المَبحَثُ التَّاسِعُ: بَيانُ خَطَرِالنُّصَيريَّةِ وخياناتِهم
النُّصَيريَّةُ هي إحدى الفِرَقِ الباطِنيَّةِ الموغِلةِ في غُلوِّها، ظَهَرَت في القَرنِ الثَّالثِ للهجرةِ، وانشَقَّت عن فِرقةِ الإماميَّةِ الاثنَي عَشريَّةِ.
والنُّصَيريُّونَ كغَيرِهم مِن أعداءِ العَقيدةِ الإسلاميَّةِ الذين يتَرَبَّصونَ بالمُسلمينَ الدَّوائِرَ؛ إذ لا تَمُرُّ بهم فُرصةٌ إلَّا ويهتَبِلونها في إيقاعِ أكبَرِ الأذى بالمُسلمينَ، والنُّصَيريُّونَ حينَما يوقِعونَ الأذى بالمُسلمينَ دونَ هَوادةٍ أو رَحمةٍ يعتَقِدونَ في نَفسِ الوقتِ أنَّهم يثابون على ذلك، فكُلَّما أوغَل الشَّخصُ منهم في إلحاقِ الأذى بالمُسلمينَ زادَ ثَوابُه حَسَبَ اعتِقادِهم، وهذا ظاهِرٌ في غِلظَتِهم ومُعامَلتِهم للمُسلمينَ.
وما مِن فِتنةٍ تَثورُ ضِدَّ المُسلمينَ مِن أهلِ السُّنَّةِ إلَّا وهؤلاء النُّصَيريُّونَ في خَندَقٍ واحِدٍ مَعَ عَدوِّ المُسلمينَ ضِدَّ المُسلمينَ، وكم ذَهَبَت مِن أنفُسٍ واستُبيحَت مِن أعراضٍ بسَبَب دَسائِسِالنُّصَيريَّةِ وتَآمُرِهم في وقائِعَ تَقشَعِرُّ منها الجُلودُ، وبَينَهم وبَينَ اليهودِ والنَّصارى مَودَّةٌ!
وعِندَما قدِمَ الغَزوُ الصَّليبيُّ على بلادِ المُسلمينَ للسَّيطَرةِ على الأماكِنِ المُقدَّسةِ، وكانت جُموعُهمُ الأولى تُحاصِرُ مَدينةَ أنطاكيةَ التي استَماتَت في الدِّفاعِ ضِدَّ هَجَماتِ الصَّليبيِّينَ المُتَكرِّرةِ عليها، لم يقِفِ النُّصَيريُّونَ مَكتوفي الأيدي، بل وجَدوا الفُرصةَ مُناسِبةً ولن تُعَوَّضَ للانتِقامِ مِن أهلِ السُّنَّةِ عن طَريقِ التَّحالُفِ مَعَ الصَّليبيِّينَ وتَقديمِ العَونِ لهم، فنَجِدُهم ينزِلونَ إلى السَّواحِلِ مِن جِبالهمُ التي كانوا يعتَصِمونَ بها؛ لكي يُلاقوا الصَّليبيِّينَ ويُقدِّموا لهم ما يحتاجونَ!
