المَطلَبُ الأوَّلُ: أُلوهيَّةُ الحاكِمِ عِندَ الدُّروزِ
إنَّ أهَمَّ عَقيدةٍ في كُتُبِ ورَسائِلِ حَمزةَ بنِ عَليٍّ وغَيرِه مِن دُعاةِ الدُّروزِ أنَّ للحاكِمِ بأمر اللَّهِ حَقيقةً لاهوتيَّةً لا تُدرَكُ بالحَواسِّ ولا بالأوهامِ، ولا تُعرَفُ بالرَّأيِ ولا بالقياسِ، ومَهما حاولَ الإنسانُ أن يُفكِّرَ فيه لمعرفةِ كُنْهِه فإنَّها تَكونُ مُحاولةً فاشِلة؛ لأنَّ لاهوتَه ليس له مَكانٌ، ولكن لا يخلو مِنه مَكانٌ، وليس بظاهرٍ كما أنَّه ليس بباطِنٍ!
ولا يوجَدُ اسمٌ مِنَ الأسماءِ يُمكِنُ أن يُطلَقَ عليه؛ لأنَّه لا يدخُلُ تَحتَ الأسماءِ؛ إذ لا يتَّصِفُ بصِفاتٍ، ولا يُمكِنُ التَّعبيرُ عنه بلُغةٍ مِنَ اللُّغاتِ.
وهَكذا يتَّفِقُ ذِكرُ التَّوحيدِ في رَسائِلِ الدُّروزِ وحَديثَهم عن لاهوتيَّةِ المَعبودِ تَمامَ الاتِّفاقِ مَعَ ما ورَدَ في كُتُبِ الدَّعوةِ الإسماعيليَّةِ عنِ اللَّهِ سُبحانَه وتعالى؛ ففي كِتابِ (راحةُ العَقلِ) للإسماعيليِّ أحمَد حَميد الدِّين الكَرمانيِّ، الذي كان مُعاصِرًا لحَمزةَ بنِ عَليٍّ، نَجِدُ سُورًا كامِلًا ذا سَبعةِ مَشارِعَ في التَّوحيدِ والتَّقديسِ، وحَديثُه في ذلك كُلُّه هو نَفسُ حَديثِ رَسائِلِ الدُّروزِ.
فقد جَعَلَ الكَرمانيُّ المَشرَعَ الأوَّلَ: في بُطلانِ كَونِه تعالى لَيسًا
[3382] أي: محالٌ ليسِيَّتُه؛ إذ لو كان لَيسًا لكانت الموجوداتُ أيضًا لَيسًا، فلما كانت الموجوداتُ موجودةً، كانت ليسيَّتُه باطِلةً. ، والمَشرَعَ الثَّانيَ: في بُطلانِ كونِه تعالى أيسًا
[3383] أي: موجودٌ مِثلُ سائِرِ الموجوداتِ المخلوقةِ. ، والمَشرَعَ الثَّالثَ: في أنَّه تعالى لا يُنالُ بصِفةٍ مِنَ الصِّفاتِ وأنَّه لا بجِسمٍ ولا في جِسمٍ، ولا يَعقِلُ ذاتَه عاقِلٌ، ثُمَّ خَتَمَ السُّورَ بالمشرَعِ السَّابعِ: الذي جَعَله مِن قَبيلِ نَفيِ الصِّفاتِ المَوجودةِ في المَوجوداتِ، وسَلَبَها عنه تعالى
[3384] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 10 - 105). .
وفي رِسالةٍ مُهمَّةٍ تَتَحَدَّثُ عن هذا المُعتَقدِ هي (كِتابٌ فيه حَقائِقُ ما يظهَرُ قُدَّامَ مَولانا جَلَّ ذِكرُه مِنَ الهَزلِ) يتَّضِحُ مِنه كيف ينظُرُ حَمزةُ وأتباعُه إلى أفعالِ الحاكِمِ ويُظهرونَها أفعالًا تَدُلُّ على أُلوهيَّتِه
[3385] توجد الرسالة مطبوعة ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 97- 110). .
وبما أنَّ عَقيدةَ أُلوهيَّة الحاكِمِ هي المُرتَكَزُ الرَّئيسيُّ لعَقيدةِ الدُّروزِ، فلا بُدَّ مِنِ استِعراضِ بَعضِ ما كتَبوه في رَسائِلهم حَولَ هذا الأمرِ، مَعَ أنَّ الدُّروزَ يُحاوِلونَ -تَسَتُّرًا وكِتمانًا- أن ينفوا هذا المُعتَقَدَ أمامَ الآخَرينَ؛ تَجَنُّبًا لثَورةِ النَّاسِ عليهم، وهو ما أمَرَت به رَسائِلُهم، والتي يُفهمُ مِنها أنَّه يجوزُ للموحِّدِ أن ينفيَ عِبادَتَه للحاكِمِ أمامَ الضِّدِّ.
وجاءَ في (ميثاق وَليِّ الزَّمانِ)، والذي هو نَصُّ العَهدِ الذي وضَعَه حَمزةُ بنُ عَليٍّ ليُؤخَذَ على الدَّاخِلينَ في دَعوتِه ما نَصُّه: (تَوكَّلتُ على مَولانا الحاكِمِ الأحَدِ الفَردِ الصَّمَدِ، المُنَزَّهِ عنِ الأزواجِ والعَدَدِ. أقَرَّ فلانُ بنُ فُلانٍ إقرارًا أوجَبَه على نَفسِه، وأشهَدَ به على روحِه، في صِحَّةٍ مِن عَقلِه وبَدَنِه، وجَوازِ أمرِه، طائِعًا غَيرَ مُكرَهٍ ولا مُجبَرٍ: أنَّه قد تَبَرَّأ مِن جَميعِ المَذاهِبِ والمَقالاتِ والأديانِ والاعتِقاداتِ كُلِّها على أصنافِ اختِلافاتها، وأنَّه لا يعرِفُ شَيئًا غَيرَ طاعةِ مَولانا الحاكِمِ جَلَّ ذِكرُه، والطَّاعةُ هي العِبادةُ، وأنَّه لا يُشرِكُ في عِبادَتِه أحَدًا مَضى أو حَضَرَ أو يُنتَظَرُ، وأنَّه قد سَلَّمَ روحَه وجِسمَه ومالَه وولَدَه وجَميعَ ما يملِكُه لمَولانا الحاكِمِ جَلَّ ذِكرُه، ورَضِيَ بجَميعِ أحكامِه له وعليه، غَيرَ مُعتَرِضٍ ولا مُنكِرٍ لشَيءٍ مِن أفعالِه ساءَه ذلك أم سَرَّه.
ومَتى رَجَعَ عن دينِ مَولانا الحاكِمِ جَلَّ ذِكرُه الذي كتَبَه على نَفسِه وأشهَدَ به على روحِه، أو أشارَ به إلى غَيرِه، أو خالَف شَيئًا مِن أوامِرِه؛ كان بَريئًا مِنَ الباري المَعبودِ، واحتَرَمَ الإفادةَ مِن جَميعِ الحُدودِ، واستَحَقَّ العُقوبةَ مِنَ الباري العَليِّ جَلَّ ذِكرُه.
ومَن أقَرَّ أنْ ليس في السَّماءِ إلهٌ مَعبودٌ ولا في الأرضِ إمامٌ مَوجودٌ إلَّا مَولانا الحاكِمُ جَلَّ ذِكرُه، كان مِنَ الموحِّدينَ الفائِزينَ.
كُتِبَ في شَهرِ كذا وكذا مِن سَنةِ كذا وكذا مِن سِنينِ عَبدِ مَولانا جَلَّ ذِكرُه ومَملوكِه حَمزةَ بنِ عَليِّ بنِ أحمَدَ، هادي المُستَجيبينَ، المُنتَقِمِ مِنَ المُشرِكينَ والمُرتَدِّينَ بسَيفِ مَولانا جَلَّ ذِكرُه، وشِدَّةِ سُلطانِه وَحدَه. تَمَّ)
[3386] ((ميثاق ولي الزمان)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 47، 48). .
وقد ورَدَ ذِكرُ هذا الميثاقِ أيضًا في مُصحَف الدُّروزِ في (عُرفِ العَهدِ والميثاقِ) بوصفِه: (العَهدَ الذي أمَرَ مَولانا الحاكِمُ جَلَّ ذِكرُه بكِتابَتِه على جَميعِ الموحِّدينَ الذين آمَنوا به، جَلَّ ذِكرُه)
[3387] ((مصحف الدروز)) (عرف العهد والميثاق) (ص: 111). .
