المَبحَثُ العاشِرُ: مُقارَنةٌ بَينَ عَقائِدِ الإسماعيليِّينَ والدُّروزِ والنُّصَيريَّةِ
يُمكِنُ رُؤيةُ كثيرٍ مِن أوجُهِ الشَّبَهِ أوِ الاختِلافاتِ بَينَ عَقائِدِ تلك الحَرَكاتِ. إلَّا أنَّ الحَرَكةَ الإسماعيليَّةَ كانت هي المُغَذِّيَ الرَّئيسيَّ لكثيرٍ مِن هذه الحَرَكاتِ، بَل إنَّ الأفكارَ الرَّئيسيَّةَ المَوجودةَ في عَقائِدِ الإسماعيليَّةِ لا تَختَلفُ إلَّا في بَعضِ التَّفاصيلِ عن عَقائِدِ الفِرَقِ الأُخرى. فكافَّةُ هذه الفِرَقِ اتَّخَذَت مِنَ الفلسَفاتِ الوثَنيَّةِ مِن إغريقيَّةٍ وإسكندَرانيَّةٍ أداةً لها في إثباتِ صِحَّةِ مَزاعِمِها، ومن ثمَّ في تَشكيكِ النَّاسِ بدينِهمُ الحَقِّ وعَقيدَتِهمُ الصَّحيحةِ.
ومِنَ الأمثِلةِ الواضِحةِ على أنَّ الإسماعيليَّةَ كانت الرَّائِدةَ في فلسَفةِ كافَّةِ الفِرَقِ نَظَريَّةُ الفيضِ الأفلاطونيَّةُ؛ فقد كانتِ الإسماعيليَّةُ أوَّلَ مَن حاول فرضَ هذه النَّظَريَّةِ على العَقائِدِ الإسلاميَّةِ؛ لذا أصبَحَت عَلَمًا في هذا الاتِّجاه. فالإسماعيليَّةُ بحَسبِ زَعمِها تَرى أنَّ الخالِقَ الحَقيقيَّ للكونِ هما (العَقلُ الكُلِّيُّ والنَّفسُ الكُلِّيَّةُ) وأنَّهما مِن جُملةِ الحُدودِ في العالمِ العُلويِّ، وهذان الحَدَّانِ يُقابلُهما -على حَسَبِ قاعِدةِ المَثَلِ والمُثولِ- في العالمِ السُّفليِّ حَدُّ النَّبيِّ وحَدُّ الإمامِ أوِ الوصيِّ؛ لذا فإنَّ كُلَّ الألقابِ التي تُطلقُ على اللهِ تُطلَقُ أيضًا على الوصيِّ والإمامِ بصِفتِهما مُمَثِّلًا العَقلَ الكُلِّيَّ. وهذه القاعِدةُ تَقولُ بها جَميعُ الفِرَقِ الإسماعيليَّةِ الأُخرى على اختِلافِ أسمائِها.
ولكِنَّ الدُّروزَ رَغمَ انشقاقِهم عنِ الإسماعيليَّةِ، وأخذِهمُ الكثيرَ مِن عَقائِدِها، إلَّا أنَّهم رَفضوا نَظَريَّة المَثَلِ والمُثولِ التي تَقولُ بها الإسماعيليَّةُ، وقَرَّروا أنَّ الحُدودَ العُلويَّةَ المَوجودةَ في العالمِ العُلويِّ هي ذاتُها المَوجودةُ في العالمِ السُّفليِّ ولا اختِلافَ بَينَها، وبما أنَّ الدُّروزَ انشَقُّوا عنِ الإسماعيليَّةِبإظهارِهم أُلوهيَّةَ الإمامِ الإسماعيليِّ، فقد أعلنوا جَوهَرَ هذه العَقيدةِ، وهي: أنَّ اللهَ يتَّخِذُ على مَرِّ العُصورِ والأزمانِ حِجابًا أو صورةً ناسوتيَّةً يتَجَلَّى فيها لخَلقِه. تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا. وأنَّ الحِجابَ الأخيرَ الذي ظَهَرَ فيه كان بصورةِ الحاكِمِ بأمرِ اللهِ العُبَيديِّ، وبذلك أظهَروا عَقيدةً كانتِ الإسماعيليَّةُ تُخفيها ولا تُعلنُها.