وبدلًا مِن أن يقِف النُّصَيريُّونَ إلى جانِبِ المُدافِعينَ عن أنطاكيةَ ويكونوا عَونًا لهم ضِدَّ العَدوِّ الغاشِمِ حَدَّثَتهم أنفُسُهم بالخيانةِ، فبَعدَ حِصارٍ طَويلٍ استَمَرَّ قُرابةَ سَبعةِ أشهرٍ على أنطاكيةَ مِن قِبَلِ الصَّليبيِّينَ أمامَ أسوارِ أنطاكيةَ لدَرَجةِ أنَّ الفوضى وسوءَ النِّظامِ دَبَّت بَينَ الجُندِ نَتيجةً لتَأثيرِ الجوعِ والإنهاكِ، فأخَذَ بَعضُ الصَّليبيِّينَ يفِرُّونَ مِنَ المَعرَكةِ ويتَسَلَّلونَ خُفيةً هارِبينَ، وفي هذا المَوقِفِ الحَرِجِ في هذه الفترةِ اتَّصَل الزَّعيمُ النُّصَيريُّ فيروزٌ الذي كان موكَّلًا بحِراسةِ أحَدِ أبراجِ المَدينةِ مِن قِبَلِ الأميرِ ياغيسيانَ بالقائِدِ الصَّليبيِّ بوهيموند على تَسليمِ البُرجِ إليه ودُخولِ المَدينةِ منه، والاستيلاءِعليها، فتَمَّ الاتِّفاقُ بَينَهما على ذلك، وعِندَ الفجرِ تَسَلَّقَ بوهيموند وأصحابُه السَّلالمَ صاعِدينَ إلى البُرجِ؛ حَيثُ كان ينتَظِرُهم فيروزٌ، وبمُساعَدَتِه استَطاعوا أن يحتَلُّوا باقَي الأبراجِ وتَمَكَّنوا مِنَ احتِلالِ المَدينةِ بكامِلِها فأعمَلوا السَّيفَ في أهلِها، ونَهَبوا كُلَّ ما وقَعَت عليه أيديهم، وهَكذا تَمَكَّنَ الصَّليبيُّونَ مِنَ الاستيلاءِ على أنطاكيةَ بمُساعَدةِ الزَّعيمِ النُّصَيريِّ فيروزٍ، ولو لم يجِدِ الصَّليبيُّونَ هذا الرَّجُلَ الخائِنَ الذي أعانَهم على فتحِ المَدينةِ لكان حِصارُهم لها قد طال كثيرًا، ولكانتِ النَّتيجةُ غَيرَ ما آلت إليه بَعدَ ذلك
[3679] يُنظر: ((مرآة الزمان في تواريخ الأعيان)) لسبط ابن الجوزي (19/ 491)، ((طائفة النصيرية)) للحلبي (ص: 109)، ((دراسات في الفرق)) لعبد الله الأمين (ص: 128)، ((الحروب الصليبية في المشرق)) لبرجاوي (ص: 135). !
ومِنَ المُلاحَظِ في تاريخِ الفِرَقِ الباطِنيَّةِ أنَّ هذه الفِرَقَ كانت دائِمًا تَتَحالفُ مَعَ أيِّ عَدوٍّ للمُسلمينَ، وتُقدِّمُ لهمُ العَونَ في سَبيلِ القَضاءِ على أهلِ السُّنَّةِ، وهذا ما أشارَ إليه فيليب حتَّى في مَعرِضِ كلامِه عن بَعضِ الطَّوائِفِ والفِرَقِ، فقال: (ثُمَّ إنَّ العناصِرَ الإسلاميَّةَ المُنشَقَّةَ مِن شيعةٍ وإسماعيليَّةٍ ونُصَيريَّةٍ عَمَدوا في مُناسَباتٍ عَديدةٍ على نَقضِ ولائِهم بتَقديمِ العَونِ إلى الإفرِنجِ)
[3680] ((تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين)) (2/259). .
ومِمَّا يدُلُّ أيضًا على تَعامُلِ النُّصَيريِّينَ مَعَ الصَّليبيِّينَ ومُساعَدَتِهم لهم ما ذَكرَه
مُحَمَّد أبو زهرة، فقال: (كانت النُّصَيريَّةُ عِندَ الهُجومِ الصَّليبيِّ على العالمِ الإسلاميِّ عَونًا للصَّليبيِّينَ ضِدَّ المُسلمينَ، ولمَّا استَولى الصَّليبيُّونَ على بَعضِ البلادِ الإسلاميَّةِ قَرَّبوهم وأدنَوهم، وجَعَلوا لهم مَكانًا مَرموقًا. وعِندَما تَوحَّدَتِ الجَبهةُ الإسلاميَّةُ في وجهِ الصَّليبيِّينَ على يدِ قادةِ الجِهادِ الإسلاميِّ أمثالِ نورِ الدِّينِ مَحمود، و
صَلاحِ الدِّينِ الأيُّوبيِّ اختفى هؤلاء عنِ الأعيُنِ واعتَصَموا بجِبالهم، واقتَصَرَ عَمَلُهم على تَدبيرِ المَكايِدِ والفِتَنِ، والفتكِ بكُبَراءِ المُسلمينَ وقوَّادِهمُ العِظامِ. ولمَّا أغارَ التَّتارُ بَعدَ ذلك على الشَّامِ مالأهم أولئك النُّصَيريُّونَ كما مالؤوا الصَّليبيِّينَ مِن قَبلُ، فمَكَّنوا للتَّتارِ مِنَ الرِّقابِ حتَّى إذا انحَسَرَت غاراتُ التَّتارِ قَبَعوا في جِبالهم قُبوعَ القَواقِعِ في أصدافِها لينتَهزوا فُرصةً أُخرى)
[3681] ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/64). .