ولكن ورَدَ أيضًا في هذا المُصحَفِ وقَبلَ الميثاقِ عَهدٌ جَديدٌ لا يُعرَفُ إلَّا مِن هذا المُصحَفِ وسُمِّي بـ (العَهد)، وهذا يُعطي انطِباعًا لقارِئِ مُصحَفِهم أنَّ العَهدَ والميثاقَ مُتَلازِمانِ في العَقيدةِ الدَّرْزيَّةِ، ونَصُّ هذا العَهدِ هو: (آمَنتُ باللَّهِ، رَبِّي الحاكِمِ، العَليِّ الأعلى، رَبِّ المَشرِقَينِ ورَبِّ المَغرِبَينِ، وإلهِ الأصلَينِ والفرعَينِ، مُنشِئِ النَّاطِقِ والأساسِ، مُظهِرِ الصُّورةِ الكامِلةِ بنُورِه، الذي على العَرشِ استَوى، وهو بالأُفُقِ الأعلى، ثُمَّ دَنا فتَدَلَّى، وآمَنتُ به، وهو رَبُّ الرُّجعى، وله الأولى والآخِرةُ، وهو الظَّاهرُ والباطِنُ.
وآمَنتُ بأولي العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ، ذَوي مَشارِقِ التَّجَلِّي المُبارَكِ حَولَها وبحامِلي العَرشِ الثَّمانيةِ، وبجَميعِ الحُدودِ، وأومِنُ عامِلًا قائِمًا بكُلِّ أمرٍ ومَنعٍ يَنزِلُ مِن لَدُن مَولانا الحاكِمِ، وقد سَلَّمتُ نَفسي وذاتي وذَواتي، ظاهرًا وباطِنًا، عِلمًا وعَمَلًا، وأن أُجاهدَ في سَبيلِ مَولانا، سِرًّا وجَهرًا بنَفسي ومالي وولَدي وما مَلكَت يداي، قَولًا وعَمَلًا، وأشهَدتُ على هذا الإقرارِ جَميعَ ما خُلِقَ بمشارقي وماتَ بمغاربي.
وقدِ التَزَمتُ وأوجَبتُ على هذا نَفسي ورُوحي بصِحَّةٍ مِن عَقلي وعَقيدَتي، وإنِّي أُقِرُّ بهذا غَيرَ مُكرَهٍ أو مُنافِقٍ، وإنَّني أُشهِدُ مَولاي الحَقَّ الحاكِمَ، مَن هو في السَّماءِ إلهٌ وفي الأرضِ إلهٌ، وأُشهدُ مَولاي هادي المُستَجيبينَ، المُنتَقِمَ مِنَ المُشرِكينَ المُرتَدِّينَ، حَمزةَ بنَ عَليِّ بنِ أحمَد، مَن به أشرَقَتِ الشَّمسُ الأزَليَّةُ، ونَطَقَت فيه وله سُحُبُ الفَضلِ: أنَّني قد بَرَأتُ وخَرَجتُ مِن جَميعِ الأديانِ والمَذاهِبِ والمَقالاتِ والاعتِقاداتِ قديمِها وحَديثِها، وآمَنتُ بما أمر به مَولانا الحاكِمُ الذي لا أُشرِكُ في عِبادَتِه أحَدًا في جَميعِ أدواري.
وأُعيدُ فأقولُ: إنَّني قد سَلَّمتُ رُوحي وجِسمي وما مَلَكت يداي وولَدي لمَولانا الحاكِمِ جَلَّ ذِكرُه، ورَضيتُ بجَميعِ أحكامِه لي أو عليَّ، غَيرَ مُعتَرِضٍ ولا مُنكِرٍ مِنها شَيئًا، سَرَّني ذلك أم ساءَني، وإذا رَجَعتُ أو حاولتُ الرُّجوعَ عن دينِ مَولانا الحاكِمِ جَلَّ ذِكرُه، والذي كتَبتُه الآنَ وأشهَدتُ به على روحي ونَفسي، أو أشرتُ بالرُّجوعِ إلى غَيري، أو جَحدتُ أو خالَفتُ أمرًا أو نَهيًا مِن أوامِرِ مَولاي الحاكِمِ جَلَّ ذِكرُه ونَواهيه، كان مَولاي الحاكِمُ جَلَّ ذِكرُه بَريئًا مِنِّي واحتُرِمتُ الحَياةَ مِن جَميعِ الحُدودِ، واستَحَقَّت عليَّ العُقوبةُ في جَميعِ أدواري مِن بارِئِ الأنامِ جَلَّ ذِكرُه، وعلى هذا أشهِدُك رَبِّي ومَولاي، مَن بيدِك الميثاقُ، وأُقِرَّ بأنَّك أنتَ الحاكِمُ الإلهُ الحَقيقيُّ المَعبودُ، والإمامُ المَوجودُ جَلَّ ذِكرُه؛ فاجعَلْني مِنَ الموحِّدينَ الفائِزينَ الذي جَعَلتَهم في أعلى عِلِّيِّينَ، ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلينَ، وقَليلٌ مِنَ الآخِرينَ، مَولاي إن تَشاءُ، آمينَ)
[3388] ((مصحف الدروز)) (عرف العهد والميثاق) (ص: 107 - 110). .
فذلك الميثاقُ وذلك العَهدُ يبتُرانِ حَبلَ الصِّلةِ بَينَ المُستَجيبِ وكُلِّ ما يُؤمِنُ به سِواه، ويدفعانِه لتَلَقِّي كُلِّ ما يرويه حَمزةُ وتَلاميذُه عنِ الحاكِمِ بالرِّضا والتَّسليمِ.
وبَيَّنَ حَمزةُ بنُ عَليٍّ لمَ أظهَرَ اللَّاهوتُ ناسوتَه، فقال: (لكنَّه سُبحانَه أظهَرَ لنا حِجابَه الذي هو مُحتَجِبٌ فيه، ومَقامَه الذي يَنطِقُ مِنه ليُعبَدَ مَوجودًا ظاهرًا؛ رَحمةً مِنه لهم ورَأفةً عليهم، والعِبادةُ في كُلِّ عَصرٍ وزَمانٍ لذلك المَقامِ الذي نَراه ونُشاهدُه ونَسمَعُ كلامَه ونُخاطِبُه، فإن قال قائِلٌ: كيف يجوزُ أن نَسمَعَ كلامَ الباري سُبحانَه من بَشَرٍ، أو نَرى حَقيقَتَه في الصُّوَرِ؟
قُلنا له: بتَوفيقِ مَولانا جَلَّ ذِكرُه وتَأييدِه، أنتم جَميعُ المُسلمينَ واليهودِ والنَّصارى تَعتَقِدونَ بأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ خاطَبَ موسى بنَ عِمرانَ مِن شَجَرةٍ يابسةٍ، وخاطَبَه مِن جَبَلٍ جامِدٍ أصَمَّ، وسَمَّيتُموه كليمَ اللَّهِ لَمَّا كان يسمَعُ مِنَ الشَّجَرةِ والجَبَلِ، ولم يُنكِرْ بَعضُكم على بَعضٍ، وأنتم تَقولونَ بأنَّ مَولانا جَلَّ ذِكرُه مَلِكٌ مِن مُلوكِ الأرضِ، ومَن وَلِي على عَدَدٍ مِنَ الرِّجالِ كان له عَقلُ الكُلِّ، ومَولانا جَلَّ ذِكرُه يملكُ أربابَ أُلوفٍ كثيرةٍ ما لا يُحصى ولا يُقاسُ فضيلَتُه بفضيلةِ شَجَرةٍ أو حَجَرٍ، وهو أحَقُّ بأن ينطِقَ الباري سُبحانَه على لِسانِه، ويُظهرَ للعالَمينَ قُدرَتَه مِنه، ويحتَجِبَ عنهم مِنه، فإذا سَمِعنا كلامَ مَولانا جَلَّ ذِكرُه قُلنا: قال الباري سُبحانَه كذا وكذا، لا كما كان موسى يسمَعُ مِنَ الشَّجَرةِ هَفيفًا فيقولُ: سَمِعتُ مِنَ اللَّه كذا وكذا، وهذه حُجَّةٌ عَقليَّةٌ لا يقدِرُ أحَدُكم يُنكِرُها!
