المَبحَثُ السَّادِسُ: حَركةُ الحَشَّاشينَ في سوريا
لم تَكُنِ استِراتيجيَّةُ الحَشَّاشينَ في سوريا تَختَلِفُ عن استِراتيجيَّتِهم في فارِسَ؛ حَيثُ تَعتَمِدُ على نَفسِ الوَسائِلِ من أجلِ تَحقيقِ نَفسِ النَّتائِجِ.
واستغلالًا للوَضعِ القائِمِ الذي كان يَتَّسِمُ بالفَوضى الاجتِماعيَّةِ التي أدَّى إليها دُخولُ السَّلاجِقةِ، ثُمَّ الصِّراعُ الذي كان قائمًا بَينَ حُكَّامِ المَناطِقِ، حاوَلَ الحَشَّاشونَ في أثناءِ ذلك أن يَستَولوا على قِلاعٍ وحُصونٍ لاستِخدامِها كقَواعِدَ خَلفيَّةٍ لحَمَلاتِهم الإرهابيَّةِ في مواجَهةِ الخُصومِ.
فقامَ الحَشَّاشونَ بتَجميعِ النَّاسِ الذين يَقطُنونَ المَناطِقَ الجَبَليَّةَ وإثارةِ الحَميَّةِ والعاطِفةِ الشِّيعيَّةِ فيهم من أجلِ تَجنيدِهم في صُفوفِ تَنظيمِهم، كما عَقدوا بَعضَ التَّحالُفاتِ المَحدودةِ والمُؤَقَّتةِ التي كانت تَبدو في صالِحِهم مَعَ بَعضِ الحُكَّامِ المَحَلِّيِّينَ.
كانت مُهِمَّةُ الحَشَّاشينَ صَعبةً للغايةٍ، ورُبَّما كان السَّبَبُ في ذلك أنَّ الدَّعوةَ إلى العَقيدةِ الإسماعيليَّةِ في سوريا بَدَأت بدُعاةٍ لَيسوا من جِنسِ أهلِها، فكان مُعظَمُهم مِنَ الفُرسِ؛ لذلك كان تَجاوُبُ الجَماهيرِ مَعَهم ضَعيفًا، ومَعَ ذلك فقد حَقَّقَ الحَشَّاشونَ أوَّلَ انتِصارٍ لهم بَعدَ نِصفِ قَرنٍ تقريبًا مِنَ الجُهدِ والعَمَلِ المُتَواصِلَينِ، وحَصَلوا على مَجموعةٍ مِنَ المَراكِزِ القَويَّةِ بوَسَطِ سوريا.
كان الحَكيمُ المَنجِّمُ
[3116] هو أسعَدُ أبو القنجِ الباطِنيُّ، المَعروفُ بالحَكيمِ المُنجِّمِ. أوَّلُ وأكبَرُ دُعاةِ الحَشَّاشينَ في بلادِ الشَّامِ. قال ابنُ القلانسيِّ في حَوادِثِ سَنةِ 476هـ: (وقد كان المَعروفُ بالحَكيمِ المُنجِّمِ الباطِنيِّ صاحِبِ المُلكِ فخرِ المُلوكِ رِضوانَ صاحِبِ حَلَبَ أوَّلَ مَن أظهَرَ مَذهَبَ الباطِنيَّةِ في حَلَبَ والشَّامِ، وهو الذي نَدَبَ الثَّلاثةَ النَّفَرِ لقَتلِ جَناحِ الدَّولةِ بحِمصَ ووَرد الخَبَرُ بهَلاكِه بَعدَ الحادِثةِ بأربَعةَ عَشَرَ يومًا). ((ذيل تاريخ دمشق)) (ص: 230). ويُنظر: ((تاريخ السلاجقة في بلاد الشام 115- 