ومِن خياناتِهم أيضًا: أنَّه في سَنةِ 696هـ تَواتَرَتِ الأخبارُ بقَصدِ التَّتارِ بلادَ الشَّامِ، فخاف النَّاسُ مِن ذلك خَوفًا شَديدًا وخَرَجَ جَيشٌ مِن دِمَشقَ للقاءِ التَّتارِ، فالتَقَيا عِندَ وادي سَلَمِيَةَ، فكسَرَ التَّتارُ المُسلمينَ، وولَّى السُّلطانُ قازانُ هارِبًا وقُتِل جَماعةٌ مِنَ الأُمَراءِ، وغَيرُهم مِنَ العَوامِّ خَلقٌ كثيرٌ، واقتَرَبَتِ التَّتارُ مِنَ البَلدِ، وكثُرَ العَبَثُ بالفسادِ في ظاهرِ البَلدِ، ثُمَّ فُرِضَت أموالٌ كثيرةٌ موزَّعةٌ على أهلِ الأسواقِ، كُلُّ سوقٍ بحَسَبِه مِنَ المالِ، ثُمَّ عَمِل التَّتارُ المَجانيقَ ليرموا بها القَلعةَ، وحَلَّ الفزَعُ بالنَّاسِ، فلزِموا بُيوتَهم، وكان لا يُرى بالطُّرُقاتِ أحَدٌ إلَّا القَليلُ، والجامِع لا يُصَلِّي فيه أحَدٌ إلَّا اليسيرُ، ويومُ الجُمعةِ لا يتَكامَلُ فيه إلَّا الصَّفُّالأوَّلُ وما بَعدَه إلَّا بجُهدٍ جَهيدٍ، ومَن خَرَجَ مِن مَنزِلِه في ضَرورةٍ يخرُجُ بثيابِ زيِّهم، ثُمَّ يعودُ سَريعًا، ويظُنُّ أنَّه لا يعودُ إلى أهلِه، وكان ذلك بتواطُؤِ النُّصَيريِّينَ مَعَ التَّتارِ، وعلى رَأسِهم يومَئِذٍ الشَّريفُ القُمِّيُّ مُحَمَّد بنُ أحمَدَ بنِ القاسِم المُرتَضى العَلويُّ، والأصيلُبنُنَصيرٍ الطُّوسيُّ، والذي قَبَضَ ثَمَنَ هذه الخيانةِ مِئَتَي ألفِ دِرهَمٍ
[3682]يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (17/ 724). .
وحينَ كان هذا العَلَويُّ (النُّصَيريُّ) يخونُ كان رِجالُ أهلِ السُّنَّةِ -وعلى رَأسِهمُ ابنُ تيميَّةَ- ينفُخونَ روحَ الإيمانِ في الأُمَّةِ، ويخرُجونَ للجِهادِ بأنفُسِهم، حتَّى أنَّه في هذه الواقِعةِ السَّالفةِ عِندَما حاصَرَ التَّتارُ قَلعةَ دِمَشقَ وطَلب السُّلطانُ مِن نائِب القَلعةِ تَسليمَها إلى التَّتارِ، امتَنَعَ النَّائبُ؛ لأنَّ ابنَ تيميَّةَ قد قال له: لا تُسَلِّمْها ولو لم يَبقَ فيها إلَّا حَجَرٌ واحِدٌ، وكان ذلك في مَصلحةِ المُسلمينَ؛ فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ حَفِظَ لهم هذا الحِصنَ والمَعقِلَ الذي جَعَله اللهُ حِرزًا لأهلِ الشَّامِ التي لا تَزالُ دارَ أمانٍ وسُنَّةٍ حتَّى ينزِلَ بها عيسى بنُ مَريمَعليه السَّلامُ
[3683] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (17/ 720). .