وقدِ اجتَمَعَ في القَولِ بأنَّ لمَولانا جَلَّ ذِكرُه عُقولَ الأُمَّةِ، وأنَّ الشَّجَرةَ والحَجَرَ لا تَفهَمُ وتَعقِلُ عنِ اللَّهِ، ومَن يفهَمُ ويعقِلُ عنِ اللَّهِ أحَقُّ بكلامِ اللَّهِ وفِعلِه مِمَّن لا يَعقِلُ عنه، وإن كانتِ الشَّجَرةُ حِجابَه فالذي يعقِلُ ويَفهَمُ أحَقُّ أن يكونَ حِجابَ اللَّهِ مِمَّن لا يعقِلُ ولا يَفهَمُ، وكيف يجوزُ الباري سُبحانَه أن يحتَجِبَ في شَجَرةٍ ويُخاطِبَ كليمَه مِنها، ثُمَّ تُحرَقَ الشَّجَرةُ ويتَلاشى حِجابُه؟ سُبحانَ الإلهِ المَعبودِ عَمَّا يصِفونَ، لا يُدرَكُ ولا يوصَفُ مَولانا الحاكِمُ جَلَّ ذِكرُه وحِجابُه في كُلِّ عَصرٍ وزَمانٍ باختِلافِ الصُّورِ والأسماءِ، كما نَطَقَ القُرآنَ: كُلَّ يومٍ هو في شَأنٍ، لا يشغَلُه شَأنٌ عن شَأنٍ)
[3389] ((الرسالة الموسومة بكشف الحقائق)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 141- 142). .
وفي مُصحَفِ الدُّروزِ أنَّ العِبادَ كانوا يتَوسَّلونَ ظُهورَ الواحِدِ الأحَدِ: (انظُروا ثُمَّ انظُروا، واستَرجِعوا الأيَّامَ السَّالفةَ، فكم مِنَ العِبادِ كانوا يتَوسَّلونَ مُنتَظِرينَ ظُهورَ الواحِدِ الأحَدِ، والحاكِمِ الصَّمَدِ، والفَردِ بلا عَدَدٍ، في الهَياكِلِ القُدسيَّةِ، على شَأنٍ وصِفةٍ يَعلَمُها كُلُّ مَن ألقى السَّمعَ وهو شَهيدٌ.
ها قد تَفتَّحَت أبوابُ العِنايةِ، وارتَفعَت غُمَّةُ المَكرُمةِ، وظَهَرَت شَمسُ الغَيبِ في أُفُقِ القُدرةِ.
والآنَ وبَعدَ الآياتِ البَيِّناتِ قُمتُم على تَكذيبِ ما تَنتَظِرونَ ورَفضِ أحكمِ الحاكِمِينَ، وفوقَ كُلِّ ذلك أنَّكم تَبتَعِدونَ عن لقائِه الذي هو عَينُ لقاءِ اللَّهِ، كما صَرَّحَ به الكِتابُ: «وجاءَ رَبُّك والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا». وإلَّا فقولوا لي أيُّها الضَّالُّونَ المُعانِدونَ: فهَل جاءَ لَكم رَبٌّ غَيرُه مَعَ جُنودِه؟ أروني إن كُنتُم صادِقينَ، أوَلم تُعاهِدوه، وتَضَعوا أيديَكم في يدِه؟ أوَلم يُنادِكم، وأخَذَ عليكم ميثاقًا، وقال: «يدُ اللَّهِ فوقَ أيديهم»، وبذلك شَهدَ الكِتابُ؟)
[3390] ((مصحف الدروز)) (عرف الأمر والتقديم) (ص: 10، 11). .
لذلك فإنَّه يعيبُ على الذين كفروا بالحاكِمِ؛ لأنَّ في قُلوبهم مَرَضًا، فقال: (لَقد كبُرَ على الذين كفروا أن يرَوا اللَّهَ جَهرةً كأمثالِهم، وضَلَّت ألبابُهم وظَنُّوه كأجسامِهم وهَياكِلهم. إنَّ الذين في قُلوبهم مَرَضٌ فزادَهمُ اللَّهُ مَرَضًا، وأمَدَّهم في طُغيانِهم يعمَهونَ، وأمَّا الذين آمَنوا، وسَبَقَت مِنه لهم كَلِمةُ الحُسنى، فإنَّه ظَهَرَ لهم ليمنَحَهم نِعَمَ الإيمانِ المَكنونةَ في سِدرةِ المَعرِفةِ المَخزونةِ التي استَظَلَّ بها أولو العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ؛ حتَّى لا تُحرَمَ الهَياكِلُ الفانيةُ مِن أثمارِ المُشاهَدةِ الباقيةِ، عَساهم يفوزونَ ويُؤتَونَ الحِكمةَ بتَجَلِّي ذي الجَلالِ الحاكِمِ)
[3391] ((مصحف الدروز)) (عرف التنبيه والهداية) (ص: 18). .
ولهذا فإنَّ لهم عَذابًا شَديدًا لكُفرِهم بدَعوةِ الحاكِمِ، ومِمَّا ورَدَ في مُصحَفِهم: (لَئِن ينتَعِلْ أحَدُكم بنَعلَينِ مِن نارٍ يغلي بهما دِماغُه مِن حَرارةِ نَعلَيه، إنَّه لأهوَنُ وأدنى عَذابًا مِن رافِضِ دَعوةِ مَولاه الحاكِمِ، بَعد إذ تَبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ... ولو أنَّ مَن في الأرضِ استَغفَرَ لهم لَن يغفِرَ اللَّهُ مَولاهمُ الحاكِمُ الصَّمَدُ والفَردُ بلا عَدَدٍ، والواحِدُ الأحَدُ، خَطيئاتِهم، ولَوِ افتَدى أحَدُهم بما في الأرضِ جَميعًا فلا يُنجيه)
[3392] ((مصحف الدروز)) (عرف الإنذار والحساب) (ص: 19 - 25). .
والدُّروزُ ينفونَ عنِ الحاكِمِ أنَّه ابنُ العَزيزِ، أو أبو عَليٍّ، أو له أبٌ أو ولَدٌ، وهذا ما نَفاه حَمزةُ فقال: (لأنَّ مَولانا سُبحانَه يعلَمُ خائِنةَ الأعيُنِ وما تُخفي الصُّدورُ، وما مِن نَجوى ثَلاثةٍ إلَّا هو رابعُهم ولا خَمسةٍ إلَّا هو سادِسُهم، ولا أدنى مِن ذلك إلَّا هو مَعَهم. سُبحانَه وتعالى عن إدراكِ العالَمينَ والعاليينِ والمَلائِكةِ المُقَرَّبينَ والنَّاسِ أجمَعينَ عُلوًّا كبيرًا. فالحَذَرَ الحَذَرَ أن يقولَ واحِدٌ مِنهم بأنَّ مَولانا جَلَّ ذِكرُه: ابنُ العَزيزِ، أو أبو عَليٍّ؛ لأنَّ مَولانا سُبحانَه هو في كُلِّ عَصرٍ وزَمانٍ يظهَرُ في صورةٍ بَشَريَّةٍ وصِفةٍ مَرئيَّةٍ كيف يشاءُ حَيثُ يشاءُ... وهو سُبحانَه لا تَغَيُّرُه الدُّهورُ ولا الأعوامُ ولا الشُّهورُ، وإنَّما يتَغَيَّرُ عليكم بما فيه صَلاحُ شَأنِكم، وهو تَغييرُ الاسمِ والصِّفةِ لا غَيرُ، وأفعالُه جَلَّ ذِكرُه تَظهَرُ مِنَ القوَّةِ إلى الفِعلِ كما يشاءُ «كُلَّ يومٍ هو في شَأنٍ»، أي: كُلَّ عَصرٍ في صورةٍ لا يشغَلُه شَأنٌ عن شَأنٍ.
