المَبحَثُ الرَّابِعُ: الجانِبُ الفِكريُّ والدَّعويُّ وارتِباطُه بالجانِبِ السِّياسيِّ عِندَ الحَشَّاشينَ
نَجَحَ التَّيَّارُ الإسماعيليُّ في إقامةِ دَولةٍ كُبرى في المَغرِبِ، ولَكِنَّ هذا النَّجاحَ لم يَكُنْ في واقِعِ الأمرِ إلَّا مِنَ النَّاحيةِ السِّياسيَّةِ، أمَّا مِنَ النَّاحيةِ العَقائِديَّةِ فقد فشِلَ في نَشرِ عَقائِدِه وتَصَوُّراتِه بَينَ النَّاسِ فشلًا ذريعًا، لدَرَجةِ أنَّ كُلَّ أثَرٍ عَقائِديٍّ للإِسماعيليَّةِ في المَغرِبِ قدِ اندَرَسَ وزالَ بزَوالِ سَيطَرَتِهم السِّياسيَّةِ على هذه الرُّقعةِ من بلادِ الإسلامِ، وعلى خِلافِ ذلك تمامًا نَجِدُ أنَّ التَّيَّارَ الإسماعيليَّ قد حَقَّقَ في المَشرِقِ نجاحًا عَقائِديًّا وأخفَقَ سياسيًّا، فقدِ اندَمَجَ رِجالُ هذا التَّيَّارِ في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ مَعَ الأنظِمةِ السِّياسيَّةِ القائِمةِ وهادَنوها خَشيةَ المُلاحَقةِ والمواجَهةِ، ورَكَّزوا جُلَّ جُهودِهم في العَمَلِ الفِكريِّ؛ حَيثُ نَجَحوا في جَذبِ عَدَدٍ مِنَ العُلَماءِ والمُفَكِّرينَ، وصارَ لهم نُفوذٌ قَويٌّ في عَدَدٍ مِنَ المَراكِزِ العِلميَّةِ وقاموا بنَشرِ فلسَفةٍ خاصَّةٍ بهم تُؤَسِّسُ لمَذهَبِهم السِّياسيِّ والدِّينِيِّ، وتَضُمُّ أمشاجًا من فلسَفاتٍ مُتَعَدِّدةٍ، بالإضافةِ إلى عناصِرَ مِنَ الفِكرِ الإيرانيِّ الزَّرادُشتيِّ القديمِ.
وقد كان التَّرويجُ لهذا الفِكرِ على يَدِ ثَلاثةٍ من كِبارِ الفَلاسِفةِ الإسماعيليِّينَ
[3102] بالإضافةِ إلى تأثيرِ رسائلِ إخوانِ الصَّفا التي تُعتَبَرُ لدى بعضِ الباحثينَ المرجِعَ الفلسفيَّ الأوَّلَ للحركةِ الإسماعيليَّةِ. يُنظر: ((حقيقة إخوان الصفا)) للملاح. عاشوا أواخِرَ القَرنِ الثَّالِثِ وأوائِلَ القَرنِ الرَّابِعِ الهِجريَّينِ.
كان أوَّلَهم أبو عبدِ اللهِ بنُ أحمَدَ النَّسفيُّ، تِلميذُ أحَدِ كِبارِ الفَلاسِفةِ الإسماعيليِّينَ في خُراسانَ وهو الأميرُ الحُسَينُ بنُ عليٍّ المروَزيُّ.
وقد تَوَلَّى النَّسَفيُّ أمورَ الدَّعوةِ إلى المَذهَبِ بَعدَ وفاةِ شَيخِه الأميرِ، واستَطاعَ أن يَستَميلَ أحَدَ الأمَراءِ السَّامانيِّينَ الذي اعتَرَفَ بإمامةِ الفاطِميِّينَ، وأصبَحَ النَّسَفيُّ يُحَرِّكُ دَواليبَ الحُكمِ في هذه المِنطَقةِ، لَكِنَّ نَشاطَه لم يَدُمْ إلَّا فترةً قَصيرةً؛ حَيثُ قُبِضَ عليه وصَدرَ الحُكمُ بقَتلِه هو وكِبارِ رِجالِ الدَّعوةِ ومُعتَنِقيها، فكانت مِحنةً كبيرةً نَزَلَت بالحَركةِ الإسماعيليَّةِ وأدَّت إلى وقفِ نَشاطِها إلى أن أحياها الحَسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ من جَديدٍ.