وشاءَ اللهُ تعالى أن تَتَحَرَّكَ العَساكِرُ مِنَ الدِّيارِ المِصريَّةِ لنُصرةِ أهلِ الشَّامِ، فلمَّا سَمعَ التَّتارُ انشَمَروا عنها، ثُمَّ سارَ نائِبُ السُّلطةِ في جَيشِ دِمَشقَ إلى جِبالِ الجردِ وكسروانَ "وهي الجِبالُ التي كان يَسكُنُها العَلويُّونَ وعُرِفَت بَعدُ باسمِهم"، وخَرَجَ
تَقيُّ الدِّين بنُ تيميَّةَ ومَعَه خَلقٌ كثيرٌ مِنَ المُتَطَوِّعةِ لقِتالِ أهلِ تلك النَّاحيةِ بسَبَبِ فسادِ نيَّتِهم وعَقائِدِهم وكُفرِهم وضَلالِهم وما كانوا عامَلوا به العَساكِرَ لَمَّا كسرهمُ التَّتارُ، وهَرَبوا حينَ اجتازوا بلادَهم، ووثَبوا عليهم ونَهَبوهم وأخَذوا أسلحَتَهم وخُيولَهم، وقَتَلوا كثيرًا منهم، فلمَّا وصَلوا إلى بلادِهم جاءَ رُؤَساؤُهم إلى الشَّيخِ ابنِ تيميَّةَ فاستَتابَهم وبَيَّن للكثيرينَ منهمُ الصَّوابَ، وجُعِل بذلك خَيرٌ كثيرٌ وانتِصارٌ كبيرٌ على أولئك المُفسِدينَ، والتَزَموا برَدِّ ما كانوا أخَذوا مِن أموالِ الجَيشِ، وقَرَّرَ عليهم أموالًا كثيرةً يحمِلونَها إلى بَيتِ المالِ
[3684] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (17/ 730). .
ومِن خياناتِهم: أنَّه في سَنةِ 705هـ كمَنَ الجَيشُ التَّتاريُّ لجَيشِ حَلَبَ، فقَتَلوا منهم خَلقًا مِنَ الأعيانِ وغَيرِهم، ولمَّا كانت قد ثَبَتَت خيانةُ العَلويِّينَ الذين يسكُنونَ بلادَ الجَردِ سارَ إليهم نائِبُ السَّلطَنةِ بمَن بَقيَ مَعَه مِنَ الجُيوشِ الشَّاميَّةِ، وكان قد تَقدَّم بَينَ يدَيه طائِفةٌ مِنَ الجَيشِ مَعَ ابنِ تيميَّةَ، فساروا إلى بلادِ الجرِد لغَزوِهم، فنَصَرَهمُ اللهُعليهم، وأبادوا كثيرًا منهم ومِن فِرَقِهمُ الضَّالَّةِ، ووطِئوا أراضيَ كثيرةً مِن بلادِهم
[3685] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (18/ 50). .
ومِن خياناتِ النُّصَيريِّينَ أيضًا: ما ذَكرَه
ابنُ كثيرٍ في أحداثِ سَنةِ 717هـ: (وفي هذه السَّنةِ خَرَجَتِ النُّصَيريَّةُ عنِ الطَّاعةِ، فأقاموا مِن بَينِهم رَجُلًا سَمَّوه مُحَمَّدَ بنَ الحَسَنِ المَهديَّ القائِمَ بأمرِ اللهِ، وتارةً يدَّعي أنَّه عَليُّ بنُ أبي طالبٍ فاطِرُ السَّمَواتِ والأرضِ، تعالى اللهُ عَمَّا يقولونَ عُلوًّا كبيرًا، وتارةً يدَّعي أنَّه مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ صاحِبُ البلادِ، وصَرَّح بكُفرِ المُسلمينَ، وأنَّ النُّصَيريَّةَ على الحَقِّ، واحتَوى هذا الرَّجُلُ على عُقولِ كثيرٍ مِن كِبارِ النُّصَيريَّةِ الضُّلَّالِ، وعَيَّن لكُلِّ إنسانٍ منهم تقدِمةَ ألفٍ وبلادًا كثيرةً، ونيابةَ قَلعةٍ، وحَمَلوا على مَدينةِ جَبلةَ، فدَخَلوها، وقَتَلوا خَلقًا من أهلِها، وخَرَجوا منها يقولونَ: لا إلهَ إلَّا عَليٌّ، ولا حِجابَ إلَّا مُحَمَّدٌ، ولا بابَ إلَّا سَلمانُ، وسَبُّوا الشَّيخَينِ، وصاحَ أهلُ البَلدِ: واإسلاماه، واسُلْطاناه، واأميراه، فلم يكُنْ لهم يومَئِذٍ ناصِرٌ ولا مُنجِدٌ، وجَعَلوا يبكونَ ويتَضَرَّعونَ إلى اللهِ عَزَّ وجَل، فجَمع هذا الضَّالُّ تلك الأموالَ فقَسَّمها على أصحابِه وأتباعِه، قَبَّحَهمُ اللهُ أجمَعينَ، وقال لهم: لم يبقَ للمُسلمينَ ذِكرٌ ولا دَولةٌ، ولو لم يَبقَ مَعي سِوى عَشَرةِ نَفرٍ لمَلَكْنا البلادَ كُلَّها.