وأمَّا مَن قال واعتَقدَ بأنَّ مَولانا جَلَّ ذِكرُه سَلَّمَ قُدرَتَه ونَقَلَ عَظَمَتَه إلى الأميرِ عَليٍّ، أو أشارَ إليه بالمَعنَويَّةِ، فقد أشرَك بمَولانا سُبحانَه غَيرَه وسَبَقَه بالقَولِ... فمَن مِنكم يعتَقِدُ هذا القَولَ فليرجِعْ عنه ويستَقيل مِنه ويستَغفِرِ المَولى جَلَّ ذِكرُه ويُقدِّس اسمَه مِن ذلك... ولا يجوزُ لأحَدٍ يُشرِكُ في عِبادَتِه ابنًا ولا أبًا، ولا يُشيرُ إلى حِجابٍ يحتَجِبُ مَولانا جَلَّ ذِكرُه فيه إلَّا بَعدَ أن يُظهِرَ مَولانا جَلَّ ذِكرُه أمرَه، ويجعَلَ فيمَن يشاءُ حِكمَتَه، فحينَئِذٍ لا مَرَدَّ لقَضائِه ولا عاصيًا لحُكمِه في أرضِه...
وما أدراك ما حَقيقةُ الحاكِمِ؟ ولمَ تَسَمَّى بالحاكِمِ في هذه الصُّورةِ دونَ سائِر الصُّورِ؟ ومَولانا جَلَّ ذِكرُه غَيرُ غائِبٍ عن ناسوتِه، فِعلُه فِعْلُ ذلك المَحجوبِ عنَّا في نُطقِه ذلك النُّطقَ، لا يغيبُ اللَّاهوتُ عنِ النَّاسوتِ إلَّا أنَّكم لا تَستَطيعونَ النَّظَرَ إليه، ولا لَكم قُدرةٌ بإحاطةِ حَقيقَتِه...
واعلَموا أنَّ الشِّركَ خَفيُّ المَدخَلِ، دَقيقُ السَّترِ والمسبلِ، وليس مِنكم أحَدٌ إلَّا وهو يُشرِكُ ولا يدري، ويَكفُرُ وهو يَسري، ويجحَدُ وهو يزدَري، وذلك قَولُ القائِلِ مِنكم: بأنَّ مَولانا سُبحانَه صاحِبُ الزَّمانِ، أو إمامُ الزَّمانِ، أو وَليُّ اللَّهِ أو خَليفتُه، أو ما شاكلَ ذلك مِن قَولِكم: الحاكِمُ بأمرِ اللَّهِ، أو سَلامُ اللَّهِ عليه، أو صَلَواتُ اللَّهِ عليه)
[3393] ((رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 77). .
وثَمَّةَ رِسالةٌ أُخرى لحَمزةَ هي (رِسالةُ السِّيرةِ المُستَقيمةِ) يُعطي فيها المَزيدَ مِن تَأويلاتِه لأفعالِ الحاكِمِ الغَريبةِ، ومِمَّا يقولُه: (مِن رُسومِ مَولانا جَلَّ ذِكرُه الرُّكوبُ في الهاجِرةِ، والمسيرُ في الرَّمضاءِ وفي الشِّتاءِ، إذا كان يومَ جَنوبٍ صَعبٍ وغُبارٍ عَظيمٍ، يتَأذَّونَ النَّاسُ في بُيوتِهم مِن ذلك الرِّيحِ والغُبارِ.
ثُمَّ يركبُ المَولى سُبحانَه في ظاهرِ الأمرِ إلى حَجَرِ الجُبِّ، ويرجِعُ وما في المَوكِبِ أحَدٌ إلَّا وقد دَمَعَت عَيناه مِنَ الغُبارِ والرِّيحِ، وكلَّت ألسِنَتُهم عنِ النُّطقِ الفصيحِ، ونالهم مِنَ المَشَقَّةِ والتَّعَبِ ما لم يقدِرْ عليه أحَدٌ، ومَولانا سُبحانَه على حالَتِه التي خَرَجَ بها مِنَ الحَرَمِ المُقدَّسِ، ولَم يرَه أحَدٌ قَطُّ في وقتِ الهاجِرةِ الهائِلةِ والسَّمومِ القاتِلةِ قدِ اسودَّ له وَجهٌ في ظاهرِ الأمرِ، ولا لحِقَه شَيءٌ مِن تَعَبٍ، ولا يَقدِرُ أحَدٌ مِنهم يقولُ بأنَّه لَحِقَه شَيءٌ مِن ذلك... ولا يقدِرُ أحَدٌ يقولُ مِمَّن حَضَرَ مَعَ مَولانا سُبحانَه في ظاهرِ الأمرِ في مَواضِعَ لا يحصُرُها كُلُّ النَّاسِ: إنَّه شاهَدَه يفعَلُ شَيئًا مِمَّا ذَكَرْناه مِن تَعَبٍ أو أكلٍ أو شُربٍ حاشاه سُبحانَه مِن ذلك...
وهو في ظاهرِ الأمرِ يركبُ في مِحَفَّةٍ يحمِلُها أربَعةٌ مِنَ الأضدادِ المُشرِكينَ وتَشُقُّ به أوساطَ المارِقينَ النَّاكِثينَ والمُنافِقينَ، وما مِنَ العَساكِرِ إلَّا وقد قَتَلَ ساداتِهم، والرَّعيَّةُ كُلُّهم أعداؤُه في الدِّينِ إلَّا شِرذِمةً يسيرةً موحِّدينَ له مُؤمِنينَ به راضينَ بقَضائِه، ومِن رُسومِ المُلوكِ أنَّهم لا يثِقوا بأحَدٍ مِن عَساكِرِهم، ولا مِن أولادِهم خَوفًا مِن غَدرِهم. فكيف يزعُمونَ أنَّه مَريضٌ، وليس يقدِرُ يمشي، وقد قَتَلَ جَبابرةَ الأرضِ ومُلوكَهم، ويمشي بَينَهم في مِحَفَّةٍ؟ وهو الذي ذَكرتُه لَكم في هذه السِّيرةِ، وأصنافُ هذه الأفعالِ ليس هي فِعلَ أحَدٍ مِنَ البَشَرِ، وما هو شَيءٌ يُستَعظَمُ للمَولى سُبحانَه)
[3394] يُنظر: ((رسالة السيرة المستقيمة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 127، 128). .
أمَّا لماذا تَسَمَّى الإلهُ المَعبودُ بأسماءِ العِبادِ؟ فهذا أيضًا بَيَّنَه حَمزةُ بقَولِه: (فإن قال قائِلٌ: فلمَ تَسَمَّى المَولى سُبحانَه باسِمِ عَبدِه، وما الحِكمةُ فيه؟
قُلْنا له بتَوفيقِ مَولانا جَلَّ ذِكرُه وتَأييدِه: إنَّ جَميعَ ما يُسَمُّونَ الباري جَلَّ ذِكرُه في القُرآنِ وغَيرِه فهو لعَبيدِه وحُدودِه، وأجَلُّ اسمٍ عِندَهم في القُرآنِ (اللَّهُ)، وظاهِرُه خُطوطٌ مَخلوقةٌ، وباطِنُه حُدودٌ مَرئيَّةٌ مَرزوقةٌ، وظاهرُه اسمٌ وباطِنُه مُسَمًّى، والمَعبودُ غَيرُهما وهو الاسمُ الحَقيقيُّ، وهو لاهوتُ مَولانا سُبحانَه وتعالى عَمَّا يصِفونَ. فلَمَّا كانتِ العَبيدُ عاجِزينَ عنِ النَّظَرِ إلى تَوحيدِ باريهم إلَّا مِن حَيثُ هم وفي صوِرهمُ البَشَريَّةِ، أوجَبَتِ الحِكمةُ والعَدلُ أن يتَسَمَّى بأسمائِهم)
[3395] ((رسالة السيرة المستقيمة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 123). .