174) لطقوش (ص: 172). هو الدَّاعيَ الكَبيرَ الذي يَقودُ الحَركةَ في سوريا ويوَجِّهُ تَحَرُّكاتِ عناصِرِها، وقد تمَكَّنَ مِنَ التَّحالُفِ مَعَ حاكِمِ حَلَبٍ، كما استَغَلَّ هذا الدَّاعي تَوَتُّرَ العَلاقاتِ بَين حاكِمِ حَلَبٍ وبَقيَّةِ حُكَّامِ سوريا وخاصَّةً حاكِمَي دِمَشقَ وحِمصَ، وقامَ بمُناوَرةٍ ذَكيَّةٍ؛ حَيثُ أقنَعَ حاكِمَ حَلَبٍ أنَّ حاكِمَي دِمَشقَ وحِمصَ يَحشُدانِ الجُيوشَ استعدادًا لغَزوِ إمارَتِه، فأظهَرَ الحاكِمُ العَداءَ ضِدَّهما وأبدى رَغبَته في التَّعاوُنِ مَعَ الحَشَّاشينَ، وكانت أوَّلُ بادِرةٍ لذلك أن جَعَلَ جَميعَ حاشيَتِه منهم، وتَمَكَّنَ الحَشَّاشونَ على إثرِ ذلك مِنَ الخُروجِ إلى النُّورِ، والنَّشاطِ علنًا، فقد وجَدوا تُربةً خِصبةً للعَمَلِ السِّياسيِّ والدَّعَويِّ معًا، خاصَّةً وأنَّ المَدينةَ كانت غالِبيَّةُ سُكَّانِها مِنَ الشِّيعةِ الاثنَي عَشريَّةِ، وهم أقرَبُ إلى إسماعيليَّةِ أَلَمُوتَ من أيَّةِ فِرقةٍ أخرى.
ومِن جَرَّاءِ ذلك تَعرَّض حاكِمُ حَلَبٍ لانتِقادٍ لاذِعٍ من صِهرِه حاكِمِ حِمصَ، ودارَت بَينَهما حَربٌ انتَهَت بهَزيمةِ حاكِمِ حَلَبٍ، الذي فرَّ خارِجَ حُدودِ إمارَتِه ودَبَّرَ مُؤامَرةً مَعَ الدَّاعيةِ الحَكيمِ المَنجِّمِ لاغتيالِ حاكِمِ حِمصَ والانتِقامِ منه، وتَمَكَّن بَعضُ الفِدائيِّينَ الذين كانوا يَلبَسونَ زيَّ الصُّوفيَّةِ مِنَ الهُجومِ عليه واغتيالِه وهو يُؤَدِّي صَلاةَ الجُمعةِ في المَسجِدِ.
ولم يَبقَ زَعيمُ الحَركةِ الحَكيمُ المَنجِّمُ على قَيدِ الحَياةِ طويلًا إذ توُفِّيَ بَعدَ فترةٍ قَصيرةٍ من اغتيالِ حاكِمِ حِمصَ، ثُمَّ تَعاقَبَ زَعامةَ الحَركةِ عَدَدٌ مِنَ الدُّعاةِ منهم أبو طاهِرٍ الصَّائِغُ، ثُمَّ بهرامُ، وهكذا إلى أن تَسَلَّم سِنان راشِد الدِّينِ المُلَقَّبُ بشَيخِ الجَبَلِ قيادةَ الطَّائِفةِ، وكان عَهدُ سِنانَ يُمَثِّلُ العَصرَ الذَّهَبيَّ لحَركةِ الحَشَّاشينَ في سوريا، كما أنَّ سِنانَ كان أبرَزَ زَعيمٍ تَشهَدُه الحَركةُ، يُشبِه في إدارَتِه للحَركةِ وقُدُراتِه في مواجَهةِ الخُصومِ زَعيمَ الحَركةِ الأوَّلِ الحَسَنَ الصَّبَّاحَ.
