّ قِنديلًا مَن ذَهَبٍ زِنَتُه ألفُ دينارٍ، وكان شَديدَ الدَّهاءِ والمَكرِ، ولمَّا انفصَل هولاكو عن بَغدادَ بَعدَ الوقعةِ الفظيعةِ سارَ بَدرُ الدِّينِ لُؤلُؤ لخِدمَتِه وطاعَتِه، وحَمل مَعَه الهَدايا والتُّحَفَ
[2416] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (17/383). .
والعَجَبُ أنَّه مَعَ إحسانِ أهلِ السُّنَّةِ لبَعضِ أعيانِ الشِّيعةِ وتَسامُحِهم مَعَهم، تَقَعُ خيانةُ الشِّيعةِ لمَن أحسَنَ إليهم، والشِّيعةُ إذا صارَت لهم دَولةٌ لا يُمَكِّنونَ أهلَ السُّنَّةِ مِنَ الوُصولِ إلى أيِّ مَناصِبَ قياديَّةٍ، وهذا أمرٌ مُطَّرِدٌ حتَّى الآنَ، ففي دَولةِ إيرانَ المُعاصِرةِ ذَكرَ ناصِرُ الدِّينِ الهاشِميُّ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ في إيرانَ مَمنوعونَ من بناءِ المَساجِدِ في المُدُنِ الكبيرةِ، ومِن طَبعِ كُتُبِهم، قال: (وأهلُ السُّنَّةِ مَمنوعونَ مِنَ العَمَلِ في الإداراتِ الحُكوميَّةِ؛ حَيثُ لا يوظَّفُ منهم ولو من حَمَلةِ شَهاداتِ الدُّكتوراه، لا بالوظائِفِ المُهمَّةِ ولا غَيرِ المُهمَّةِ، ناهيك عنِ القِلَّةِ القَليلةِ الباقيةِ مِنَ النِّظامِ السَّابقِ في الإداراتِ الحُكوميَّةِ، وذلك بَعدَ تَطهيرٍ واسِعٍ بَعدَ الثَّورةِ)
[2417] ((موقف أهل السنة في إيران)) (ص: 11). .
وحينَ جاء التَّتارُ إلى بلادِ الشَّامِ عامَ 658هـ صُحبةَ مَلِكِهم هولاكو خان، وعبَروا نهرَ الفُراتِ على جُسورٍ عَمِلوها، وحينَ جاءَ التَّتارُ إلى بلادِ الشَّامِ عامَ 658هـ صُحبةَ مَلِكِهم هولاكو خانَ، وعَبَروا نَهرَ الفُراتِ على جُسورٍ عَمِلوها، ووصَلوا إلى حَلبٍ في ثاني صَفرٍ من هذه السَّنةِ، حاصَروها سَبعةَ أيَّامٍ، ثُمَّ افتَتَحوها بالأمانِ، ثُمَّ غَدَروا بأهلِها، وقَتَلوا منهم خَلقًا لا يعلَمُهم إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، ونَهَبوا الأموالَ، وسَبَوا النِّساءَ والأطفالَ، وجَرى عليهم قَريبًا مِمَّا جَرى على أهلِ بَغدادَ.
ولمَّا سَقَطَت حَلبٌ أرسَل صاحِبُ حَماةَ بمَفاتيحِها إلى هولاكو خانَ، فاستَنابَ عليها رَجُلٌ يُقالُ له: خُسْرو شاه، فخَرَّب أسوارَها كمَدينةِ حَلبٍ، ثُمَّ أرسَل هولاكو قائِدَه كَتْبُغا إلى دِمَشقَ، فأخَذوها سَريعًا، واستَنابَ عليها رَجُلًا منهم يُقالُ له: إيل سيان، وكان مُعَظِّمًا لدينِ النَّصارى، فاجتَمَعَ به قساوِسُهم وأساقِفتُهم فعَظَّمَهم جِدًّا، وزارَ كنائِسَهم، فصارَت لهم دَولةٌ وصَولةٌ بسَبَبِه، وذَهَب طائِفةٌ مِنَ النَّصارى إلى هولاكو وأخَذوا مَعَهم هَدايا وتُحَفًا، وقدَّموا من عِندِه، ومَعَهم فرَمانُ أمانٍ من جِهَتِه، فدَخَلوا من بابِ تومَا، ومَعَهم صَليبٌ مَنصوبٌ يحمِلونَه على رؤوسِ النَّاسِ، وهم يُنادونَ بشِعارِهم، ويقولونَ: ظَهَرَ الدِّينُ الصَّحيحُ دينُ المَسيحِ، ويذُمُّونَ دينَ الإسلامِ وأهلَه، ومَعَهم أواني خَمرٍ لا يمُرُّونَ بمَسجِدٍ إلَّا رَشُّوا عِندَه خَمرًا
[2418] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (17/398). .