ولكي يُبَرهِنَ دُعاةُ الدُّروزِ على أنَّ عِبادَتَهم وتَأليهَهم للحاكِمِ هي العِبادةُ الصَّحيحةُ، يُحاوِلونَ إثباتَ أنَّ عِبادةَ جَميعِ أهلِ النِّحَلِ والأديانِ الأُخرى هي عِبادةُ عَدَمٍ؛ لأنَّها بلا مَعرِفةٍ ولا مُشاهَدةٍ. فقال المُقتَني بَهاءُ الدِّينِ: (جَميعُ أهلِ النِّحَلِ والأديانِ يعتَرِفونَ بالمَعبودِ، ويُنكِرونَ إذا دُعُوا إلى حَقيقَتِه الوُجودَ، كما قال: (يعرِفونَ نِعمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرونَها)، أي: يُقِرُّونَ أنَّ لهم بارِيًا، فإذا دُعُوا إلى مَعرِفةِ تَوحيدِه أنكروا وجودَه، وكُلُّهم -أعني مَن قدَّمتُ ذِكرَه مِن جَميعِ أهلِ النِّحَلِ والأديانِ- يوجِبونَ على أنفُسِهم عِبادةً يرجونَ بها ثَوابَه ويفِرُّونَ بها مِن عِقابِه، والعَقلُ يقطَعُ ويَشهَدُ ويوجِبُ أنَّ الثَّوابَ لا يصِحُّ ولا يَثبُتُ إلَّا مِن بَعدِ مَعرِفةِ المُثيبِ؛ إذ كان الخَلقُ إلى مَعرِفةِ المُثيبِ هم أحوجَ مِنه إلى مَعرِفةِ ثَوابِه... فإن كان مَعدومًا فقد سَقَطَتِ الحُجَّةُ عن جَميعِ الخَلقِ، وكان الكُلُّ مَعذورينَ في تَوقُّفِهم عن طَلَبِ الحَقِّ، ويُؤَيِّدُ ما ذَكرتُه ما تَقدَّمَ به الخَلقُ مِن أقوالِهم، إنَّ اللَّهَ لا يحتَجِبُ عن خلقِه لكن حَجَبَته عنهم أعمالُهم)
[3396] ((الرسالة الموسومة بالشافية لنفوس الموحدين)) عن ((رسائل الحكمة)) (2/ 454). .
وفي هذا المَعنى أيضًا قال في مَوضِعٍ آخَرَ: (جَميعُ العالَمِ على شَكٍّ، والشَّكُّ هو الكُفرُ؛ لأنَّهم يعبُدونَ مَن لا يَسمَعُ ولا يُسمَعُ، ولا يَضُرُّ ولا ينفَعُ، ولا يدرونَ هَل عِبادَتُهم مُرادةٌ، أو أرادَ مِنهم شَيئًا مِمَّا أجازَته عُقولُهم؟ وأيضًا فقد تَقدَّم القَولُ بأنَّ المَولى جَلَّ ذِكرُه عادِلٌ غَيرُ جائِرٍ، تعالى وجَلَّ عَمَّا يقولُه المُلحِدونَ عُلوًّا كبيرًا، فأيُّ عَدلٍ يقتَضي أن يكونَ فوقَ سَبعِ سَمَواتٍ على كُرسيٍّ فوقَ السَّماءِ السَّابعةِ كما يزعُمُ المُشرِكونَ، وقد كلَّفَنا مَعَ هذا عِبادَتَه ومَعرِفتَه؟ فهَل في وُسعِ أحَدٍ أن يعرِفَ ما خَلفَ الجِدارِ الذي هو أقرَبُ إليه مِن كُلِّ قَريبٍ إن لم يُكشَفْ عنه ويَنظُرْه بعَينِه؟ فنعوذُ بالمَولى أن نَنسُبَه أنَّه احتَجَبَ بهذه الحَجبةِ، ثُمَّ كلَّفَنا مَعَ ذلك عِبادَته ومَعرِفتَه، بل ظَهَرَ تعالى بهذه الصُّورةِ النَّاسوتيَّةِ التي تشاكِلُنا مِن حَيثُ المُجانَسةُ والمُقابَلةُ، فهذا نَفسُ العَدلِ.
ووجهٌ آخَرُ أنَّ ابنَ آدَمَ غَرَضُ الباري مِن جَميعِ المَخلوقاتِ، فلَمَّا صَحَّ عِندَ ذَوي العِلمِ والمَعرِفةِ والفَهمِ أنَّ ابنَ آدَمَ أفضَلُ الأشياءِ كُلِّها وجَبَ أن يحتَجِبَ الباري جَلَّت قُدرَتُه في أجَلِّ الأشياءِ، واحتَجَبَ بأشرَفِ المَخلوقاتِ واحتَجَبَ بأعلَمِ الأشياءِ، فنعوذُ بالمَولى مِن سوءِ اعتِقادِ مَن يعتَقِدُ أنَّه في الأمواتِ، وأيضًا فإنَّ العالَمَ كُلَّه ما اختَلَفوا في أنَّ الباري قادِرٌ، فأينَ قُدرَتُه لو غابَ الدَّهرَ كُلَّه لا يظهَرُ؟ أليس يكونُ عَجَز عنِ الظُّهورِ؟
وأيضًا فلو ظَهَرَ الدَّهرَ كُلَّه، ثُمَّ لم يغِبْ لعَجَزَ عنِ الغَيبةِ، ولو ظَهر في كُلِّ الظُّهورات بصورةٍ واحِدةٍ وعلى حالةٍ واحِدةٍ، لَكان ذلك عَجزًا)
[3397] ((رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (2/ 529- 530). .
بهذه الطَّريقةِ يُحاوِلُ حَمزةُ ودُعاتُه أن يُثبتوا أنَّ ظُهورَ اللَّاهوتِ بصورَتِه النَّاسوتيَّةِ (الحاكِمِ)، كان رَحمةً للنَّاسِ وعَدلًا لهم مِنه! وفي زَعمِهم أنَّ أهلَ الأديانِ الأُخرى لا يعبُدونَ إلَّا العَدَمَ الذي لا يسمَعُ ولا ينفعُ ولا يضُرُّ، فكان ظُهورُه هذا رَحمةً للموحِّدينَ!
أما لماذا تَسَمَّى الحاكِمُ بالإمامِ؟ فأجابَ حَمزةُ على ذلك بقَولِه: (لو كان في العالَمينَ شَيءٌ أفضَلُ مِنَ الإمامةِ لَكان المَولى جَلَّ ذِكرُه في ظاهرِ الأمرِ تَسَمَّى به، فلَمَّا لم يظهَرْ في النَّاسوتِ إلَّا باسمِ الإمامةِ عَلِمْنا أنَّه أجلُّ أسماءِ المَولى جَلَّت قُدرَتُه)
[3398] ((رسالة الصبحة الكائنة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 203). .
ولا يزالُ الدُّروزُ حتَّى الآنَ يُؤمِنونَ ويقولونَ بهذه الأقوالِ، ومِن هؤلاء الدُّكتور سامي مَكارِم الذي يقولُ: (يُمكِنُنا أن نَقولَ: إنَّ النَّاسوتَ مِنَ اللَّاهوتِ كالخَطِّ مِنَ المَعنى، وكما أنَّ فِكرَ الإنسانِ المَحدودَ بالكيفيَّةِ والإضافةِ والزَّمانِ وما شابَهَ ذلك لا يستَطيعُ أن يُدرِكَ المَعانيَ مُجَرَّدةً مِنَ الخَطِّ أوِ الصُّورةِ أوِ الصَّوتِ، كذلك لا يُمكِنُ أن يُدرِكَ اللَّاهوتَ بوجهٍ مِنَ الوُجوهِ، وإنَّما يتَجَلَّى اللَّهُ في النَّاسوتِ، ويكونُ هذا النَّاسوتُ قد تنَزَّه عن كُلِّ ما ليس هو في حَقيقَتِه وشُمولِه، فأضحى تَشخيصًا للإنسانِ الكامِلِ، أي: ناسوتًا مُجَرَّدًا مُتَطَهِّرًا مثاليًا مُتَنَزِّلًا بتَجَرُّدِ الباقي السَّرمَديِّ فيه عنِ التَّوهُّمِ والفناءِ. وهذا هو التَّأنيسُ بالنِّسبةِ للآخَرينَ بُغيةَ التَّعَرُّفِ مِن خِلالِه إلى حَقيقةِ المَوجوِد في سَعيِ بَعضِهم، وتَقَرُّبِهم، وطَلبَتِهم للمُشاهَدةِ والتَّوحيدِ الآخَرِ)
[3399] ((أضواء على مسلك التوحيد)) (ص: 128). .
والدُّروزُ يعتَقِدونَ أنَّ الإلهَ المَعبودَ اتَّخَذَ له في الأدوارِ الماضيةِ صورًا ناسوتيَّةً أُخرى، ويعتَقِدونَ أيضًا أنَّ تلك الأدوارَ كانت سَبعةً، وأنَّ الإلهَ المَعبودَ قد أظهَرَ ناسوتَه في هذه الأدوارِ عَشرَ مَرَّاتٍ أو (مَقاماتٍ).