وبَعدَ ثَلاثينَ سَنةَ قَضاها سِنانُ شَيخُ الجَبَلِ في قيادةِ حَركةِ الحَشَّاشينَ بالشَّامِ وافَته المَنيَّةُ سَنةَ 588هـ.
وبمَوتِ سِنانَ شَيخِ الجَبَلِ دَخَلَتِ الحَركةُ مَرحَلةَ الضَّعفِ، بالرَّغمِ من أنَّ خُلَفاءَه ظَلُّوا أوفياءَ لمَنهَجِه، فكانوا يُمارِسونَ نَفسَ السِّياسة، ويَجعَلونَ مِنَ الاغتيالِ الوَسيلةَ الوَحيدةَ لإِثباتِ الوُجودِ ومُقاوَمةِ الخُصومِ، وتَمَكَّنوا تَحتَ التَّهديدِ والوَعيدِ مِنَ الحُصولِ على الجِزيةِ خاصَّةً مِنَ الأمَراءِ الصَّليبيِّينَ.
وعِندَما دَخَلَ التَّتارُ الشَّامَ عَمِلوا على القَضاءِ على الحَشَّاشينَ؛ إذ شَنُّوا هجومًا واسِعَ النِّطاقِ على مُختَلِفِ قِلاعِهم، وتَمَكَّنوا على إثرِ ذلك مِنَ السَّيطَرةِ على بَعضِ القِلاعِ الهامَّةِ في المِنطَقةِ، ولَكِن سُرعانَ ما رَدَّتِ الحَركةُ بقوَّةٍ واستَرجَعَت بَعضَ ما ضاعَ منها من قِلاعٍ.
وفي هذه الفَترةِ كان السُّلطانُ المَملوكيُّ الظَّاهِرُ بِيبَرس يَقودُ حربًا ضِدَّ الصَّليبيِّينَ والمَغولِ الوَثَنيِّينَ، وكان هَدَفُه تَحريرَ الشَّرقِ الإسلاميِّ من هذا التَّهديدِ المُزدَوَجِ، وقد شَدَّدَ قَبضَتَه على الحَشَّاشينَ فأقَرُّوا له بالخُضوعِ والطَّاعةِ، وأمَرَ بيبَرس بجَمعِ الضَّرائِبِ والرُّسومِ التي تُدفَعُ إلى الحَشَّاشينَ، ولم يَكُنْ باستِطاعةِ الحَشَّاشينَ الذين أُضعِفوا في سوريا وأثبِطَت هِمَّتُهم نَتيجةَ مَصيرِ إخوانِهم الفارِسيِّينَ أن يُبدوا مُقاوَمةً، فقَبِلوا جَميعَ إجراءاتِ بيبَرس، حتَّى أصبَحَ بيبَرس هو الذي يُعَيِّنُ رُؤَساءَ الحَشَّاشينَ ويَخلَعُهم كما يُريدُ، وأصبَحَ رِجالُ هذه الطَّائِفةِ وأتباعُها تَحتَ تَصَرُّفِه المُباشِرِ.
ومُنذُ ذلك الوَقتِ صارَ الحَشَّاشونَ مُجَرَّدَ مَجموعاتٍ صَغيرةٍ تَمَركَزَت في مَناطِقَ مُعَيَّنةٍ، ولم يَعُدْ لها أيَّةُ أهَمِّيَّةٍ أو تأثيرٍ على مَجرى الحَوادِثِ، ولم يَعودوا يَظهَرونَ في صَفَحاتِ التَّاريخِ حتَّى أوائِلِ القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ عِندَما عُرِفَ أنَّهم في نِزاعٍ دائِمٍ بَينَهم، ويبلُغُ عَدَدُهم في الوَقتِ الحاضِرِ بضعةَ آلافِ شَخصٍ، يَدينُ البَعضُ منهم بالوَلاءِ لآغاخانَ كإِمامٍ لهم، ولهم أتباعٌ إلى الآنِ في إيرانَ، وسوريا، ولُبنانَ، واليَمَنِ، ونَجرانَ، والهِندِ، وفي أجزاءٍ من أواسِطِ ما كان يُعرَفُ بالاتِّحادِ السُّوفيِتيِّ في السَّابِقِ.