واستَمَرَّ نَشاطُ الحَركةِ الفِكريُّ، وإن كان قليلًا، من خِلالِ مُؤَلَّفاتِ النَّسفيِ، ولا سيَّما كِتابُه (المَحصول) الذي كان أوَّلَ كِتابٍ في التَّنظيرِ العَقائِديِّ والبِناءِ الفَلسَفيِّ للمَذهَبِ الإسماعيليِّ.
وجاءَ بَعدَ النَّسفيِّ تِلميذُه الفَيلَسوفُ أبو يَعقوبَ إسحاقُ بنُ أحمَدَ السِّجِستانيُّ أوِ السِّجزيُّ، الذي قُتِلَ بتركستانَ سَنةَ 331هـ بسَبَبِ مُعتَقداتِه المُتَطَرِّفةِ وآرائِه الجَريئةِ.
والفَيلَسوفُ الإسماعيليُّ الثَّالِثُ أبو حاتِمٍ الرَّازيُّ
[3103] وهو غيرُ أبي حاتمٍ الرَّازيِّ المحدِّثِ الحافِظِ المعروفِ. كان مِنَ الأوائِل الذين وضَعوا الأسُسَ النَّظَريَّةَ للعَقيدةِ الإسماعيليَّةِ، كما استَطاعَ استِمالةَ بَعضِ الشَّخصيَّاتِ الكَبيرةِ إلى المَذهَبِ. ومِن مُؤَلَّفاتِه كِتابُ (أعلام النُّبوَّة) الذي عَرَضَ فيه لعَقائِدِ الإسماعيليَّةِ في الألوهيَّةِ والرُّسُلِ والنَّفسِ والزَّمانِ والمَكانِ، وغَير ذلك مِنَ المَسائِلِ.
والمُلاحَظُ في هذه الفَترةِ أنَّ نُفوذَ الحَركةِ الإسماعيليَّةِ فِكريًّا أخَذَ يَزدادُ ويَتَّسِعُ، لدَرَجةِ أنَّ الحَركةَ خَرَجَت مِنَ السِّرِّيَّةِ في العَمَلِ والتَّنظيمِ إلى العَلانيةِ فيهما، ولا أدَلَّ على ذلك من دُخولِها في حِواراتٍ ونِقاشاتٍ دارَت فيما بَينَ فلاسِفةِ الحَركةِ وبَينَ غَيرِهم من أصحابِ المَذاهِبِ المُختَلِفة.
وقدِ استَهدَفَتِ الحَركةُ الإسماعيليَّةُ من وراءِ السَّيطَرةِ الفِكريَّةِ الوُصولَ إلى السَّيطَرةِ السِّياسيَّةِ، لَكِنَّ النَّجاحَ لم يَكُنْ حَليفَها على هذا الصَّعيدِ وعانَت فشلًا ذريعًا في ذلك، وتَعَرَّضَت من جَرَّاءِ مُحاوَلَتِها تلك إلى اضطِهادٍ واسِعِ النِّطاقِ بَينَ السِّجنِ والنَّفيِ والقَتلِ.
ومَعَ تلك الانتِكاساتِ المُتَكَرِّرةِ، وبَعدَ أن استَنفَدتِ الدَّعوةُ الإسماعيليَّةُ جَميعَ الوَسائِلِ من أجلِ تَحقيقِ السَّيطَرةِ السِّياسيَّةِ، أصبَحَ مِنَ الضَّروريِّ البَحثُ عن أسلوبِ عَمَلٍ جَديدٍ. وهو العَمَلُ السِّرِّيُّ المُنَظَّمُ، وهذا ما فعَلَه الحَسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ مُؤَسِّسُ "الدَّعوةِ الإسماعيليَّةِ الجَديدةِ" أو "حَركةِ الحَشَّاشينَ" الذي وضَعَ خُطَّةً جَديدةً وفَعَّالةً، خصوصًا بَعدَ أن أخَذَتِ الإمبِراطوريَّةُ الفاطِميَّةُ تَلفِظُ أنفاسَها الأخيرةَ.
مُعتَقَداتُ طائِفةِ الحَشَّاشينَ:تَلتَقي مُعتَقداتُهم مَعَ مُعتَقداتِ الإسماعيليَّةِ عامَّةً، ومِن ذلك ضَرورةُ وُجودِ إمامٍ مَعصومٍ ومَنصوصٍ عليه، وبشَرطِ أن يَكونَ الابنَ الأكبَرَ للإِمامِ السَّابِقِ.
وكُلُّ الذين ظَهَروا من قادةِ الحَشَّاشينَ إنَّما يُمَثِّلونَ الحُجَّةَ والدَّاعيةَ للإِمامِ المَستورِ باستِثنِاء الحَسَنِ الثَّاني وابنِه فقدِ ادَّعَيا بأنَّهما إمامانِ من نَسلِ نِزارٍ.
