المَطلَبُ الأوَّلُ: مُعتَقَدُ الإسماعيليَّةِ في اللهِ سُبحانَه وتَعالى
وقَع في اعتِقادِ الإسماعيليَّةِ الشِّركُ الأكبَرُ باللهِ تَعالى في رُبوبيَّتِه، وذلك باعتِقادِهم آلِهةً مُتَعَدِّدةً لها مِنَ التَّأثيرِ والتَّدبيرِ في الكَونِ ما هو ثابِتٌ للهِ وحدَه، وهم وإن لم يُصَرِّحوا بذلك إلَّا أنَّ فلسَفتَهم وفِكرَهم يؤولُ إلى هذا الاعتِقادِ الباطِلِ، وذَكرَ عُلَماءُ الفِرَقِ عنهم أنَّهم يَعتَقِدونَ بإلَهَينِ قديمَينِ لا أوَّلَ لوُجودِهما إلَّا أنَّ أحَدَهما عِلَّةٌ لوُجودِ الثَّاني، واسمُ العِلَّةِ السَّابِقُ، واسمُ المَعلولِ التَّالي، وأنَّ السَّابِقَ خَلقَ العالَمَ بواسِطةِ التَّالي
[2806] يُنظر: ((الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام)) للعلوي (ص: 38). .
وهذا المُعتَقَدُ لَدى الإسماعيليَّةِ ليس جَديدًا أو مُبتَكَرًا من عِندِهم، بل هو مِنَ الرُّكامِ المُتَناثِرِ الذي كان مُنتَشِرًا قَبلَ الإسلامِ لدى الأمَمِ المُختَلِفةِ ما بَينَ فلسَفاتِ اليونانِ ومُعتَقَداتِ المَجوسِ وتَحريفاتِ اليَهودِ والنَّصارى؛ حَيثُ لَفَّقَ الإسماعيليَّةُ من هؤلاء وأولئك تَصَوُّراتِهم المُنحَرِفةَ المُحَرَّفةَ، وسَرَقوا هذه التَّصَوُّراتِ والأفكارَ، وأضافوا إليها ما هو أشَدُّ كُفرًا وإلحادًا، واعتَبَروها عَقيدةً ومُنطَلَقًا لهم.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (ذَكَرَ الكاشِفونَ لأسرارِ القَرامِطةِ والهاتِكونَ لأستارِهم -كالقاضي أبي بَكرٍ الطَّيِّبِ، و
القاضي أبي يَعلى، وطَوائِفَ كثيرةٍ- ما وجَدْنا مِصداقَه في كُتُبِ القَرامِطةِ من أنَّهم وضَعوا لأنفُسِهم اصطِلاحاتٍ رَوَّجوها على المُسلِمينَ، ومَقصودُهم بها مَقصودُ الفَلاسِفةِ الصَّابِئينَ والمَجوسِ الثَّنَويَّةِ، كقَولِهم: السَّابِقُ والتَّالي، يَعنونَ به العَقلَ والنَّفسَ. ويَقولونَ: هو اللَّوحُ والقَلَمُ، وأصلُ دينِهم مَأخوذٌ من دينِ المَجوسِ والصَّابِئينَ)
[2807] ((بغية المرتاد)) (ص: 193، 194). .
وقد ذَكَرَ العُلَماءُ أنَّ دُعاةَ الإسماعِليَّةِ زَنادِقةٌ، وعَوامَّهم رافِضةٌ
[2808] يُنظر: ((عندما أبصرت الحقيقة)) للحسن المكرمي (ص: 2). .
ومَذهَبُ الإسماعيليَّةِ الباطِنيَّةِ يُشابِهُ مَذهَبَ المَجوسِ من عِدَّةِ وُجوهٍ:الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ الباطِنيَّةَ قالوا بالاثنينيَّةِ كما قالتِ المَجوسُ، وعَبَّروا عنها بالسَّابِقِ والتَّالي، كما عَبَّرَ المَجوسُ عن الاثنَينِ بيزدانَ وأهرمنَ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الباطِنيَّةَ قالوا بقِدَمِ السَّابِقِ، وحُدوثِ التَّالي، كما قال المَجوسُ بقِدَمِ يَزدانَ وحُدوثِ أهرمنَ.
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ الباطِنيَّةَ أضافوا النَّقصَ إلى التَّالي، كالمَجوسِ أضافوا النَّقائِصَ كُلَّها إلى أهرمنَ.