وقد ظَلَّ الحَشَّاشونَ في بلادِ الشَّامِ على صِلةٍ وثيقةٍ بالصَّليبيِّينَ يَتَآمَرونَ على المُسلِمينَ من أهلِ السُّنَّةِ، ولا يَترُكونَ فُرصةً تَلوحُ للِانتِقامِ منهم إلَّا اهتَبَلوها، فوَجَّهوا كُلَّ عَمَليَّاتِهم ومُؤامَراتِهم ضِدَّ قادةِ الجَبهةِ الإسلاميَّةِ ضِدَّ الصَّليبيِّينَ والمُؤَسَّساتِ السُّنِّيَّةِ في الشَّامِ.
ومِنَ الأدِلَّة التي تُثبِتُ حَقيقةَ التَّعاوُنِ بَينَ الباطِنيَّةِ والصَّليبيِّينَ أنَّ زَعيمَ الباطِنيَّةِ في الشَّامِ راشِد الدِّينِ سِنان أرسَلَ في عامِ 569هـ وفدًا إلى أملريك مَلِكِ بَيتِ المَقدِسِ يَقتَرِحُ عليه اتِّفاقًا بَينَ الطَّرَفَينِ ضِدَّ القائِدِ المُسلِمِ المَلِكِ العادِلِ نور الدِّينِ مَحمود، ولَوَّح سِنانُ لمَلِكِ بَيتِ المَقدِسِ بأنَّه وقَومَه يُفَكِّرونَ بالتَّحَوُّلِ نَحوَ النَّصرانيَّةِ، وطَلَب منه مُقابِلَ ذلك إلغاءَ الضَّريبةِ التي فرَضَتها فُرسانُ الدَّاويةِ الصَّليبيِّينَ على بَعضِ القُرى الإسماعيليَّةِ الباطِنيَّةِ في الشَّامِ، ولمَّا عادَ وفدُ الباطِنيَّةِ الحشيشيَّةِ مِنَ القُدسِ سَقَطَ في كمينٍ لفُرسانِ الدَّاويةِ، فقَتَلَ الدَّاويةُ جَميعَ أفرادِ الوَفدِ فأثاروا بذلك غَضَبَ أملريك مَلِكِ بَيتِ المَقدِسِ الصَّليبيِّ، فبَعَثَ بكِتابِ تَوبيخٍ للجُناةِ، وطَلَب من مُقدَّمِ الدَّاويةِ سَجْنَهم، كما أرسَلَ إلى سِنانَ مُقدَّمِ الباطِنيَّةِ معتَذِرًا، وأعلمَه أنَّ الجُناةَ نالوا عِقابَهم، فكان لهذا العَمَلِ أثَرُه الذي زادَ في إبقاءِ العَلاقاتِ بَينَ الطَّرَفَينِ
[3117] يُنظر: ((الحشاشون)) للويس (ص130)، ((الحركة الصليبية)) لعاشور (2/708، 709)، ((تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين)) لفيليب حتى (2/247). .