ونادى في تلك البلادِ: إنَّ المُقاسَمةَ بالعُشرِ لا غَيرُ ليُرَغِّبَ الفلاحينَ فيه، وأمر أصحابَه بخَرابِ المَساجِدِ، واتِّخاذِها خَمَّاراتٍ، وكانوا يقولونَ لمَن أسَروه مِنَ المُسلمينَ: قُلْ: لا إلهَ إلَّا عَليٌّ، واسجُدْ لإلهِك المَهديِّ الذي يُحيي ويُميتُ حتَّى يحقَنَ دَمُك، ويُكتَبَ لك فرَمانٌ! وتجَهَّزوا، وعَمِلوا أمرًا عَظيمًا جِدًّا، فجُرِّدَت إليهمُ العَساكِرُ فهَزَموهم، وقَتَلوا منهم خَلقًا كثيرًا، وجَمًّا غَفيرًا، وقُتِل المَهديُّ الذي أضَلَّهم، وهو يكونُ يومَ القيامةِ مُقدَّمهم وهاديَهم إلى عَذابِ السَّعيرِ)
[3686] ((البداية والنهاية)) (18/ 168، 169). .
ومِن خياناتِ النُّصَيريِّينَ أيضًا: ما ورَدَ في كِتابِ (تاريخُ العَلويِّينَ) لمُؤَلِّفِه النُّصَيريِّ (مُحَمَّد أمين غالب الطَّويل)، ومِمَّا يُثيرُ العَجَبَ أنَّ هذا النُّصَيريَّ يُسَمِّي الخيانةَ وسيلةً ويُبَرِّرُها في كِتابِه السَّابقِ، فقال: (ولمَّا كان لا بُدَّ للضَّعيفِ المَظلومِ مِنَ التَّوسُّلِ بالخيانةِ؛ لكي يُحافِظَ على حُقوقِه أو يستَرِدَّها -وهذا أمرٌ طَبيعيٌّ يُساقُ إليه كُلُّ إنسانٍ- كان العَلويُّونَ كُلَّما غَصَبَ السُّنِّيُّونَ أموالَهم وحُقوقَهم يتَوسَّلونَ بغَدرِ السُّنِّيِّينَ عِندَ سُنوحِ الفُرصةِ)
[3687] ((تاريخ العلويين)) (ص: 407). .
وقد سَنَحَتِ الفُرصةُ عِندَما جاءَ التَّتارُ إلى بَغدادَ؛ قال الطَّويل: (جاءَ تَيمورلنك بجُيوشٍ لا يُعرَفُ مقدارُها، واستَولى على الغَربِ، وفتَحَ بَغدادَ وحَلبًا والشَّامَ في سَنةِ 822 و823هـ... نَحنُ نَقولُ:إنَّ تَيمور كان عَلَويًّا «نُصَيريًّا» مَحضًا مِن جِهةِ العَقيدةِ، فإنَّه عَدا عنِ المَباحِثِ التَّاريخيَّةِ يوجَدُ له أشعارٌ دينيَّةٌ موافِقةٌ لآدابِ الطَّريقةِ الجُنبُلانيَّةِ «النُّصَيريَّةِ»، وأسبابُ دُخولِه في الطَّريقةِ هو ذَهابُ العَلويِّ العَظيمِ «النُّصَيريِّ» السَّيِّد بَرَكة مِن خُراسانَ لعِند الأميرِ تَيمور وهو في بَلدةِ بَلخٍ العَلَويَّةِ... ودامَ التَّيمورُ على الاستيلاءِ على البلادِ وشَيخُه السَّيِّدُ بَرَكة يُبَشِّرُه بدَوامِ فُتوحاتِه، حتَّى جاءَ لبَغدادَ وأخَذَها مِن يدِ السُّلطانِ أحمَد... واستَولى على الموصِلِ سَنةَ 896هـ، وبَنى بها مَراقِدَ الأنبياءِ جرجيسَ ويونُسَعليهما السَّلامُ، وجاءَ للرَّها واغتَسَل بمَحَلِّ النَّبيِّ إبراهيمَ. ثُمَّ جاءَ لماردينَ وأعطاها الأمانَ وأخذ آمِدَ السَّوداءِ، أي: ديارَ بَكرٍ... ثُمَّ أخَذَ عينتابَ والتَجَأ أميرُها لحَلبٍ... أمَّا نائِبُ حَلبٍ فهو الأميرُ العَلَويُّ «النُّصَيريُّ» تمورطاش... ودَخَل تَيمور لحَلبٍ عَنوةً... راجَعَ تَيمور أحَدُ قوَّادِه، وهو قَريبُ الرَّسولِ المَقتولِ مِن قِبَلِسيِّدي سودونَ ظُلمًا، وطَلبَ الرُّخصةَ في أخذِ الثَّأرِ، فأذِنَ له فأمعنَ في القَتلِ والنَّهبِ والتَّعذيبِ والهَدمِ مُدَّةً طَويلةً حتَّى أنشَأ مِن رؤوسِ البَشَرِ تَلَّةً عَظيمةً، وقد قُتِل جَميعُ القوَّادِ، وانحَصَرَتِ المَصائِبُ بالسُّنِّيِّينَ فقَط... ثُمَّ سافرَ تَيمور إلى الشَّامِ... وقَبلَ سَفرِه جاءَت لعِندِه العَلويَّةُ «النُّصَيريَّةُ» دُرَّةُ الصَّدَف بنتُ سَعدِ الأنصارِ ومَعَها أربَعونَ بنتًا بِكرًا مِنَ العَلويِّينَ، وهي تَنوحُ وتَبكي وتَطلُبُ الانتِقامَ لأهلِ البَيتِ وبَناتِهمُ اللَّائي جيءَ بهنَّ سَبايا للشَّامِ. وسَعدُ الأنصارِ هذا مِن رِجالِ المَلكِ الظَّاهرِ، وهو مَدفونٌ بحَلبٍ، وله قَبرٌ تَحتَ قُبَّةٍ، فوعَدَها تَيمور بأخذِ الثَّأرِ، ومَشَت مَعَه حتَّى الشَّامِ والبَناتُ العَلويَّاتِ مَعَها تَنوحُ وتَبكي ويُنشِدنَ الأناشيدَ المُتَضَمِّنةَ للتَّحريضِ لأخذِ الثَّأرِ، فكان ذلك سَبَبًا للشَّامِ بمَصائِبَ لم يُسمَعْ بمِثلِها وتَكرُّرِ القِتالِ بها... ولم ينجُ مِن قَتلِ تَيمور في الشَّامِ إلَّا عائِلةٌ واحِدةٌ مِنَ المَسيحيِّينَ، وأمَرَ تَيمور بقَتلِ السُّنِّيِّينَ واستِثناءِ العَلَويِّينَ «النُّصَيريِّينَ»... ومِن بَعدِ الشَّامِ ذَهَبَ تَيمور لبَغدادَ وقَتَل بها تِسعينَ ألفًا)
[3688] ((تاريخ العلويين)) (ص: 326- 330). .
من خياناتِ النُّصَيريِّينَ في العَصرِ الحَديثِ:إنَّ خياناتِ النُّصَيريِّينَ في العَصرِ الحَديثِ أكثَرُ مِن أن تُحصى؛ فهم دائِمًا يتَقَرَّبونَ مِنَ الاستِعمارِ ويُعاوِنونَ مَعَه في مُقابلِ الحُصولِ على بَعضِ المَكاسِبِ، فعلى سَبيلِ المِثالِ:
تَعاونَ النُّصَيريُّونَ مَعَ الاحتِلالِ الفرَنسيِّ، وكانوا خَيرَ عَونٍ لهم على الدَّولةِ العُثمانيَّةِ، وفي مُقابلِ هذا منحَ الفرَنسيُّونَ النُّصَيريِّينَ مَجموعةً مِنَ الأراضي نَعِمَت بشِبهِ استِقلالٍ، وسَمَّيت بجِبالِ العَلَويِّينَ.