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّ من مَقولاتِ الباطِنيَّةِ الاعتِقادَ بأنَّ التَّاليَ مَعلولٌ عن السَّابِقِ ومُتَوَلِّدٌ عنه، كالمَجوسِ الذين قالوا: إنَّ أهرمن حَصَلَ عن يَزدانَ وتوَلَّد من فِكرَتِه.
الوَجهُ الخامِسُ: أنَّ المَجوسَ قالوا: إنَّ حُدوثَ هذه التَّراكيبِ عن يَزدانَ، والباطِنيَّةُ قالوا: إنَّ حُصولَها عن السَّابِقِ بوَسائِطَ.
والباطِنيَّةُ أسوَأُ حالًا مِنَ المَجوسِ لأمرَينِ:الأمرُ الأوَّلُ: أنَّ المَجوسَ لمَّا أثبَتوا يَزدانَ إلَهًا، واعتَقدوا إلَهيَّتَه، وصَفوه بصِفاتِ الكَمالِ مِنَ القُدرةِ والعِلمِ والحَياةِ، بَينَما الباطِنيَّةُ الإسماعيليَّةُ سَلَبوا عن إلَهِهم جَميعَ صِفاتِ الكَمالِ.
الأمرُ الثَّاني: أنَّ الباطِنيَّةَ لم يَقنَعوا بسَلبِ الصِّفاتِ الإلَهيَّةِ عنه، بل ضَمُّوا إليه جَهالةً أخرى، فقالوا عنه: إنَّه قادِرٌ ولا قادِرٌ، وعالِمٌ ولا عالِمٌ، ومَوجودٌ ولا مَوجودٌ، فخَرَجوا به عن جَميعِ القَضايا العَقليَّةِ، كما اعتَقدوا خُروجَه من حُكمِ السَّلبِ والإيجابِ مَعًا، وهذا فيه من فُحشِ المَقالِ والجَهالةِ ما غَطَّى على مُعتَقَدِ المَجوسِ
[2809] يُنظر: ((الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام)) للعلوي (ص: 44، 45). .
قال البَغداديُّ: (ذَكَرَ زُعَماءُ الباطِنيَّةِ في كُتُبِهم أنَّ الإلَهَ خَلق النَّفسَ، فالإلَهُ هو الأوَّلُ، والنَّفسُ هو الثَّاني، وهما مُدَبِّرا هذا العالَمِ، وسَمَّوهما الأوَّلَ والثَّانيَ، ورُبَّما سمَّوهما العَقلَ والنَّفسَ، ثُمَّ قالوا: إنَّهما يُدَبِّرانِ هذا العالَمَ بتَدبيرِ الكَواكِبِ السَّبعةِ والطَّبائِعِ الأُولى. وقَولُهم: إنَّ الأوَّلَ والثَّانيَ يُدَبِّرانِ العالَمَ هو بعَينِه قَولُ المَجوسِ بإضافةِ الحَوادِثِ لصانِعَينِ أحَدُهما قديمٌ والآخَرُ مُحدَثٌ، إلَّا أنَّ الباطِنيَّةَ عَبَّرَت عن الصَّانِعينِ بالأوَّلِ والثَّاني، وعَبَّرَ المَجوسُ عنهما بيزدانَ وأهرمنَ... وقدِ اختَلَفَ المُتَكَلِّمونَ فى بَيانِ أغراضِ الباطِنيَّةِ في دَعوَتِها إلى بدعَتِها؛ فذَهَبَ أكثَرُهم إلى أنَّ غَرَضَ الباطِنيَّةِ الدَّعوةُ إلى دينِ المَجوسِ بالتَّأويلاتِ التي يتأوَّلون عليها القُرآنَ والسُّنَّةَ، واستَدَلُّوا على ذلك بأنَّ زَعيمَهم الأوَّلَ مَيمونُ بنُ ديصانَ كان مَجوسيًّا من سبِي الأهوازِ، ودَعا ابنُه عَبدُ اللَّهِ بنُ مَيمونٍ النَّاسَ إلى دينِ أبيه، واستَدَلُّوا أيضًا بأنَّ داعيَهم المَعروفَ بالبزديِّ قال في كِتابِه المَعروفِ بالمَحصولِ: إنَّ المُبدِعَ الأوَّلَ أبدَعَ النَّفسَ، ثُمَّ إنَّ الأوَّلَ والثَّانيَ مُدَبِّرُ العالَمِ بتَدبيرِ الكَواكِبِ السَّبعةِ والطَّبائِعِ الأربَعِ... الذي يَصِحُّ عِندي من دينِ الباطِنيَّةِ أنَّهم دَهريَّةٌ زَنادِقةٌ يَقولونَ بقِدَمِ العالَمِ، ويُنكِرونَ الرُّسُلَ والشَّرائِعَ كُلَّها... والدَّليلُ على أنَّهم كما ذَكرْناه ما قَرَأتُه في كِتابِهم المُتَرجَمِ بالسِّياسةِ والبَلاغِ الأكيدِ والنَّاموسِ الأعظَمِ، وهي رِسالةُ عُبَيدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ القَيرَوانيِّ إلى سُلَيمانَ بنِ الحَسَنِ بنِ سَعيدٍ الجنانيِّ أوصاه فيها بأن قال له: ادعُ النَّاسَ بأن تَتَقَرَّبَ إليهم بما يَميلونَ إليه، وأوهِمْ كُلَّ واحِدٍ منهم بأنَّك منهم؛ فمَن أنِسْتَ منه رُشدًا فاكشِفْ له الغِطاءَ، وإذا ظَفِرتَ بالفَلسَفيِّ فاحتَفِظْ به فعلى الفَلاسِفة مُعَوَّلُنا...)
[2810] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 269، 270، 277، 278). .
وقال
أبو حامِدٍ الغَزاليُّ: (قدِ اتَّفَقَت أقاويلُ نَقَلةِ المَقالاتِ من غَيرِ تَرَدُّدٍ أنَّهم قائِلونَ بإلَهَينِ قديمَينِ لا أوَّلَ لوُجودِهما من حَيثُ الزَّمانُ، إلَّا أنَّ أحَدَهما عِلَّةٌ لوُجودِ الثَّاني، واسمُ العِلَّةِ السَّابِقُ، واسمُ المَعلولِ التَّالي، وأنَّ السَّابِقَ خَلق العالَمَ بواسِطةِ التَّالي لا بنَفسِه، وقد يُسَمَّى الأوَّلُ عقلًا والثَّاني نفسًا، ويَزعُمونَ أنَّ الأوَّلَ هو التَّامُّ بالفِعلِ، والثَّاني بالإضافةِ إليه ناقِصٌ؛ لأنَّه مَعلولُه، ورُبَّما لَبَّسوا على العَوامِّ مُستَدِلِّينَ بآياتٍ مِنَ القُرآنِ عليه، كقَولِه تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ،
نَحْنُ قَسَمْنَا [الزخرف: 32] ، وزَعَموا أنَّ هذه إشارةٌ إلى جَمعٍ لا يَصدُرُ عن واحِدٍ؛ ولذلك قال:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] ، إشارةً إلى السَّابِقِ مِنَ الإلَهَينِ فإنَّه الأعلى، ولولا أنَّ مَعَه إلهًا آخَرَ له العُلوُّ أيضًا لمَّا انتَظَمَ إطلاقُ الأعلى، ورُبَّما قالوا: الشَّرعُ سَمَّاهما باسمِ القَلَمِ واللَّوحِ، والأوَّلُ هو القَلَمُ؛ فإنَّ القَلَمَ مُفيدٌ، واللَّوحَ مُستَفيدٌ مُتَأثِّرٌ، والمُفيدُ فوقَ المُستَفيدِ، ورُبَّما قالوا: اسمُ التَّالي القَدَرُ في لسانِ الشَّرعِ، وهو الذي خَلَقَ اللهُ به العالَمَ؛ حَيثُ قال:
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49])
[2811] ((فضائح الباطنية)) (ص: 44). .
والإسماعيليَّةُ يَعتَقِدونَ أنَّ اللَّهَ لا يوصَفُ ولا يُسَمَّى باسمٍ، مُخالِفينَ صَريحَ القُرآنِ والسُّنَّةِ، ومُؤَوِّلينَ للقُرآنِ بتَأويلاتٍ فاسِدةٍ بارِدةٍ بَعيدةٍ كُلَّ البُعدِ عن مَنطوقِها ومَفهومِها، مُكابِرينَ ومُجادِلينَ بغَيرِ حَقٍّ في آياتِ القُرآنِ النَّاطِقِ بأسماءِ اللهِ وصِفاتِه، وأحاديثِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
فمِنِ اعتِقادِ الإسماعيليَّةِ القَولُ بالسَّلبِ المَحضِ للَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ومَنهَجُهم في ذلك نَفيُ الأسماءِ والصِّفاتِ عن اللهِ عَزَّ وجَلَّ جُملةً وتفصيلًا، وتَصويرُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ بصورةٍ خَياليَّةٍ لا حَقيقةَ لها، فصارَ الإلَهُ عِندَهم إلهًا سَلبيًّا لا يُمكِنُ وصفُه بشَيءٍ حتَّى بلَفظِ الوُجودِ!
قال الدَّاعي جَعفَرُ بنُ مَنصورِ اليَمَنِ عن قَولِ اللهِ تعالى:
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] : (هذا الخِطابُ من إمامِ الزَّمانِ الذي هو القائِمُ لأهلِ زَمانِه مَقامَ اللهِ؛ إذ كان اللهُ نَصَبه وأقامَه، فسُمِّيَ باللهِ إذ هو مِن فِعلِ اللهِ؛ لأنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَناؤُه مُنَزَّهٌ عن الخِطابِ والكَلامِ)
[2812] ((سرائر وأسرار النطقاء)) (ص: 29). .
وقال الدَّاعي الإسماعيليُّ أحمَد حَميد الدِّين الكرمانيُّ: (أصدَقُ قَولٍ في التَّوحيدِ والتَّسبيحِ والتَّمجيدِ والإثباتِ ما يَكونُ من قَبيلِ نَفيِ الصِّفاتِ المَوجودةِ في المَوجوداتِ، وسَلبُها عنه تعالى... فأخَذْنا مَعاشِرَ الدُّعاةِ الموَحِّدينَ المُتَّبِعينَ للأئِمَّةِ الطَّاهِرينَ في التَّوحيدِ والتَّسبيحِ طَريقَ نَفيِ الصِّفاتِ بكَونِه حَقًّا وصِدقًا)
[2813] ((راحة العقل)) (ص: 147). .
وقال الدَّاعي عَليُّ بنُ الوَليدِ فيما يَجِبُ على المُؤمِنِ أن يَعتَقِدَه: (... ويَعتَقِدُ أنَّ نَفيَ الصِّفاتِ عنه مُعتَقَدٌ صَحيحٌ لا يسوغُ تَركُه؛ لأنَّ الصِّفاتِ تَلحَقُ الجَوهَرَ إمَّا في الأجسامِ وإمَّا في النُّفوسِ، ويَكونُ في الأجسامِ كيفيَّاتٌ من خارِجِها كالأقدارِ والألوانِ وما يجري مَجراها. وفي النُّفوسِ كيفيَّاتٌ من داخِلِها، كالعِلمِ والجَهلِ وما يجري هذا المَجر؛ وهو يَتَعالى عن أن يَكونَ له داخِلٌ أو خارِجٌ، ومِمَّا تَقَرَّرَ عِندَ كُلِّ ذي عَقلٍ أنَّ الصِّفاتِ تَلحَقُ المَوصوفَ من غَيرِه لا من ذاتِه... وإذا تَوَهَّمتَ شَيئًا مِنَ الصِّفاتِ أزَليًّا فهو ذاتُ المَوجودِ الأوَّلِ، وإذا كان الأمرُ على ذلك فيَجِبُ أن توجَدَ كُلُّ صِفةٍ تَصِفُه بها لأنَّها منه، ولا فرقَ بَينَها وبَينَه لكَونِها قديمةً على ما تَقَرَّرَ. وقد حَقَّ أنَّ التَّوحيدَ نفيُ الصِّفاتِ عن المُتَعالي سُبحانَه، فإذا أثبَتها فلا تَوحيدَ؛ لأنَّ الدَّليلَ قد قامَ على أنَّه كان ولا صِفةَ، فالقِدَمُ له خالِصٌ، ولا يُمكِنُنا التَّعبيرُ عنه بما فينا مِنَ الأعراضِ والجَواهِرِ؛ إذِ العالَمُ لا يوجَدُ فيه غَيرُهما ولا يَستَقِرُّ في ذَواتِنا سِواهما، ولا قُدرةَ لنا على الخُروجِ مِمَّا نحن مَفطورونَ عليه، فمَنعُ الصِّفاتِ المَوجودةِ في الخِلقةِ عن أن تُضافَ إليه مُعتَقَدٌ صَحيحٌ)
[2814] ((تاج العقائد)) (ص: 27، 28). .