وفي (رِسالةِ السِّيرةِ المُستَقيمةِ) حَديثٌ طَويلٌ عن هذه الأدوارِ، قال حَمزةُ في هذه الرِّسالةِ: (وهو القِسطُ لا إلهَ إلَّا هو العَزيزُ الحَكيمُ، هو الحاكِمُ جَلَّ ذِكرُه نَطَق بأنَّ مَولانا جَلَّ ذِكرُه هو القائِمُ على كُلِّ نَفسٍ بما كسَبَ، وهو المُعِزُّ، وهو العَزيزُ، وهو الحاكِمُ جَلَّ ذِكرُه، يظهَرُ لنا في أيِّ صورةٍ شاءَ كيف يشاءُ «إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسلامُ»، أي: سَلَّموا أُمورَهم إلى المَولى سُبحانَه ورَضُوا بقَضائِه، فهمُ المُسلمونَ له حَقًّا، والمُؤمِنونَ به، والموحِّدونَ له تَأليهًا وسِدقًا. وتَسَمَّى مَولانا جَلَّ ذِكرُه بالقائِمِ؛ لأنَّ أوَّلَ ما ظَهَرَ للعالَمِ بالمُلكِ والبَشَريَّةِ في أيَّامِ النُّطَقاءِ النَّاموسيَّةِ والشِّرِكيَّةِ، فقامَ على العالَمينَ بالقوَّةِ والقُدرةِ)
[3400] ((رسالة السيرة المستقمية)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (ص: 122، 123). .
المقاماتُ النَّاسوتيَّةُ التي ظَهَرَ فيها المَعبودُ هي كما يعتَقِدُ بها الدُّروزُ:1- العَليُّ.
2- البارُّ.
3- أبو زَكريَّا: ظَهَرَ في وقتِ السَّماءِ الثَّالثةِ سَنةَ 220هـ.
4- عليًّا: ظَهَرَ في وقتِ السَّماءِ الرَّابعةِ.
5- المُعِلُّ: ظَهَرَ في وقتِ السَّماءِ الخامِسةِ.
6- القائِمُ: كان طِفلًا استَودَعَه مَعَ سِرِّ إمامَتِه أبوه المُعَلُّ برِعايةِ سَعيدٍ المَهديِّ المُلَقَّبِ بـ (عُبَيدِ اللَّهِ) سَنةَ 280هـ، وكان سَعيدٌ في العِشرينَ مِن عُمرِه، هَرَب بالقائِمِ مِن وجهِ العَبَّاسيِّينَ إلى مِصرَ سَنةَ 289هـ، ثُمَّ إلى شَمالِ إفريقيَّةَ سَنةَ 308هـ، وهو مُؤَسِّسُ الدَّولةِ الفاطِميَّةِ.
7- المَنصورُ: حَكمَ مِن سَنةِ 334 إلى سَنةِ 341هـ.
8- المُعِزُّ: حَكمَ مِن سَنةِ 341 إلى سَنةِ 365هـ، وهما مَعَ القائِمِ يُعتَبَرونَ في المَذهَبِ الدَّرْزيِّ ذاتًا واحِدةً.
9- العَزيزُ: حَكمَ مِن سَنةِ 365 إلى سَنةِ 386هـ.
10- الحاكِمُ بأمرِ اللَّهِ: حَكمَ مِن سَنةِ 386هـ إلى سنةِ 411هــ
[3401] ((مذهب الدروز والتوحيد)) لعبد الله النجار (ص 95، 96). .
والاعتِقادُ بهذه المَقاماتِ العَشَرةِ واجِبٌ مُؤَكَّدٌ على الدَّرْزيِّ؛ ففي رِسالةٍ دَرْزيَّةٍ مَخطوطةٍ لمُؤَلِّفٍ مَجهولٍ، وعُنوانُها (ذِكرُ ما يجِبُ أن يَعرِفَه الموحِّدُ ويعتَقِدُ به ويحفَظُه ويَسلُكُ بموجِبِه، وهو قَولٌ موجَزٌ عن كِتابِ الفرائِضِ) قال فيها مُؤَلِّفها: (يجِبُ مَعرِفتُه تعالى في المَقاماتِ العَشَرةِ الرَّبَّانيَّةِ وهم: العَليُّ، والبارُّ، وأبو زَكريَّا، وعَليًّا، والمَعَلُّ، والقائِمُ، والمَنصورُ، والمُعِزُّ، والعَزيزُ، والحاكِمُ، وكُلُّهم إلهٌ واحِدٌ لا إلهَ إلَّا هو.
فالعَليُّ الأعلى كُلُّ زَمانٍ تَجريدٌ ولا إمامةَ فيه، ولَم يكُنْ قَبلَه شَيءٌ، وظَهَرَ في أوَّلِ الدُّنيا، ثُمَّ البارُّ تَجريدٌ عنِ الإمامةِ، وظُهورُه في أواخِرِ أدوارِ الدُّنيا، وبَينَ العَليِّ والبارِّ تِسعٌ وسِتُّونَ كشَفةً، وبَين كُلِّ كَشفٍ وكَشفٍ سَبعُ شَرائِعَ، وبَين كُلِّ شَريعةٍ وشَريعةٍ سَبعةُ أئِمَّةٍ، ومُدَّةُ كُلِّ إمامٍ مِائةُ ألفِ سَنةٍ، فتَكونُ الأدوارُ والشَّرائِعُ مِنَ العَليِّ إلى البارِّ ثَلَاثَمِائةِ ألفِ سَنةٍ.
ثُمَّ بَعدَ غَيبةِ مَقامِ البارِّ سُبحانَه وتعالى ظَهر آدَمُ الجزي -الذي هو أخنوخُ- بشَريعةٍ تَوحيديَّةٍ يدعو إلى تَوحيدِ البارِّ سُبحانَه، وظَهَرَ بَعدَه سَبعةُ أئِمَّةٍ مِن حُروفِ الصِّدقِ وحَدُّوا حُدودَه، ثُمَّ ظَهَرَت بَعدهمُ الشَّرائِعُ النَّاموسيَّةُ بالنُّطَقاءِ التَّكليفيَّةِ الذين هم: نوحٌ، وإبراهيمُ، وموسى، ومُحَمَّدٌ، وسَعيدٌ المَهديُّ، وكُلُّهم نَفسٌ واحِدةٌ، وبَين كُلِّ ناطِقٍ وناطِقٍ سَبعةُ أئِمَّةٍ، ودَخل أهلُ الحَقِّ في هذه الشَّرائِعِ المَذكورةِ
[3402] يقصد بأهلِ الحَقِّ: الدُّروزَ. . وأمَّا ظهورُ أبي زكريا وعَليًّا
[3403] كذا بالأصل. والمَعلِّ، كان بإمامةٍ مَستورةٍ في دَورِ مُحَمَّدِ بنِ إسماعيلَ، ثُمَّ بَعدَ سَعيدٍ المَهديِّ ظَهر البارُّ سُبحانَه في مَقامِ القائِمِ والمَنصورِ والمُعِزّ والعَزيزِ، وذلك في الخِلافةِ الظَّاهرةِ والإمامةِ الباطِنةِ.
وأمَّا مَقامُ الحاكِمِ فظَهَرَ بالثَّلاثِ مَنازِلِ المَذكورةِ، ثُمَّ تَجَرَّدَ بالوحدانيَّةِ وكشَف تَوحيدَه مُدَّةً مِنَ السِّنينَ، ثُمَّ أعطى الخِلافةَ والإمامةَ لعَليٍّ الظَّاهرِ
[3404] يقصد خليفةَ الحاكِمِ وابنَه عَليًّا. ، الذي هو الدَّجَّالُ، وأعطى الإمامةَ الحَقيقيَّةَ إلى صاحِبِها الذي هو القائِمُ المُنتَظَرُ حَمزةُ بنُ عَليٍّ صَلَّى اللَّه عليه)
[3405] مخطوط ((ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد))، مخطوط في مكتبة القِدِّيس بولس في الجامعةِ الأمريكية ببيروت (رقم 206) ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 715). .
ومِمَّا يُذكرُ أنَّ حَمزةَ أيضًا وجَميعَ الحُدودِ الآخَرينَ كانوا يَظهَرونَ بزَعمِهم في تلك الأدوارِ بأسماءٍ وصوَرٍ مُختَلفةٍ.