وفي الوقتِ نَفسِه أخَذوا عنِ الإسماعيليَّةِ نَظَريَّةَ العُقولِ السَّبعةِ وطَبَّقوها على ظهوراتِ اللهِ بالصُّورةِ النَّاسوتيَّةِ، وزَعَموا أنَّ عَدَدَ هذه الظُّهوراتِ كانت سَبعًا آخِرُها الحاكِمُ.
أمَّا النُّصَيريَّةُ فتَعتَبرُ أنَّ الذَّاتَ الإلهيَّةَ مُتَشَخِّصةٌ بالمَعنى، وهو (عَليُّ بنُ أبي طالبٍ) تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا، ولكِنَّها في الوقتِ نَفسِه لم تَتَجاهَلْ نَظَريَّةَ الفيضِ التي قالت بها الإسماعيليَّةُ والدُّروزُ، فزَعَمَت أنَّ العَقلَ الكُلِّيَّ هو (الميمُ) أي: مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ النَّفسَ الكُلِّيَّةَ هي (السِّينُ) أي: سَلمانُ الفارِسيُّ، وهو -حَسَبَ زَعمِهم- الذي خَلقَ السَّماواتِ والأرضَ، والأيتامَ الخَمسةَ كذلك!
وجَميعُ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ التي وصَف اللهُ بها نَفسَه في القُرآنِ الكريمِ لا تَعتَرِفُ بها كافَّةُ الفِرَقِ الباطِنيَّةِ؛ فهم ينفونَ نَفيًا مُطلقًا هذه الصِّفاتِ، إيجابيَّةً كانت أم سَلبيَّةً، لأنَّه تعالى -على حَسَبِ زَعمِهم- فوقَ مُتَناوَلِ العَقلِ، والعَقلُ عاجِزٌ عن إدراكِ كُنهِه، فإثباتُ هذه الصِّفاتِ -بزَعمِهم- يعني عَدَمَ التَّوحيدِ؛ ولذلك فهمَ يزعُمونَ أنَّ هذه الصِّفاتِ تَليقُ فقَط بحُدودِه، وخاصَّةً العَقلَ والنَّفسَ، باعتِبارِهما مِن فيضِه ومُبدَعاتِه.
وثَمَّةَ وجهٌ آخَرُ مِن أوجُهِ الشَّبَهِ بَينَ هذه الفِرَقِ، وهي عَقيدةُ التَّناسُخِ، ورَغمَ أنَّ الإسماعيليَّةَ لا تُجاهرُ أو تُصارِحُ بالقَولِ بها، إلَّا أنَّ المُتَتَبِّعَ لآراءِ الإسماعيليَّةِ يجزِمُ أنَّها تُؤمِنُ بها، شَأنُها شَأنُ الفِرَقِ الأُخرى، ولكِنَّ هناك بَعضَ الاختِلافاتِ بَينَ هذه الفِرَقِ.
فالإسماعيليَّةُ والنُّصَيريَّةُ تُؤمِنانِ بوُجودِ عالمٍ روحانيٍّ تَسكُنُه المَلائِكةُ، وعالمٍ سُفليٍّ هو عالمُ الكونِ والفسادِ. وهم إضافةً إلى ذلك يعتَقِدونَ بأنَّ الأجسادَ مَصدَرُ الشَّقاءِ والآلامِ، وأنَّ المُؤمِنَ حينَ مَوتِه تَذهَبُ نَفسُه إلى العالمِ العُلويِّ، وأمَّا الكافِرُ فيتَقَلَّبُ في الأجسادِ البَشَريَّةِ وغَيرِ البَشَريَّةِ عِقابًا له على ما قدَّمَ، وعلى هذا فالإسماعيليَّةُ والنُّصَيريَّةُ تُؤمِنانِ بالمَسخِ، أي: أن تَأتيَ نَفسُ الكافِرِ عِقابًا لها بقُمصانٍ رَديئةٍ كالحَيواناتِ، أو تَأتي بصورةٍ جامِدةٍ مِن مَعدِنٍ أو حَجَرٍ، فتَذوقُ بذلك عَذابَ جَهَنَّمَ!