أمَّا عن عَلاقةِ الباطِنيَّةِ النِّزاريَّةِ باليَهودِ، فيَبدو أنَّها لا تَقِلُّ دَرَجةً عن عَلاقَتِهم بالصَّليبيِّينَ، بل كانت أقوى؛ حَيثُ كان الطَّرَفانِ مُمتَزِجَينِ ببَعضِهما البَعض، فلقد كان عَدَدٌ كبيرٌ مِنَ اليَهودِ يَعمَلُ بَينَ صُفوفِ الحَركةِ الباطِنيَّةِ النِّزاريَّةِ في الشَّامِ لخِدمةِ أهدافِها، وقد ذَكرَ الرَّحَّالةُ اليَهوديُّ بنيامين الذي زارَ مِنطَقةَ الشَّامِ حَوالَي عامَ 569هـ بأنَّه كان يُقيمُ بَينَ الإسماعيليَّةِ في الشَّامِ نَحوُ أربَعةِ آلافِ يَهوديٍّ، يَسكُنونَ الجِبالَ مِثلَهم، ويُرافِقونَهم في غَزَواتِهم وحُروبِهم، وهم أشِدَّاءُ لا يَقدِرُ أحَدٌ على قِتالِهم، وبَينَهم العُلَماءُ التَّابِعونَ لنُفوذِ رَأسِ الجالوتِ ببَغدادَ
[3118] يُنظر: مقال ((صلاح الدين وموقفه من القوى المناوئة في بلاد الشام)) لعبد الكريم ((مجلة الدارة)) (العدد الثاني/ص: 163)، ((سياسة صلاح الدين في بلاد مصر والشام والجزيرة)) لعبد القادر (ص: 377). .
ومِنَ الأدِلَّةِ الأخرى التي تُثبِتُ حَقيقةَ التَّعاوُنِ بَينَ الإسماعيليَّةِ الباطِنيَّةِ واليَهودِ ضِدَّ المُسلِمينَ السُّنَّةِ أنَّ كاتِبَ الرَّسائِلِ الباطِنيَّةِ الموَجَّهةِ إلى مَلِكِ بَيتِ المَقدِسِ الصَّليبيِّ بشَأنِ الاتِّفاقِ مَعَه للزَّحفِ على مِصرَ، وقيامِ الباطِنيَّةِ في الدَّاخِلِ بثَورةٍ ضِدَّ
صَلاحِ الدِّينِ وقَتلِه وقَتلِ أتباعِه، وأخذِ مِصرَ منه، وإعادةِ الدَّولةِ الفاطِميَّةِ مَرَّةً أخرى؛ كان كاتِبُ هذه الرَّسائِلِ يَهوديًّا
[3119] ((مفرج الكروب)) لابن واصل (1/175)، (الكامل) لابن الأثير (11/346). .
ومِن هذا يَتَّضِحُ أنَّ الطَّوائِفَ الباطِنيَّةَ كالإسماعيليَّةِ كانت مَواقِفُهم دائمًا مُناوِئةً للإِسلامِ والمُسلِمينَ، بل تَعاوَنوا في كُلِّ الأوقاتِ مَعَ أعداءِ الإسلامِ والمُسلِمينَ من صَليبيِّينَ ويَهودٍ
[3120] ((جهاد المسلمين في الحروب الصليبية)) لعاشور (ص: 185). .