وإمامُ الحَشَّاشينَ بالشَّامِ رَشيدُ الدِّينِ سِنان بنُ سُلَيمانَ قال بفِكرةِ التَّناسُخِ فضلًا عن عَقائِدِ الإسماعيليَّةِ التي يُؤمِنونَ بها، كما ادَّعى أنَّه يَعلَمُ الغَيبَ.
والحَسَنُ الثَّاني بنُ مُحَمَّدٍ: أعلَنَ قيامَ القيامةِ، وألغى الشَّريعةَ، وأسقَطَ التَّكاليفَ.
والحَجُّ لَدَيهم ظاهِرُه إلى البَيتِ الحَرامِ وحَقيقَتُه إلى إمامِ الزَّمانِ ظاهرًا أو مَستورًا.
التَّنظيمُ الدَّعويُّ عِندَ الحَشَّاشينَ:كان دُعاةُ الإسماعيليَّةِ يَعتَمِدونَ في نَشرِ عَقائِدِهم وأفكارِهم على تَنظيمٍ مُعَيَّنٍ للدَّعوةِ يَضُمُّ دُعاةً مَهَرةً على مَراتِبَ مُتَفاوِتةٍ، ولم تَكُنْ عَقائِدُهم تُلَقَّنُ للمُستَجيبِ دَفعةً واحِدةً، إنَّما كان يَتَلَقَّاها على دَرَجاتٍ، كُلُّ واحِدةٍ مُتَرَتِّبةٌ على السَّابِقةِ.
وكانت مَراتِبُ الدَّعوةِ قَبلَ الحَسَنِ بنِ الصَّبَّاحِ سَبعَ دَرَجاتٍ ثُمَّ زيدَت إلى عَشرٍ، وكان يُطلَقُ عليها «مَراتِبُ الحُدودِ المُؤَثِّرةِ في الأنفُسِ» ثَلاثٌ منها كُلِّيَّةٌ، وسَبعٌ منها تابِعةٌ.
فالثَّلاثُ الكُلِّيَّةُ هي:النَّاطِقُ: وله رُتبةُ التَّنزيلِ، ومُهِمَّتُه إفاضةُ البَركةِ بتَأسيسِ قَوانينِ العِبادةِ العَمَليَّةِ الظَّاهِرةِ بالتَّنزيلِ والشَّريعةِ.
الأساسُ: وله رُتبةُ التَّأويلِ، ومِن مُهِمَّاتِه تَأسيسُ قَوانينِ العِبادةِ العِلميَّةِ الباطِنيَّةِ بالتَّأويلِ.
الإمامُ: وله رُتبةُ الأمرِ وسياسةُ الأمَّةِ كافَّةً على سُنَنِ الدِّينِ، وليس من مَهامِّه أن يَقومَ بالدَّعوةِ بنَفسِه، بل يَتَوَلَّى تَوجيهَ سائِرِ الدُّعاةِ ويُرشِدُهم إلى نَشرِ الدَّعوةِ وتِلاوةِ مَجالِسِ الحِكمةِ.
أمَّا سبعُ المَراتِبِ التَّابِعةِ فهي باختِصارٍ على النَّحوِ التَّالي [3104] يُنظر: مراتِبُ الدُّعاةِ في فرقةِ الإسماعيليَّةِ من هذه الموسوعةِ. :البابُ: وله رُتبةُ إظهارِ تَأويلِ الكِتابِ وارتِضاءِ الآراءِ والمُعتَقداتِ والحُكمِ فيما كان حَقًّا أو باطلًا.
الحُجَّةُ: يَكونُ ذا مَهاراتٍ ومَواهِبَ حَربيَّةٍ وسياسيَّةٍ.
والحُجَجُ قِسمانِ: حُجَجُ النَّهارِ، وهم الذين يَدعونَ في زَمَنِ الظُّهورِ وفي مَناطِقِ النُّفوذِ الشِّيعيِّ. وحُجَجُ اللَّيلِ، وهم الذين يَدعونَ في زَمَنِ السَّترِ.
راعي البلاغِ: وله رُتبةُ الاحتِجاجِ وتَعريفِ البَلاغِ.
الدَّاعي المُطلَقُ: وله رُتبةُ تَعريفِ الحُدودِ العُلويَّةِ، وتَعليمِ مَراسِمِ العِبادةِ الباطِنيَّةِ.
الدَّاعي المحدودُ: وله رُتبةُ تَعريفِ الحُدودِ السُّفليَّةِ، وتَعليمِ مَراسِمِ العِبادةِ الظَّاهِرةِ.