ومِمَّا يدُلُّ على خيانةِ الرَّوافِضِ أنَّ هولاكو لمَّا تَمَّ له أمرُ بلادِ الشَّامِ أرسَل تَقليدًا بوِلايةِ القَضاءِ على جَميعِ المَدائِنِ: الشَّامِ، والجَزيرةِ، والموصِلِ، ومارِدِينَ، والأكرادِ، للقاضي كمالِ الدِّينِ عُمَرَ بنِ بَدرٍ التَّفليسيِّ الشِّيعيِّ، ثُمَّ لمَّا ظَفِرَ المُسلمونَ على التَّتارِ في مَعرَكةِ عَينِ جالوتَ في شَهرِ رَمَضانَ سَنةَ 658ه بقيادةِ المَلِكِ المُظَفَّرِ قُطُز، عَوَّل أهلُ الشَّامِ على الانتِقامِ مِنَ الخَوَنةِ مِنَ النَّصارى الذين استَغَلُّوا الفُرصةَ وفعَلوا ما فعَلوا، ومِنَ الشِّيعةِ الذين مالؤوا التَّتارَ وصانعوهم على أموالِ المُسلمينَ، وقَتَلتِ العامَّةُ في وسَطِ الجامِعِ شَيخًا رافضيًّا كان مُصانِعًا للتَّتارِ على أموالِ النَّاسِ، يُقالُ له: الفخرُ مُحَمَّدُ بنُ يوسُفَ الكنجيُّ، كان خَبيثَ الطَّويَّةِ، مُمالئًا لهم على أموالِ المُسلمينَ قَبَّحَه اللهُ، وقَتَلوا جَماعةً مِثلَه مِنَ المُنافِقينَ،
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 45] [2419] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (17/402). .
وكان
نَصيرُ الدِّينِ الطُّوسيُّ مُعاصِرًا للوزيرِ ابنِ العَلْقَميِّ، وكان شيعيًّا رافضيًّا مِثلَه، وقد تَعَدَّدَت خياناتُه، وكان من أعوانِ التَّتارِ، وتَسَبَّبَ في قَتلِ أهلِ السُّنَّةِ وأخذِ أموالِهم والقَضاءِ على تُراثِهم.
قال ابنُ القَيِّمِ: (ولمَّا انتَهَتِ النَّوبةُ إلى نصيرِ الشِّركِ والكُفرِ المُلحِدِ، وزيرِ المَلاحِدةِ
النَّصيرِ الطُّوسيِّ وزيرِ هولاكو، شَفا نَفسَه من أتباعِ الرَّسولِ الكريمِ وأهلِ دينِه، فعَرَضَهم على السَّيفِ، حتَّى شَفا إخوانَه مِنَ المَلاحِدةِ، واشتَفى هو، فقَتَل الخَليفةَ والقُضاةَ والفُقَهاءَ والمُحدِّثينَ، واستَبقى الفلاسِفةَ والمُنَجِّمينَ والطَّبائعيِّينَ والسَّحَرةَ، ونَقَل أوقافَ المَدارِسِ والمَساجِدِ والرُّبُطِ إليهم، وجَعَلهم خاصَّتَه وأولياءَه، ونَصَرَ في كُتُبِه قِدَمَ العالَمِ، وبُطلانَ المَعادِ، وإنكارَ صِفاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُه من عِلمِه وقُدرَتِه وحَياتِه وسَمعِه وبَصَرِه، وأنَّه لا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَه، وليسَ فوقَ العَرشِ إلهٌ يُعبَدُ البَتَّةَ، واتَّخَذَ للمَلاحِدةِ مَدارِسَ، ورامَ جَعلَ إشاراتِ إمامِ المُلحِدينَ
ابنِ سِينا مَكانَ القُرآنِ، فلم يَقدِرْ على ذلك، فقال: هي قُرآنُ الخَواصِّ، وذاك قُرآنُ العَوامِّ، ورامَ تَغييرَ الصَّلاةِ وجَعْلَها صَلاتَينِ فلم يتِمَّ له الأمرُ، وتَعلَّم السِّحرَ في آخِرِ الأمرِ، فكان ساحِرًا يعبُدُ الأصنامَ، وصارَعَ مُحَمَّد الشَّهرَستانيُّ
ابنَ سِينا في كِتابٍ سَمَّاه «المُصارَعة» أبطَل فيه قَولَه بقِدَمِ العالَمِ، وإنكارِ المَعادِ، ونَفيِ عِلمِ الرَّبِّ تعالى وقدرتِه وخَلقِه للعالَمِ، فقامَ له نَصيرُ الإلحادِ وقَعَدَ، ونَقَضَه بكِتابٍ سَمَّاه «مُصارَعة المُصارَعة»... وبالجُملةِ فكان هذا المُلحِدُ هو وأتباعُه مِنَ المُلحِدينَ الكافِرينَ باللهِ ومَلائِكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ)
[2420] ))إغاثة اللهفان(( (2/263). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (الخَواجا
نَصيرُ الدِّينِ الطُّوسيُّ، وزَرَ لأصحابِ قِلاعِ الألموتِ مِنَ الإسماعيليَّةِ، ثُمَّ وزَرَ لهولاكو، وكان مَعَه في واقِعةِ بَغدادَ)
[2421] ((البداية والنهاية)) (17/514). .