بل نفى ابنُ الوَليدِ التَّسميةَ عن اللهِ تَعالى قَبلَ ذلك، فقال فيما يَجِبُ على المُؤمِنِ أن يَعتَقِدَه كذلك: (ويَعتَقِدُ أنَّ وضعَ التَّسميةِ عليه مُحالٌ؛ إذ كانتِ التَّسميةُ إنَّما جُعِلَت وسمًا يوسَمُ بها المَخلوقاتُ؛ ليكونَ الخَلقُ بها فُصولًا فُصولًا يَتَمَيَّزُ بها كُلُّ صورةٍ عن الصُّورةِ الأخرى حتَّى ينحفِظَ كُلُّ صِنفٍ منها، ويُمكِنُ للعَقلِ الحِكايةُ عنها إذا دَعَتِ الحاجةُ إليها، فيَكونُ بذلك ظُهورُ أشكالِ العالَمِ في أيِّ تَسميةٍ وُسِمَ بها، وهو مُتَعالي ليس له صورةٌ نَفسانيَّةٌ ولا عَقليَّةٌ، ولا طَبيعيَّةٌ ولا صِناعيَّةٌ، بل يَتَعالى بعِظَمِ شَأنِه وقوَّةِ سُلطانِه عن أن يوسَمَ بما يوسَمُ به أسبابُ خِلقَتِه وفُنونُ بَريَّتِه. وقدِ اتَّفَقَت فُحولُ العُلَماءِ على أنَّه تَعالى لم يَزَلْ ولا شَيءَ مَعَه، لا جَوهَرًا ولا عَرَضًا، فقد أظهَرَ الأشياءَ، ورَسَمَ ووَسَمَ الشَّيءَ بالأسماءِ ليَفتَرِقَ بَعضُها عن بَعضٍ، وهو يَتَعالى عن أن يوسَمَ بما في المُحدَثاتِ، وإنَّما ولهَتِ العُقولُ بما في الخِلقةِ فوَصَفَته بالأسماءِ عِندَ عَجزِها؛ فِرارًا مِنَ العَدَمِ)
[2815] ((تاج العقائد)) (ص: 26). .
وقد نَقَلَ الشَّهرَستانيُّ صورةً شامِلةً لمُعتَقدِهم في الإلَهيَّاتِ، ومِمَّا قاله عنهم: (قالوا في الباري تَعالى: إنَّا لا نَقولُ: هو مَوجودٌ، ولا لا مَوجودٌ، ولا عالِمٌ ولا جاهِلٌ، ولا قادِرٌ ولا عاجِزٌ. وكذلك في جَميعِ الصِّفاتِ؛ فإنَّ الإثباتَ الحَقيقيَّ يَقتَضي شَرِكةً بَينَه وبَينَ سائِرِ المَوجوداتِ في الجِهةِ التي أطلَقْنا عليه، وذلك تَشبيهٌ، فلم يَكُنِ الحُكمُ بالإثباتِ المُطلَقِ والنَّفيِ المُطلَقِ، بل هو إلَهُ المُتَقابِلينِ، وخالِقُ المُتَخاصِمينِ، والحاكِمُ بَينَ المُتَضادَّينِ. ونَقَلوا في هذا نَصًّا عن مُحَمَّدِ بنِ عَليٍّ الباقِرِ أنَّه قال: "لمَّا وهَبَ العِلمَ للعالِمينَ قيلَ: هو عالِمٌ، ولمَّا وهَبَ القُدرةَ للقادِرينَ قيلَ: هو قادِرٌ. فهو عالِمٌ قادِرٌ بمعنى أنَّه وهَبَ العِلمَ والقُدرةَ، لا بمَعنى أنَّه قامَ به العِلمُ والقُدرةُ، أو وُصِفَ بالعِلمِ والقُدرةِ". فقيلَ فيهم: إنَّهم نفاةُ الصِّفاتِ حَقيقةً، مُعَطِّلةُ الذَّاتِ عن جَميعِ الصِّفاتِ.