المأذونُ المُطلَقُ: وله رُتبةُ أخذِ العَهدِ والميثاقِ.
المأذونُ المحدودُ: ويُدعى المُكاسِرَ، وله رُتبةُ جَذبِ الأنفُسِ المُستَجيبةِ، والهِدايةِ إلى الحَقِّ.
هذه هي مَراتِبُ الدَّعوةِ في الحَركةِ الإسماعيليَّةِ التَّقليديَّةِ، لَكِنْ بَعدَ أن تَمَّ للحَسَنِ بنِ الصَّبَّاحِ تَأسيسُ الدَّولةِ الإسماعيليَّةِ النِّزاريَّةِ في أَلَمُوتَ أجرى بَعضَ التَّغييراتِ في العَقائِدِ والنِّظامِ الاجتِماعيِّ والسِّياسيِّ تَتَناسَبُ مَعَ تَطَوُّرِ الأحوالِ الاجتِماعيَّةِ والسِّياسيَّةِ، فجَعَلَ نِظامَ الدَّعوةِ متطوِّرًا أيضًا فقَسَّمه إلى قِسمَينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: وخَصَّصَه للدِّعايةِ الدِّينِيَّةِ، ويَشتَمِلُ علىشيخِ الجَبَلِ: وهو نائِبُ الإمامِ ورَئيسُ الدَّعوةِ الجَديدةِ، وكان الحَسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ يُلَقِّبُ نَفسَه ويُلَقِّبُه أتباعُه بهذا اللَّقَبِ.
كبارُ الدُّعاةِ: وهم ثَلاثةٌ فقَط، وجَميعُهم نوَّابٌ لشَيخِ الجَبَلِ في مَناطِقَ ثَلاثٍ مُتَفَرِّقةٍ، يَضطَلِعونَ بالمَهامِّ العُظمى والأمورِ الصَّعبةِ الخاصَّةِ بالحَركةِ ومَصالِحها.
الدُّعاةُ: عَدَدُهم غَيرُ مَحدودٍ، يَنشَطونَ تَحتَ إشرافِ كِبارِ الدُّعاةِ ويَدعونَ النَّاسَ إلى العَقيدةِ الإسماعيليَّةِ النِّزاريَّةِ وَفقَ مُخَطَّطِ الحَسَنِ بنِ الصَّبَّاحِ.
والقِسمُ الثَّاني يشتَمِلُ على:الرَّفيقِ: وهو الذي يَكونُ قد سَلَكَ بَعضَ المَدارِجِ في أصولِ المَذهَبِ، وأشَبهُ بقائِدِ الفِرقةِ العَسكَريَّةِ اليَومَ، وكان يُشرِفُ على تَدريبِ فِدائيِّي الحَركةِ وتَوجيهِهم.
اللَّاصِقُ: وهو الذي يَكونُ قد أخَذَ البَيعةَ للإِمامِ ولم يَتَدَرَّجْ في أصولِ المَذهَبِ وليس له الحَقُّ في نَشرِ الدَّعوةِ.
الفِدائيُّ: وهو الأداةُ المُنَفِّذةُ والموكَّلةُ بالثَّأرِ والانتِقامِ والعُنفِ والاغتيالِ، ويَتِمُّ اختيارُ الفِدائيِّ على أساسِ إخلاصِه للحَركةِ ومَبادِئها، واستِعدادِه المُطلَقِ للتَّضحيةِ في سَبيلِ ذلك.
المُستجيبُ: وهو المُؤمِنُ حديثًا بأفكارِ ومُعتَقداتِ الحَركةِ، أي: الذي يَكونُ في طَورِ التَّدريبِ والتَّعليمِ.
العَوامُّ: وهؤلاء لا يَتَلَقَّونَ شيئًا مِنَ التَّعاليمِ، وإنَّما يُستَعمَلونَ كآلاتٍ صَمَّاءَ فقَط، يُخدَعون عَبرَ مَراحِلَ مُتَعاقِبةٍ مِنَ الحَطِّ بعَقليَّاتِهم، وفي آخِرِ تلك المَراحِلِ يُكشَفُ لهم عن الكُفرِ الكامِلِ والمُريعِ.
ومَراتِبُ الدُّعاةِ والرِّفاقِ والفِدائيِّينَ في الحَركةِ شَبيهةٌ بثَلاثِ مَراتِبَ في الماسونيَّةِ هي: كِبارُ البَنَّائينَ، ورِفاقُ النَّهضةِ، والصِّبيةُ المُبتَدِئونَ.