وقال أيضًا: (كان
النَّصيرُ وزيرًا لشَمسِ الشُّموسِ ولأبيه قَبلَه عَلاءِ الدِّينِ بنِ جَلالِ الدِّينِ، وكانوا يُنسَبونَ إلى نِزارِ بنِ المُستَنصِرِ العُبَيديِّ، وانتَخبَ هولاكو
النَّصيرَ ليكونَ في خِدمَتِه كالوزيرِ المُشيرِ، فلمَّا قدِمَ هولاكو بَغدادَ وتَهَيَّب من قَتلِ الخَليفةِ هَوَّنَ عليه الوزيرُ
الطُّوسيُّ ذلك، فقَتَلوه رَفسًا وهو في جوالقَ لئَلَّا يقَعَ على الأرضِ شَيءٌ من دَمِه، وأشارَ
الطُّوسيُّ بقَتلِ جَماعةٍ كبيرةٍ مَعَ الخَليفةِ، فباءَ بآثامِهم)
[2422] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (17/359) بتصرف. .
وقال
ابنُ كثيرٍ مُبَيِّنًا ما حَصَل بَعدَ دُخولِ التَّتارِ بَغدادَ بسَنةٍ: (في سَنةِ 657هـ عَمِل
الخَواجةُ نصيرُ الدِّينِ الطُّوسيُّ الرَّصدَ بمَدينةِ مَراغةَ، ونَقل إليها شَيئًا كثيرًا من كُتُبِ الأوقافِ التي كانت ببَغدادَ، وعَمِل دارًا للحِكمةِ، ورَتَّب فيها الفلاسِفةَ، ورتَّبَ لكُلِّ واحِدٍ في اليومِ واللَّيلةِ ثَلاثةَ دَراهِمَ)
[2423] ((البداية والنهاية)) (17/387). .
وقال مُحِبُّ الدِّينِ الخَطيبُ: (
النَّصيرُ الطُّوسيُّ جاء في طَليعةِ مَوكِبِ السَّفَّاحِ هولاكو، وأشرَف مَعَه على إباحةِ الذَّبحِ العامِّ في رِقابِ المُسلمينَ والمُسلِماتِ أطفالًا وشُيوخًا، ورَضيَ بتَغريقِ كُتُبِ العِلمِ الإسلاميَّةِ في دِجلةَ، حتَّى بَقِيَت مياهُها تَجري سَوداءَ أيَّامًا ولياليَ من مِدادِ الكُتُبِ المَخطوطةِ التي ذَهَبَ بها نَفائِسُ التُّراثِ الإسلاميِّ من تاريخٍ وأدَبٍ ولُغةٍ وشِعرٍ وحِكمةٍ، فضلًا عنِ العُلومِ الشَّرعيَّةِ ومُصَنَّفاتِ أئِمَّةِ السَّلفِ مِنَ الرَّعيلِ الأوَّلِ، التي كانت لا تَزالُ مَوجودةً بكثرةٍ إلى ذلك الحينِ، وقد تَلِف مَعَ ما تَلِفَ من أمثالِها في تلك الكارِثةِ الثَّقافيَّةِ التي لم يَسبِقْ لها نَظيرٌ)
[2424] ((الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الاثني عشرية(( (ص: 47). .