وهذا الاعتِقادُ بالنَّسخِ والمَسخِ يُخالفُ اعتِقادَ الدُّروزِ الذين ينحَصِرُ التَّناسُخُ عِندَهم في الصُّورِ البَشَريَّةِ فقَط، ولا يكونُ في البَهائِمِ أوِ الجَماداتِ؛ ولذلك فقدَ عَبَّروا عنِ التَّناسُخِ بكلمةِ التَّقَمُّصِ؛ لأنَّ في انتِقالِ النَّفسِ إلى جِسمِ حَيوانِ ظُلمًا لها، فالثَّوابُ والعِقابُ بُني عِندَهم على قاعِدةِ العَدلِ الإلهيِّ في مُحاسَبةِ الأرواحِ بَعدَ مُرورِها في القُمصانِ البَشَريَّةِ.
وهناك عَقيدةٌ أُخرى لا يختَلفونَ فيها أبَدًا، وهي عَقيدةُ التَّقيَّةِ؛ فالتَّسَتُّرُ والكِتمانُ عِندَ جَميعِ هذه الفِرَقِ فرضٌ لا يجوزُ التَّهاوُنُ فيه، لأنَّ البَوحَ بأسرارِ اعتِقاداتِها إلى غَيرِ أهلِها تَدنيسٌ لها؛ لذا فقَد طالبَتِ الإسماعيليَّةُ والدُّرزيَّةُ والنُّصَيريَّةُ أتباعَها بالاستِتارِ وعَدَمِ التَّظاهرِ بما يُبطِنونَ، وهَكذا فقد أصبَحَت هذه العَقيدةُ عادةً مُستَحكِمةً عِندَ جَميعِ أتباعٍ هذه الفِرَقِ؛ لأنَّها تَعني التَّظاهُرَبشَيءٍ والإيمانَ بشَيءٍ آخَرَ، ومن ثمَّ فقد جَعَلت هذه العَقيدةُ مِن أتباعِها بُؤرةً للنِّفاقِ والخِداعِ يتَّصِفونَ به جَميعُهم، وهذا واضِحٌ مِن تاريخِهم.
ويُمكِنُ أن يُضافَ إلى عَقيدةِ التَّقيَّةِ أمرٌ آخَرُ مُرتَبطٌ بها، وهو أنَّ جَميعَ هذه الحَرَكاتِ تَطلُبُ مِنَ المُستَجيبينَ لها عُهودًا وأيمانًا غَليظةً يجِبُ أن يُؤَدِّيَها حتَّى يوثَقَ به، ومَعَ ذلك فإنَّهم لا يُسَلِّمونه كُلَّ الأسرارِ دَفعةً واحِدةً، بل على التَّدَرُّجِ، وكما هو واضِحٌ عِندَ الدُّروزِ والنُّصَيريَّةِ.
وهم يتَّفِقونَ كذلك في تَأويلِ آياتِ القُرآنِ حَسَبَ مُعتَقداتِهم، وأنَّ له ظاهرًا وباطِنًا؛ حتَّى يُثبِتوا صِحَّةَ مُعتَقداتهمُ المُناقِضةِ للقُرآنِ الكريمِ.
ونَستَنتِجُ مِمَّا سَبَقَ أنَّ نُقطةَ الخِلافِ والالتِقاءِ الرَّئيسيَّةَ بَينَ الإسماعيليَّةِ والدُّروزِ والنُّصَيريَّةِ هي عَقيدةُ الأُلوهيَّةِ، فجَميعُهم يُقِرُّونَ بإمكانيَّةِ تَجَسُّدِ الأُلوهيَّةِ في صورةِ إنسانٍ، ولكِنَّ الإسماعيليَّةَ تَراها في الأئِمَّةِ الإسماعيليِّينَ جَميعًا، بَينَما الدُّروزُ والنُّصَيريَّةُ جَعَلتا لتَجَسُّدِ الأُلوهيَّةِ ظُهورًا أخيرًا، فكان عِندَ الدُّروزِ بشَخصِ الحاكِمِ، وعِندَالنُّصَيريَّةِ بشَخصِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا، أمَّا بَقيَّةُ العَقائِدِ فقد يلتَقونَ في شَيءٍ منها ويختَلفونَ في شَيءٍ آخَرَ، ولكِنَّهم مُتَّفِقونَ في جَوهَرِها.