وفي "رِسالة السُّؤالِ والجَوابِ" هذا الحِوارُ أيضًا عنِ المَقاماتِ النَّاسوتيَّةِ التي ظَهَرَ بها اللَّاهوتُ:
س: كم مَرَّةً ظَهَرَ مَولانا الحاكِمُ بالصُّورةِ الجُسمانيَّةِ؟
ج: ظَهَرَ عَشرَ مِرارٍ، وتَسَمَّى بالمَقاماتِ، وهم: العَليُّ، البارُّ، عَليًّا، المُعلُّ، القائِمُ، المُعِزُّ، العَزيزُ، أبو زَكريَّا، المَنصور الحاكِمِ.
س: فأوَّلُ المَقاماتِ الذي هو العَليُّ، أينَ ظَهَرَ؟
ج: ظَهَرَ في الهندِ في مَدينةٍ يُقالُ لها حينَ ما حينَ.
س: والبارُّ أينَ ظَهَرَ؟
ج: بالعَجَمِ في مَدينةٍ يُقالُ لها أصبهانُ، ولأجلِ هذا تَقولُ الفُرسُ بارخدا، وعَليًّا ظَهَرَ في اليمَنِ، والمُعلُّ ظَهَرَ بالمَغرِبِ في صورةِ رَجُلٍ مُكاري على ألفِ جَمَلٍ، والقائِمُ ظَهَرَ بالمَغرِبِ في مَدينةٍ يُقالُ لها المَهديَّةُ
[3406] مدينة اختطَّها المهديُّ عبدُ اللهِ، وهي قربَ القَيروانِ. ، ومِنها جاءَ إلى مِصرَ، وأبو زَكريَّا والمَنصورُ ظَهرا في المَنصورةِ
[3407] وهي في موضِعَينِ؛ الأوَّلُ: في أرضِ السِّندِ، والثَّانيةُ أيضًا قُربَ القيروانِ في إفريقيَّةِ استحدثها المنصورُ بنُ القائِمِ بنِ المهديِّ بالمغربِ سنةَ 337هـ. والمَنصورُ كان اسمُه إسماعيلَ.
س: وكيف نَقولُ في باقي المَلَلِ الذين يقولونَ: إنَّنا نَعبُدُ الرَّبَّ الذي خَلَقَ السَّماءَ والأرضَ؟
ج: ولو قالوا ذلك لا يصِحُّ مَعَهم؛ لأنَّ العِبادةَ لا تَصِحُّ بلا مَعرِفةٍ، ولو قالوا عَبَدْنا ولَم يعرِفوا أنَّ الرَّبَّ هو الحاكِمُ بذاتِه، فتَكونُ عِبادَتُهم كاذِبةً
[3408] ((رسالة السؤال والجواب)) مخطوط في مكتبة القديس بولس في الجامعة الأمريكية ببيروت (رقم 206)، وعنه شريط في الجامعة الأردنية (رقم 715). .
قال الدُّكتور مُحَمَّد كامِل حُسَين: (ليس لنا أن نُناقِشَ هذه العَقيدةَ إلَّا أنَّنا نُحِبُّ أن نُسَجِّلَ أنَّ ظُهورَ أبي زَكريَّا القِرْمِطيِّ كان أسبَقَ مِن ظُهورِ القائِمِ بأمرِ اللَّهِ. ثُمَّ قَولُهم في "رِسالةِ السِّيرةِ المُستَقيمةِ": إنَّ القائِمَ كان بمِصرَ وبَنى بها بابًا يُسَمَّى الرَّشيديَّةَ، كُلُّ ذلك بَعيدٌ عنِ الحَقيقةِ التَّاريخيَّةِ، حَقيقةً حاولَ القائِمُ بأمرِ اللَّهِ فتَحَ مِصرَ أكثَرَ مِن مَرَّةٍ، ولكِنْ لم يوفَّقْ، فكيف أقامَ بها وشَيَّدَ بها بابًا؟)
[3409] ((طائفة الدروز)) (ص: 107). .
والدَّارِسُ لرَسائِلِ الدُّروزِ -وخاصَّةً رَسائِلَ حَمزةَ- يجِدُ عَدَدًا مِنَ المُغالَطاتِ التَّاريخيَّةِ التي اتَّبَعَها حَمزةُ في إثباتِ مُعتَقداتِه، وخُصوصًا عِندَما يتَحَدَّثُ عن ظهوراتِه أيضًا في المَقاماتِ المُختَلفةِ مِن زَمَنِ آدَمَ عليه السَّلامُ إلى زَمَنِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
والمَقامُ الأخيرُ مِن ظُهورِ اللَّاهوتِ بالنَّاسوتِ عِندَ الدُّروزِ -وهو ظُهورُ الحاكِمِ- كان هو الظُّهورَ الأخيرَ مِن ظُهورِ المَعبودِ؛ لأنَّ المَعبودَ غَضِبَ بَعدَ ذلك على كُلِّ خلقِه ما عَدا الموحِّدينَ؛ ولذلك أغلَقَ بابَ دَعوتِه، فغابَ إلى داخِلِ السُّورِ المُسَمَّى (سَدَّ الصِّينِ) ليبقى إلى أن يشاءَ، ثُمَّ يظهَرُ يومَ الدِّينِ. وهذا ما قاله حَمزةُ في (رِسالةِ الأسرارِ ومَجالسِ الرَّحمةِ والأولياءِ)، أمَّا مَتى سَيكونُ يومُ الدِّينِ، فهذا تحَدَّث عنه حَمزةُ مِرارًا بأنَّه سَيكونُ قَريبًا، وبذلك يكونُ انتِهاءُ هذا الدَّورِ كما صَرَّحَ حَمزةُ بأنَّ الأدوارَ السَّابقةَ سَبعونَ دَورًا، ومِن كُلِّ دَورٍ واحِدٌ وسَبعونَ أُسبوعًا، وكُلُّ أُسبوعٍ سَبعونَ سَنةً، وكُلُّ سَنةٍ ألفُ سَنةٍ مِنَ السِّنينَ التي يَعُدُّها البَشَرُ
[3410] بعمليَّةٍ حسابيَّةٍ يكونُ عدَدُ تلك السِّنينَ هو (343) مليونًا، وهذا يتطابَقُ مع ما قاله كمال جنبلاط من أنَّ الموحِّدين ظهَروا منذ (343) مليونًا من السنين. يُنظر: ((هذه وصيتي)) (ص: 99). . وفي كُلِّ هذه الأدوارِ ظَهر المَعبودُ في نَفسِ الصُّورِ التي ظَهَرَ في هذا الدَّورِ الذي نَعيشُ فيه، وبذلك يكونُ عَدَدُ ظُهورِ المَعبودِ في كُلِّ الأدوارِ حَوالَي سَبعِمِائةِ مَرَّةٍ
[3411] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 109). .
وقال المُقتَني بَهاءُ الدِّينِ عن يومِ الدِّينِ بحَسَبِ مُعتَقَدِه: (أنتم تَعلَمونَ مَعاشِرَ الإخوانِ، وفَّقَكمُ المَولى لطاعَتِه وسَدَّدَكم لمَرضاتِه، أنْ قد صَحَّ عِندَكم أنَّ الدُّنيا قد أفناها مَولانا الحاكِمُ سُبحانَه، وأنَّكم في أوائِلِ الآخِرةِ، ودَليلُكم على ذلك واضِحٌ، وذلك أنَّ مَولانا سُبحانَه أظهَرَ لَكم إمامَ تَوحيدِه فنادى بكم وأرشَدَكم... واعلَموا مَعاشِرَ الإخوانِ، أنْ لو كان المَعبودُ سُبحانَه ينتَقِلُ بَعدَ هذا الظُّهورِ في الأقمِصةِ المُختَلفةِ لَكان هذا أمر لا نَفاذَ له، وأمَد لا آخِرَ له، وكانت تَنفذُ الدِّيانةُ الآنَ، ويكونُ هذا يدُلُّ على أنَّ مَن عَمِلَ عَمَلًا لمَ يُجازى عليه مِن ضِدٍّ ووليٍّ)
[3412] ((رسالة بني أبي حمار)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (2/ 341- 343). وبنو أبي حمارٍ المقصودُ بهم هنا، كما في التعريفِ بهم في ((رسائل الحكمة)) (2/ 340): (جماعةٌ من حلَبٍ آمنَتْ بالتَّوحيدِ، فاختلفوا مع جيرانِهم ورحلوا إلى دِمَشقَ؛ حيث مقابِرُهم مزاراتٌ للمُؤمِنين). .