لم يَقِفِ الباطِنيَّةُ في الشَّامِ عِندَ حَدِّ التَّعاوُنِ مَعَ الصَّليبيِّينَ بعَقدِ الاتِّفاقاتِ بَينَ الطَّرَفَينِ، واغتيالِ القادةِ المُسلِمينَ الذين هَبُّوا للجِهادِ في سَبيلِ اللهِ ضِدَّ الصَّليبيِّينَ. بل تَعَدَّى الأمرُ إلى أبعَدَ من ذلك؛ فلقد أصبَحَ الباطِنيُّونَ يَخوضونَ مَعَ الصَّليبيِّينَ المَعارِكَ الحَربيَّةَ جَنبًا إلى جَنبٍ ضِدَّ المُسلِمينَ، فعِندَما عَزَمَ المَلِكُ العادِلُ نور الدِّينِ مَحمود في عامِ 543هـ تَوجيهَ ضَرَباتِه إلى الصَّليبيِّينَ ومُهاجَمةِ مَناطِقِهم، تَعاوَنَ الباطِنيَّةُ مَعَ الصَّليبيِّينَ ضِدَّ هذا الجِهادِ، ووَقَفوا مَعَ الصَّليبيِّينَ ضِدَّ حَركةِ نور الدِّينِ الجِهاديَّةِ هذه؛ ففي عامِ 544هـ أغارَ نور الدِّينِ مَحمود على الإقليمِ المُحيطِ بقَلعةِ حارِم على الضَّفَّةِ الشَّرقيَّةِ لنَهرِ العاصي، وهي تابِعةٌ للصَّليبيِّينَ، وطَلَبَ من مُعينِ الدِّينِ أنر المَعونةَ والمُساعَدةَ لقِتالِ الصَّليبيِّينَ، فأمَدَّه مُعينُ الدِّينِ بقوَّةٍ من فُرسانِه على رَأسِهم الأميرُ مُجاهِد الدِّينِ بزان بن مامين
[3121] يُنظر: ((ذيل تاريخ دمشق)) لابن القلانسي (ص: 472). وعِندَما تَركَ نورُ الدِّينِ حارِم مُكتَفيًا بتَدميرِ ما حَولها من ضِياعٍ، أخَذَ يُحاصِرُ قَلعةَ إِنِّبَ
[3122] إِنِّبُ: أحدُ الحُصونِ في نواحي حَلَبَ. يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (1/258). ، فلما عَلِم ريموند صاحِبُ أنطاكيَةَ بمُحاصَرةِ نور الدِّينِ لتلك القَلعةِ خَرَجَ على رَأسِ قوَّةٍ من رِجالِه للتَّصَدِّي لنورِ الدِّينِ وإرجاعِه عنها
[3123] يُنظر: ((التاريخ الباهر)) لابن الأثير (ص: 98، 99). ، فالتَقى الفَريقانِ في مَعرَكةٍ بالقُربِ من إِنِّبَ وأحاطَ نورُ الدِّينِ مَحمود بريموندَ ورِجالِه فأبادَهم جميعًا ولم يُبقِ منهم أحدًا، وكان من جُملةِ القَتلى ريموند صاحِبُ أنطاكيَةَ، وعَليُّ بنُ وفاء زَعيمُ الباطِنيَّةِ الذي كان مرافِقًا للصَّليبيِّينَ ومحاربًا مَعَهم في هذه المَعرَكة
[3124] يُنظر: ((الحشاشون)) للويس (ص: 125، 126)، ((الحركة الصليبية)) لعاشور (2/622). .
وفي أثناءِ رِحلةِ هِنري دي شامبني مَلِكِ مَملَكةِ بَيتِ المَقدِسِ إلى أنطاكيَةَ لتَصفيةِ النِّزاعِ بَينَ أنطاكيَةَ وأرمينيَّةَ اتَّصَلَ هِنري بالباطِنيَّةِ في مَناطِقِ نُفوذِهم، وعَقدَ مَعَهم أواصِرَ التَّحالُفِ والصَّداقةِ، وانتَهَزَ زَعيمُ الباطِنيَّةِ فُرصةَ مُرور هِنري دي شامبني بأراضيه إلى أنطاكيَةَ، فحاوَلَ أن يُجَدِّدَ ما كان بَينَ الباطِنيَّةِ والصَّليبيِّينَ من تَحالُفٍ فاعتذَرَ لهنري عن مَقتَلِ كونراد دي مونتفرات ودَعاه لزيارةِ الباطِنيَّةِ في حِصنِ الكَهفِ، فحَرَصَ الباطِنيَّةُ أثناءَ تلك الزِّيارةِ على أن يَبهَروا أنظارَ مَلِكِ الصَّليبيِّينَ بقوَّتِهم وثَروَتِهم، فقدَّموا إليه كثيرًا مِنَ الهَدايا، كما عَرَضوا عليه مُحالَفَتَهم واستِعدادَهم لقَتلِ مَن يَرغَبُ في قَتلِه
[3125] ((الحركة الصليبية)) لعاشور (2/872-873). .