وقد فاحَت رائِحةُ هذه الخيانةِ مِن خِلالِ كلامِ النُّصَيريِّينَ أنفُسِهم، وهم يعتَرِفونَ بالجَميلِ لفرَنسا، وما كان جَميلًا، بَل ثَمَنَ خيانةٍ!
قال مُحَمَّد أمين غالب النُّصَيريُّ: (إنَّ الأتراكَ همُ الذين حَرَموا هذه الطَّائِفةَ مِن ذلك الاسمِ -العَلويِّينَ- وأطلقوا عليهمُ اسمَ النُّصَيريِّينَ نِسبةً إلى الجِبالِ التي يَسكُنونَها نِكايةً بهم واحتِقارًا لهم، إلَّا أنَّ الفرَنسيِّينَ أعادوا لهم هذا الاسمَ الذي حُرِموا منه أكثَرَ مِن 412 سَنةً أثناءَ انتِدابهم على سوريا؛ إذ صَدَرَ أمرٌ مِنَ القُومسيريَّةِ العُليا في بَيروتَ بتاريخِ 1/ 9/ 1920م بتَسميةِ جِبالِ النُّصَيريِّينَ بأراضي العَلَويِّينَ المُستَقِلَّةِ)
[3689] ((تاريخ العلويين)) (ص: 391). .
ومَن أشهَرِ رؤوسِ الخَونةِ النُّصَيريِّينَ في العَصرِ الحَديثِ رَجُلٌ يُقالُ له سَلمانُ المُرشِدُ مِن قَريةِ جوبَة برغال شَرقيَّ مَدينةِ اللاذِقيَّةِ بسوريا، وكان الرَّجُلُ قدِ ادَّعى الأُلوهيَّةَ فآمَنَ به وتَبعَه كثيرٌ مِنَ النُّصَيريِّينَ. وقدِ استَماله الفرَنسيُّونَ واستَخدَموه وجَعَلوا للعَلويِّينَ نِظامًا خاصًّا، فقَويت شَوكتُه وتَلقَّبَ برَئيسِ الشَّعبِ العَلَويِّ الجبدريِّ الغَسَّانيِّ، وعَيَّن قُضاةً، وسنَّ القَوانينَ، وفرَض الضَّرائِبَ على القُرى التَّابعةِ له، وشَكَّل فِرَقًا خاصَّةً للدِّفاعِ سَمَّاهمُ الفِدائيِّينَ، وللتَّعاوُنِ الوثيقِ بَينَه وبَينَ الاحتِلالِ الفرَنسيِّ عِندَما جَلا الفرَنسيُّونَ عن سوريا تَرَكوا لهذا النُّصَيريِّ وأتباعِه مِنَ الأسلحةِ ما أغراهم بالعِصيانِ، فجَرَّدَتِ الحُكومةُ السُّوريَّةُ آنَذاك قوَّةً فتَكت ببَعضِ أتباعِه واعتَقَلتْه مَعَ آخَرينَ، ثُمَّ أُعدِمَ شَنقًا في دِمَشقَ عام 1946م
[3690] يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (3/ 170). .
ومنهمُ النُّصَيريُّ يوسُف ياسين، الذي سَعى في مُحارَبةِ الدَّولةِ العُثمانيَّةِ بخُطَبِه وأشعارِه بَل وسِلاحِه، ولمَّا احتَلَّ الإنجِليزُ فِلسطينَ عام 1918م تَطَوَّع يوسُف ياسين بالفِرقةِ التي شَكَّلها الإنجِليزُ للعَمَلِ مَعَ لورَنسِ والشَّريفِ عبدِ اللهِ بالحِجازِ لمُحارَبةِ الأتراكِ. وقد أخَذَ الإنجِليزُ فِلسطينَ فِعلًا ثُمَّ أعطَوها لليهودِ، وأقاموا فيها دَولةً
[3691] يُنظر: ((طائفة النصيرية)) للحلبي (ص: 114، 115). .