وقد نَظَمَ أحَدُ حُدودِهم، وهو إسماعيلُ بنُ مُحَمَّدٍ التَّميميُّ صِهرُ حَمزةَ، شِعرًا يُمَجِّدُ فيه الحاكِمَ، فقال:
إلى غايةِ الغاياتِ قَصدي وبُغيتي
إلى الحاكِمِ العالي على كُلِّ حاكِمِ
إلى الحاكِمِ المَنصورِ عُوجوا وأَمِّموا
فليس فتى التَّوحيدِ فيه يُنادِمُ
هو الحاكِمُ الفردُ الذي جَلَّ اسمُه
وليس له شَبَهٌ يُقاسُ بحاكِمٍ
حَكيمٍ عَليمٍ قادِرٍ مالكِ الورى
يُؤانِسُ بالاسمِ المُشاعِ بحاكِمٍ
هو الحاكِمُ المَولى بناسوتِه يُرى
ولاهوتُه يأتي بكُلِّ العَظائِمِ
تَسَمَّى إمامًا والإمامُ فعَبدُه
تَيقَّظْ ولا تُصغي إلى كُلِّ نائِمِ
وقد ظَهَرَ المَولى فآنَسَ عَبيدَه
بأفعالِهم أُنسًا بحِكمةِ حاكِمِ
ظُهورًا بأفعالِ العَبيدِ وشَكلِهم
ويُؤنِسُهم والخَلقُ شِبهُ البَهائِمِ
[3413] ((شعر النفس)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 288). .
إنَّ الاعتِقادَ بتَجَسُّدِ الإلهِ في صورةِ الحاكِمِ بأمرِ اللَّهِ، وأنَّ اللَّاهوتَ حَلَّ في النَّاسوتِ على هذه الصُّورةِ: هو اللَّبِنةُ الرَّئيسيَّةُ التي تَقومُ عليها أركانُ العَقيدةِ الدَّرْزيَّةِ، وفِكرةُ الحُلولِ أصلًا مُستَقاةٌ مِنَ الفلسَفةِ اليونانيَّةِ، وتَكادُ تَكونُ عُنصُرًا رئيسيًّا في الفلسَفةِ الهنديَّةِ، (والمَسيحيَّةُ استَمَدَّت هذه الفِكرةَ مِنَ الهِندوكيَّةِ)
[3414] ((المؤامرة على الإسلام)) للجندي (ص: 53). .
قال ابنُ تيميَّةَ عن هذه الفِكرةِ: (لا رَيبَ أنَّ هذا القَولَ -الحُلولَ والتَّجسيدَ- كُفرٌ صَريحٌ باتِّفاقِ المُسلمينَ؛ فقد ثَبَتَ في صَحيحِ
مُسلمٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «واعلَموا أنَّ أحَدًا مِنكم لَن يرى رَبَّه حتَّى يموتَ»
[3415] أخرجه مسلم (169) من حديثِ بعضِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. بلفظِ: ((تَعَلَّموا أنَّه لن يرى أحدٌ منكم ربَّه عزَّ وجَلَّ حتى يموتَ)). [3416] ((مجموع الفتاوى)) (2/ 179، 180). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (الخالِقُ والمَخلوقُ إذا اتَّحَدا؛ فإن كانا بَعدَ الاتِّحادِ اثنَينِ كما كانا قَبلَ الاتِّحادِ، فذلك تَعَدُّدٌ وليس باتِّحادٍ، وإن كانا استَحالا إلى شَيءٍ ثالثٍ، كما يتَّحِدُ الماءُ واللَّبَنُ والنَّارُ والحَديدُ ونَحوُ ذلك مِمَّا يُثبتُه النَّصارى بقَولِهم في الاتِّحادِ، لَزِمَ مِن ذلك أن يكونَ الخالقُ قدِ استَحالَ وتَبَدَّلَت حَقيقَتُه كسائِرِ ما يتَّحِدُ مَعَ غَيرِه؛ فإنَّه لا بُدَّ أن يستَحيلَ. وهذا مُمتَنِعٌ على اللَّهِ تعالى يُنَزَّه عنه؛ لأنَّ الاستِحالةَ تَقتَضي عَدَمَ ما كان مَوجودًا، والرَّبُّ تعالى واجِبُ الوُجودِ بذاتِه وصِفاتِه اللَّازِمةِ له، يمتَنِعُ العَدَمُ على شَيءٍ مِن ذلك، ولأنَّ صِفاتِ الرَّبِّ اللَّازِمةَ له صِفاتُ كَمالٍ، فعَدَمُ شَيءٍ مِنها نَقصٌ يتعالى اللَّهُ عنه، ولأنَّ اتِّحادَ المَخلوقِ بالخالقِ يقتَضي أنَّ العَبدَ مُتَّصِفٌ بالصِّفاتِ القديمةِ اللَّازِمةِ لذاتِ الرَّبِّ، وذلك مُمتَنِعٌ على العَبدِ المُحدَثِ المَخلوقِ؛ فإنَّ العَبدَ يلزَمُه الحُدوثُ والافتِقارُ والذُّلُّ)
[3417] ((مجموع الفتاوى)) (2/ 339). ويُنظر أيضًا: ((المؤامرة على الإسلام)) لأنور الجندي (ص: 54). .
وذَكرَ
الغَزاليُّ أنَّ قَولَ القائِلِ: إنَّ العَبدَ صارَ هو الرَّبَّ، كلامٌ يتَناقَضُ مَعَ نَفسِه، بل ينبَغي أن يُنَزَّهَ الرَّبُّ سُبحانَه عن أن يجريَ اللِّسانُ في حَقِّه بأمثالِ هذه المُحاولاتِ!
وطَريقةُ البَرهَنةِ على فسادِ ذلك عِندَ
الغَزاليِّ هي أن يورِدَ ثَلاثةَ احتِمالاتٍ لمِثلِ هذا الاتِّحادِ المَزعومِ:
1- إمَّا أن تَظَلَّ كُلُّ ذاتٍ مِنَ الذَّاتَينِ مَوجودةً.
2- وإمَّا أن تَفنى إحداهما وتَبقى الأُخرى.
3- وإمَّا أن تَفنَيا مَعًا.
وفي الحالةِ الأولى لا يكونُ هناك اتِّحادٌ، وفي الثَّانيةِ كيف يُمكِنُ الزَّعمُ بأنَّ هناك اتِّحادًا بَين مَوجودٍ ومَعدومٍ؟ وفي الثَّالثةِ: لا يكونُ هناك مَحَلٌّ للحَديثِ عنِ الاتِّحادِ، بل الأَولى أن نَتَكلَّمَ عنِ الانعِدامِ، والتَّناقُضُ واضِحٌ في جَميعِ هذه الاحتِمالاتِ
[3418] ((المقصد الأسنى)) (ص: 152). ويُنظر أيضًا: ((المؤامرة على الإسلام)) لأنور الجندي (ص: 55). .
وفي القُرآنِ الكريمِ مَواقِفُ كثيرةٌ تَكشِفُ عِظَمَ هذا القَولِ واجتِراءَه على اللَّهِ، فقال اللَّهُ تعالى عنِ اليهودِ:
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: 55] .
ولهذا جاءَتِ الآيةُ الكريمةُ التَّاليةُ كاشِفةً كُفرَ اليهودِ والنَّصارى بما قالوا واعتَقدوا في هذا المَوضوعِ:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31 -32] .
وبَيَّنَ اللَّهُ تعالى حَقيقةَ ذاتِه فقال:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصيِرُ [الشورى: 11] .
وإرسالُ الرُّسُلِ والأنبياءِ مِن قِبَلِ اللَّهِ تعالى يَدحَضُ كُلَّ مَزاعِمِهم بالحُلولِ والاتِّحادِ؛ إذ بظُهورِه أوِ اتِّحادِه في الإنسانِ، ما كانت هناك حاجةٌ للرُّسُلِ والأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ!
ولو أنَّ هؤلاء الذين لا زالوا يعتَقِدونَ بأُلوهيَّةِ الحاكِمِ، ولا زالوا في الضَّلالاتِ والمَتاهاتِ التي وضَعَها حَمزةُ بنُ عَليٍّ ومَن مَعَه، أصغَوا إلى نِداءِ عُقولِهم ما بَقِيَ واحِدٌ مِنهم على هذا الاعتِقادِ الواهي، الذي لا يُصَدِّقُه عَقلٌ سَليمٌ، ولا تَستَسيغُه نَفسٌ سَويَّةٌ.