قال دُرَيد عبد القادر: (يَعتَقِدُ المُؤَرِّخُ كاهين أنَّ هناك عَلاقةً بَينَ الإسماعيليَّةِ وجَماعةِ الإسبتاريِّينَ الصَّليبيِّينَ الذين أصبَحوا حُماةَ الإسماعيليَّةِ، وأنَّ أولئك الذين اغتيلوا مِنَ الصَّليبيِّينَ إنَّما كانوا أعداءَ الإسبتاريِّينَ
[3126] مِنَ الأدِلَّةِ التَّاريخيَّةِ التي أورَدَها (كاهين) على إثباتِ وُجودِ عَلاقةٍ بَينَ الإسماعيليَّةِ والإسبتاريِّينَ الصَّليبيِّينَ ما ذَكَرَه في كِتابِه ((la Syrie du-nord)): - في مِنطَقةِ الرَّها كانت هُناكَ أملاكٌ لفُرسانِ الإسبتاريَّةِ، وكان للإِسماعيليَّةِ في الرَّها أيضًا مَركَزٌ لدَعوَتِهم، وكان ذلك المَركَزُ تَحتَ سُلطانِ الإسبتاريَّةِ إداريًّا في القَرنِ 13م. - قَتلُ الأميرِ الصَّليبيِّ ريموند سَنةَ 1213م في كنيسةِ انطرطوس بيَدِ الإسماعيليَّةِ الباطِنيَّةِ الذين كانوا مَدفوعينَ من قِبَلِ الإسبتاريَّةِ، وكَذلك مَقتَلُ بوهيموند الرَّابِعِ الذي قُتِلَ بسَبَبِ الاختِلافاتِ التي كانت بَينَه وبَينَ جَماعةِ الإسبتاريَّةِ، الذين استَخدَموا الإسماعيليَّةَ الباطِنيَّةَ لقَتلِه، وقد أكَّدَ كاهينُ أنَّ أولئك الإسماعيليَّةَ كانوا مَعَ جَماعةِ الإسبتاريَّةِ حِلفًا واحِدًا ضِدَّ المُسلِمينَ. يُنظر: ((سياسة صلاح الدين في بلاد مصر والشام والجزيرة)) لدريد عبد القادر (ص: 376). . وقد أيَّدَ المُؤَرِّخُ الإنجِليزيُّ هدجسون وُجودَ مِثلِ تلك العَلاقةِ، وأعتَقِدُ بأنَّ هناك إشاراتٍ واضِحةً تَدُلُّ على ذلك)
[3127] ((سياسة صلاح الدين)) (ص: 376). .
وبَعدَ قيامِ دَولةِ المَماليكِ في مِصرَ وعَقدِ الصُّلحِ بَينَهم وبَينَ الأيُّوبيِّينَ في الشَّامِ لم يعُدْ هناك أيُّ شاغِلٍ يشغَلُ الطَّرَفينِ غَيرُ الجِهادِ ضِدَّ الصَّليبيِّينَ، فاجتَمَعَت جُهودُهم وقُواهم وأخذَ كُلُّ واحِدٍ منهم يعمَلُ مِن عِندِه في حَربِ الصَّليبيِّينَ، وفي المُقابِلِ وأمامَ هذا الاتِّفاقِ بَينَ مِصرَ والشَّامِ، قامَ لويس التَّاسِعُ قائِدُ الصَّليبيِّينَ بتَنظيمِ الدِّفاعِ عن المُمتلَكاتِ والبُلدانِ الصَّليبيَّةِ فقامَ بتَحصينِ المُدُنِ والمَوانِئِ الصَّليبيَّةِ بتَحصيناتٍ حَربيَّةٍ ضَخمَةٍ حتَّى تَصمُدَ في وجهِ الهَجَماتِ والغاراتِ الإسلاميَّةِ، ولكي يُكمِلَ لويسُ التَّاسِعُ نِظامَه الدِّفاعيَّ عن المُمتلَكاتِ الصَّليبيَّةِ في بلادِ الشَّامِ سَعى إلى عَقدِ اتِّفاقيَّاتٍ وتَحالُفاتٍ واسِعَةِ النِّطاقِ مَعَ أعداءِ المُسلمينَ السُّنَّةِ في الشَّامِ، فحاول التَّحالُفَ مَعَ الباطِنيَّةِ الشِّيعَةِ الحَشَّاشينَ مِن ناحيةٍ، ومَعَ المَغولِ مِن ناحيةٍ أُخرى؛ حتَّى يتَحَقَّقَ له بهذا التَّحالُفِ نَوعٌ مِن التَّوازُنِ بَينَ الصَّليبيِّينَ مِن جِهَةٍ والمَماليكِ والأيُّوبيِّينَ مِن جِهَةٍ ثانيةٍ. وعِندَما عَلِمَ شَيخُ الجَبَل -زَعيمُ الحشَّاشينَ في بلادِ الشَّامِ- بوُصولِ لويسَ التَّاسِعِ إلى الشَّامِ أرسَل إليه يطلُبُ مِنه عَقدَ نَوعٍ مِن الارتِباطِ والتَّفاهمِ بَينَ الطَّرَفينِ، ويبدو أنَّ الباطِنيَّةَ أرادوا مِن وراءِ ذلك أن يُؤمِّنوا أنفُسَهم تِجاهَ المَوقِفِ الجَديدِ النَّاشِئِ عن قيامِ دَولةِ المَماليكِ في مِصرَ ووُقوفِها إلى جانِبِ الأيُّوبيِّينَ في الجِهادِ ضِدَّ الصَّليبيِّينَ عن طَريقِ عَقدِ تَحالُفٍ مَعَ الصَّليبيِّينَ بالشَّامِ، فأرسَل شَيخُ الجَبَلِ زَعيمُ الباطِنيَّةِ بَعضَ الهَدايا إلى لويسَ التَّاسِعِ مَلكِ فرَنسا فرَدَّ عَليه مَلكُ فرَنسا لويسُ التَّحيَّةَ بأحسَنَ مِنها؛ مِمَّا أدَّى إلى تَقويةِ أواصِرِ التَّحالُفِ بَينَ الطَّرَفينِ. وأثناءَ الغَزوِ المَغوليِّ الذي استَهدَف المَمالِكَ الإسلاميَّةَ والخِلافةَ العَبَّاسيَّةَ في بَغدادَ رَأى الإسماعيليَّةُ الباطِنيَّةُ أنَّ مَطامِعَ المَغولِ لا تَقِفُ عِندَ حَدٍّ، وأنَّ فُتوحاتِهم مُستَمِرَّةٌ، فخافوا خَطَرَهم وصَمَّموا على مُقاومَتِهم فأخَذوا يُرسِلونَ رُسُلَهم إلى إنجِلتِرا وفرَنسا سَنَةَ 637ه طالبينَ مَعونَةَ الأورُبِّيِّينَ الذين عَرفوهمَ إبَّانَ الحُروبِ الصَّليبيَّةِ، لكِنَّهم لم يَلقَوا مُجيبًا، ويشهَدُ بذلك ما قاله أُسقُفُّ مَدينَةِ ونشِستِر: (دَعْ هؤلاء الكِلابَ يأكُلْ بَعضُهم بَعضًا حتَّى يُقضى عَليهم نِهائيًّا، وعِندَئِذٍ سَوف نُقيمُ على أنقاضِهم الكنيسَةَ الكاثوليكيَّةَ العالميَّةَ، فتَكونُ حَقًّا راعيًا واحِدًا وقَطيعًا واحِدًا)
[3128] يُنظر: ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) للمقريزي (1/القسم 2/ص: 382) حاشية رقم (4). .