قالوا: وكذلك نَقولُ في القِدَمِ: إنَّه ليس بقديمٍ ولا مُحدَثٍ، بل القديمُ أمرُه وكَلِمَتُه، والمُحدَثُ: خَلقُه وفِطرَتُه. أبدَعُ بالأمرِ العَقلَ الأوَّلَ الذي هو تامٌّ بالفِعلِ، ثُمَّ بتَوَسُّطِه أبدَع النَّفسَ التَّالي الذي هو غَيرُ تامٍّ. ونِسبةُ النَّفسِ إلى العَقلِ إمَّا نِسبةُ النُّطفةِ إلى تَمامِ الخِلقةِ، والبَياضِ إلى الطَّيرِ، وإمَّا نِسبةُ الوَلَدِ إلى الوالِدِ، والنَّتيجةِ إلى المُنتِجِ. وإمَّا نِسبةُ الأنثى إلى الذَّكَرِ، والزَّوجِ إلى الزَّوجِ. قالوا: ولمَّا اشتاقَتِ النَّفسُ إلى كمالِ العَقلِ احتاجَت إلى حَركةٍ مِنَ النَّقصِ إلى الكَمالِ، واحتاجَت إلى آلةِ الحَركةِ، فحَدثَتِ الأفلاكُ السَّماويَّةُ، وتَحَرَّكَت حَركةً دَوريَّةً بتَدبيرِ النَّفسِ، وحَدَثَتِ الطَّبائِعُ البَسيطةُ بَعدَها. وتَحَرَّكَت حَركةَ استِقامةٍ بتَدبيرِ النَّفسِ أيضًا، فتَركَّبَتِ المَركَّباتُ مِنَ المَعادِنِ والنَّباتِ والحَيَوانِ والإنسانِ، واتَّصَلَتِ النُّفوسُ الجُزئيَّةُ بالأبدانِ، وكان نَوعُ الإنسانِ مُتَمَيِّزًا عن سائِرِ المَوجوداتِ بالاستِعدادِ الخاصِّ لفَيضِ تلك الأنوارِ، وكان عالَمُه في مُقابَلةِ العالَمِ كُلِّه.
وفي العالَمِ العُلويِّ عَقلٌ، ونَفسٌ كُلِّيٌّ، فوَجَبَ أن يكونَ في هذا العالَمِ عَقلٌ مُشَخِّصٌ هو كُلٌّ، وحُكمُه حُكمُ الشَّخصِ الكامِلِ البالِغِ، ويُسَمُّونَه النَّاطِقَ، وهو النَّبيُّ، ونَفسٌ مُشَخَّصةٌ، وهو كُلٌّ أيضًا، وحُكمُه حُكمُ الطِّفلِ النَّاقِصِ المُتَوَجِّهِ إلى الكَمالِ، أو حُكمُ النُّطفةِ المُتَوَجِّهةِ إلى التَّمامِ، أو حُكمُ الأنثى المُزدَوِجةِ بالذَّكَرِ، ويُسَمُّونَه الأساسَ، وهو الوَصيُّ.
قالوا: وكَما تَحَرَّكَتِ الأفلاكُ والطَّبائِعُ بتَحريكِ النَّفسِ والعَقلِ، كذلك تَحَرَّكَتِ النُّفوسُ والأشخاصُ بالشَّرائِعِ بتَحريكِ النَّبيِّ والوَصيِّ في كُلِّ زَمانٍ دائِرًا على سَبعةٍ سَبعةٍ حتَّى يَنتَهي إلى الدَّورِ الأخيرِ، ويَدخُلُ زَمانُ القيامةِ، وتَرتَفِعُ التَّكاليفُ، وتَضمَحِلُّ السُّنَنُ والشَّرائِعُ. وإنَّما هذه الحَركاتُ الفَلَكيَّةُ والسُّنَنُ الشَّرعيَّةُ لتَبلُغَ النَّفسُ إلى حالِ كمالِها، وكَمالُها بُلوغُها إلى دَرَجةِ العَقلِ واتِّحادُها به، ووُصولُها إلى مَرتَبَتِه فِعلًا، وذلك هو القيامةُ الكُبرى)
[2816] ((الملل والنحل)) (1/ 193، 194). .