هذا عَدا خيانَتَهم للأُمَّةِ الإسلاميَّةِ بوُقوفِهم إلى جانِبِ المارونيِّينَ النَّصارى في كثيرٍ مِنَ الأحداثِ سَواءٌ في سوريا أو لُبنانَ
[3692] يُنظر: ((طائفة النصيرية)) للحلبي (ص: 114، 115). .
وفي سِجِلَّاتِ وِزارةِ الخارِجيَّةِ الفرَنسيَّةِ رَقم 3547 وتاريخها 15/ 6/ 1936م وثيقةٌ تَتَضَمَّنُ عَريضةً رَفعَها زُعَماءُ الطَّائِفةِالنُّصَيريَّةِ في سوريا إلى رَئيسِ الوُزَراءِ الفرَنسيِّ يلتَمِسونَ فيها عَدَمَ جَلاءِ فرَنسا عن سوريا، ويُشيدونَ باليهودِ الذين جاؤوا إلى فِلسطينَ، ويُؤَلِّبونَ فرَنسا ضِدَّ المُسلمينَ! وفيما يلي نَصُّ الوثيقةِ:
(دَولةَ ليوم بلوم رَئيسِ الحُكومةِ الفرَنسيَّةِ:
إنَّ الشَّعبَ العَلَويَّ الذي حافظَ على استِقلالِه سَنةً فسَنةً بكثيرٍ مِنَ الغَيرةِ والتَّضحياتِ الكبيرةِ في النُّفوسِ هو شَعبٌ يختَلفُ في مُعتَقَداتِه الدِّينيَّةِ وعاداتِه وتاريخِه عنِ الشَّعبِ المُسلمِ «السُّنِّيّ»، ولم يحدُثْ في يومٍ مِنَ الأيَّامِ أن خَضَعَ لسُلطةٍ مِنَ التَّدَخُّلِ، وإنَّنا نَلمِسُ اليومَ كيف أنَّ مواطِني دِمَشقَ يُرغِمونَ اليهودَ القاطِنينَ بَينَ ظَهرانَيهم على عَدَمِ إرسالِ المَوادِّ الغِذائيَّةِ لإخوانِهمُ اليهودِ المَنكوبينَ في فِلسطينَ، وإنَّ هؤلاء اليهودَ الطَّيِّبينَ الذين جاؤوا إلى العَرَبِ المُسلمينَ بالحَضارةِ والسَّلامِ، ونَثَروا على أرضِ فِلسطينَ الذَّهَبَ والرَّخاءَ، ولم يوقِعوا الأذى بأحَدٍ، ولم يأخُذوا شَيئًا بالقوَّةِ، ومَعَ ذلك أعلنَ المُسلمونَ «السُّنِّيُّونَ» ضِدَّهمُ الحَربَ المُقدَّسةَ بالرَّغمِ مِن وُجودِ إنكِلتِرا في فِلسطينَ وفرَنسا في سوريَّةَ. إنَّا نُقَدِّرُ نُبلَ الشُّعورِ الذي يحمِلُكم على الدِّفاعِ عنِ الشَّعبِ السُّوريِّ ورَغبَتِه في تَحقيقِ استِقلالِه، ولكِنَّ سوريا لا تَزالُ بَعيدةً عنِ الهَدَفِ الشَّريفِ خاضِعةً لروحِ الإقطاعيَّةِ الدِّينيَّةِ للمُسلمينَ «السُّنَّة»، وكُلُّ الشَّعبِ العَلَويِّ الذي مَثَّله الموقِّعونَ على هذه المُذَكِّرةِ نَستَصرِخُ حُكومةَ فرَنسا ضَمانًا لحُرِّيَّتِه واستِقلالِه ويضَعُ بَينَ يدَيها مَصيرَه ومُستَقبَلَه، وهو واثِقٌ أنَّه لا بُدَّ واجِدٌ لدَيهم سَنَدًا قَويًّا لشَعبٍ عَلَويٍّ صَديقٍ قَدَّمَ لفرَنسا خِدماتٍ عَظيمةً)
[3693] يُنظر: ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي)) للخطيب (ص: 335). .
وهَكذا كان تاريخُهم يشهَدُ بخيانَتِهم وممالأتِهم المُستَمِرَّةِ لأعداءِ الإسلامِ في الظَّاهرِ والباطِنِ.