ثُمَّ إنَّه من فَضلِ اللهِ تعالى وحِكمَتِه أنَّ كثيرًا مِنَ التَّتارِ هَداهمُ اللهُ لدينِ الإسلامِ، ولكِنَّ الرَّوافِضَ كانوا يسعَونَ لضَمِّ مَن يستَطيعونَ منهم إلى مَذهَبِهم، وقد استَطاعَ جَمالُ الدِّينِ بنُ مُطَهرٍ الحليُّ تِلميذُ
نصيرِ الطُّوسيِّ أن يدعوَ مَلِكَ التَّتارِ خربندا مُحَمَّد أرغون بنَ أبغا بنِ هولاكو مَلِكِ العِراقِ وخُراسانَ إلى مَذهَبِ الرَّوافِض، ولم يزَلْ على الرَّفضِ حتَّى ماتَ، وجَرَت في أيَّامِه فِتَنٌ كِبارٌ ومَصائِبُ عِظامٌ بَين الرَّوافِضِ وأهلِ السُّنَّةِ.
وكان قد جَهَّزَ في حَياتِه جَيشًا كثيفًا مِنَ الرَّوافِض، وجَمع أموالًا عَظيمةً ليمُدَّ بها صاحِبَ مَكَّةَ الأميرَ حميضةَ بنَ أبي نُميٍّ لينصُرَ الرَّوافِضَ، ويُقيمَ الرَّفضَ في بلادِ الحِجازِ، ثُمَّ إنَّه ماتَ، ومَلَك بَعدَه ولدُه أبو سَعيدٍ الذي رَجَعَ إلى السُّنَّةِ، واستَفتى ابنَ تيميَّةَ في تلك الأموالِ، فأفتى بأنَّها تُصرَفُ في مَصالحِ المُسلمينَ؛ لأنَّها كانت مُعَدَّةً لعِنادِ الحَقِّ ونُصرةِ أهلِ البِدعةِ على أهلِ السُّنَّةِ
[2425] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (18/154-155). .
والشِّيعةُ يمدَحونَ ما فعَله
الطُّوسيُّ مِنَ الخيانةِ، ويتَرَحَّمونَ عليه؛ فقد قال مُحَمَّد باقِر الموسى عنه: (المُحَقِّقُ المُتَكلِّمُ الحَكيمُ المُتَجَبِّرُ الجَليلُ،... ومِن جُملةِ أمرِه المَشهورِ المَعروفِ المَنقولِ حِكايةُ استيزارِه للسُّلطانِ المُحتَشِمِ في مَحروسةِ إيرانَ هولاكو خانَ بنِ تَولِّي جَنكيزِ خانَ من عُظَماءِ سَلاطينِ التَّتاريَّةِ، وأتراكِ المَغولِ، ومَجيئِه في مَوكِبِ السُّلطانِ مُؤَيَّدٍ مَعَ كمالِ الاستِعدادِ إلى دارِ السَّلامِ بَغدادَ؛ لإرشادِ العِبادِ وإصلاحِ البلادِ، وقَطْعَ دابرِ سِلسِلةِ البَغيِ والفسادِ، وإخمادِ دائِرةِ الجَورِ والإلباسِ، بإبدادِ دائِرةِ مُلكِ بَني العَبَّاسِ، وإيقاعِ القَتلِ العامِّ في أتباعِ أولئك الطُّغاةِ إلى أن سال من دِمائِهمُ الأقذارِ كأمثالِ الأنهارِ، فانهارَ بها في ماءِ دِجلةَ، ومنها إلى نارِ جَهَنَّمَ دارِ البَوارِ، ومَحَلِّ الأشقياءِ والأشرارِ)
[2426] ((روضات الجنات)) (1/300). .
وقال الخُمينيُّ: (وإذا كانت ظُروفُ التَّقيَّةِ تُلزِمُ أحَدًا مِنَّا بالدُّخولِ في رَكبِ السَّلاطينِ فهنا يجِبُ الامتِناعُ عن ذلك حتَّى لو أدَّى الامتِناعُ إلى قَتلِه، إلَّا أن يكونَ في دُخولِه الشَّكليِّ نَصرٌ حَقيقيٌّ للإسلامِ والمُسلمينَ، مِثلُ دُخولِ عَليِّ بنِ يقطينٍ، و
نَصيرِ الدِّينِ الطُّوسيِّ رَحِمَهما اللهُ)
[2427] ((الحكومة الإسلامية)) (ص: 142). .
وقال أيضًا: (يشعُرُ النَّاسُ بالخَسارةِ أيضًا بفِقدانِ الخَواجةِ
نَصيرِ الدِّينِ الطُّوسيِّ وأمثالِه مِمَّن قدَّموا خِدماتٍ جَليلةً للإسلامِ)
[2428] ((الحكومة الإسلامية)) (ص: 128). .