وأصلُ هذا الاعتِقادِ عِندَ الإسماعيليَّةِ وسائِرِ فِرَقِ النُّفاةِ للأسماءِ والصِّفاتِ -كما ذَكَرَ
ابنُ تيميَّةَ- مَأخوذٌ مِنَ المُشرِكينَ والصَّابِئينَ مِنَ البَراهِمةِ والمُتَفَلسِفةِ ومُبتَدِعةِ أهلِ الكِتابِ الذين يَزعُمونَ أنَّ الرَّبَّ ليس له صِفةٌ ثُبوتيَّةٌ أصلًا، وهؤلاء أعداءُ إبراهيمَ الخَليلِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، من عَبَدةِ الكَواكِبِ
[2817] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/9). .
قال
ابنُ تيميَّةَ بَعدَ أن ذَكرَ مَنهَجَ السَّلَفِ في الإيمانِ باللهِ وأسمائِه وصِفاتِه: (وأمَّا مَن زاغَ وحادَ عن سَبيلِهم مِنَ الكُفَّارِ والمُشرِكينَ والذين أوتوا الكِتابَ، ومَن دَخَلَ في هؤلاء مِنَ الصَّابِئةِ والمُتَفَلسِفةِ والجَهميَّةِ والقَرامِطةِ والباطِنيَّة ونَحوِهم؛ فإنَّهم على ضِدِّ ذلك يَصِفونَه بالصِّفاتِ السَّلبيَّةِ على وَجهِ التَّفصيلِ، ولا يُثبِتونَ إلَّا وُجودًا مُطلَقًا لا حَقيقةَ له عِندَ التَّحصيلِ، وإنَّما يَرجِعُ إلى وُجودٍ في الأذهانِ يَمتَنِعُ تَحَقُّقُه في الأعيانِ، فقَولُهم يَستَلزِمُ غايَة التَّعطيلِ، وغايةَ التَّمثيلِ؛ فإنَّهم يُمَثِّلونَه بالمُمتَنِعاتِ والمعدوماتِ والجَماداتِ، ويُعَطِّلونَ الأسماءَ والصِّفاتِ تَعطيلًا يَستَلزِمُ نَفيَ الذَّاتِ، فغُلاتُهم يَسلُبونَ عنه النَّقيضَينِ، فيَقولونَ: لا مَوجودٌ ولا مَعدومٌ، ولا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ، ولا عالِمٌ ولا جاهِلٌ؛ لأنَّهم يَزعُمونَ أنَّهم إذا وصَفوه بالإثباتِ شَبَّهوه بالمَوجوداتِ، وإذا وصَفوه بالنَّفيِ شَبَّهوه بالمعدوماتِ، فسَلَبوا النَّقيضَينِ، وهذا مُمتَنِعٌ في بَداهةِ العُقولِ، وحَرَّفوا ما أنزل اللهُ مِنَ الكِتابِ، وما جاءَ به الرَّسولُ، فوَقَعوا في شَرٍّ مِمَّا فرُّوا منه؛ فإنَّهم شَبَّهوه بالمُمتَنِعاتِ؛ إذ سَلبُ النَّقيضَينِ كجَمعِ النَّقيضَينِ، كِلاهما مِنَ المُمتَنِعاتِ)
[2818] ((مجموع الفتاوى)) (3/ 7، 8). .
وقال أيضًا: (وإنَّما يُنكِرُ أن تَكونَ هذه الأسماءُ حَقيقةً النُّفاةُ مِنَ القَرامِطةِ الإسماعيليَّةِ الباطِنيَّةِ ونَحوُهم مِنَ المُتَفَلسِفةِ الذين يَنفونَ عن اللهِ الأسماءَ الحُسنى، ويَقولونَ: ليس بحَيٍّ ولا مَيِّتٍ، ولا عالِمٍ ولا جاهِلٍ، ولا قادِرٍ ولا عاجِزٍ، ولا مَوجودٍ لا مَعدومٍ، فهؤلاء ومَن ضاهاهم يَنفونَ أن تَكونَ له حَقيقةٌ، ثُمَّ يَقولُ بَعضُهم: إنَّ هذه الأسماءَ لبَعضِ المَخلوقاتِ، وإنَّها ليست له حَقيقةً ولا مَجازًا، وهؤلاء الذين يُسَمِّيهم المُسلِمونَ المَلاحِدةَ؛ لأنَّهم ألحَدوا في أسماءِ اللهِ وآياتِه، وكانوا عِندَ المُسلِمينَ أكفَرَ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى)
[2819] ((مجموع الفتاوى)) (5/ 197). .