المَبحَثُ الحاديَ عَشَر: النُّصَيريَّةُ في العَصرِ الحَديثِ
يُعتَبَرُ النُّصَيريَّةُ في العَصرِ الحَديثِ امتِدادًا لأجدادِهمُ القُدَماءِ؛ فقد واصَلتِ النُّصَيريَّةُ في العَصرِ الحَديثِ نَفسَ الوتيرةِ التي كان عليها أجدادُهم قديمًا مِن مُعاداةٍ للدِّينِ، وكُرهٍ للمُسلمينَ، وعُزلةٍ عنِ المُجتَمَعِ الإسلاميِّ، والتَّرحيبِ بكُلِّ مُستَعمِرٍ غازٍ
[3694] يُنظر: ((النصيرية نموذج للاختراق الباطني في الفكر الإسلامي)) لشواط (ص: 12 - 22)، ((دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين الخوارج والشيعة)) لجلي (ص: 323). .
أوَّلًا: تاريخُهمُ الحَديثُلم يُكوِّنِ النُّصَيريَّةُ دَولةً مُستَقِلَّةً في القديمِ، ولكِنَّهمُ اشتَرَكوا في تاريخِ الشَّامِ مُنذُ القَرنِ الخامِسِ الهجريِّ في مُناوَشاتٍ مَحَلِّيَّةٍ تارةً ضِدَّ الدُّروزِ، وتارةً ضِدَّ المَماليكِ. وفي العَهدِ العُثمانيِّ على الشَّامِ لاقَوا الكثيرَ مِن ألوانِ الاضطِهادِ؛ ولهذا كثيرًا ما ثاروا ضِدَّ الوُلاةِ العُثمانيِّينَ.
ومِن ذلك أنَّه عَقِبَ خُروجِ إبراهيم باشا الكبيرِ مِن سوريا هَجَمَ نُصَيريَّةُ الجَبَلِ على اللَّاذِقيَّةِ فنَهَبوها، وفي مُدَّةِ وِلايةِ راشِد باشا على سوريا تَمَرَّد أهالي الجَبَلِ على الحُكومةِ، فأمَرَ البابُ العالي بإخمادِ هذا التَّمَرُّدِ، فأخمَده بغايةِ العُنفِ؛ إذ شَنَقَ العُصاةَ وأحرَقَ بُيوتَ النُّصَيريَّةِ، وهَدَأتِ الحالُ حَوالي عَشرِ سَنَواتٍ، ثُمَّ عاد النُّصَيريَّةُ إلى الثَّورةِ، فأرسَلتِ الدَّولةُ العُثمانيَّةُ حَمَلةً تَحتَ قيادةِ الفريقِ عاكِف باشا، فقَبَضَ على المُتَمَرِّدينَ ونَفى بَعضَهم إلى قَلعة عَكَّا، وشَنقَ البَعضَ الآخَرَ||hamish||3695||/hamish||.
ومَن أشهَرِ ثَوراتِهم تلك التي قامَ بها في النِّصفِ الثَّاني مِنَ القَرنِ التَّاسِعَ عَشَر أحَدُ كِبارِ النُّصَيريَّةِ، وهو إسماعيل خَير بك، فأخمَدَتها الحُكومةُ وعَيَّنَته حاكِمًا على قَضاءِ صافيتا، ولكِنَّه ثارَ ثانيةً ولجَأ إلى خالِه فغَدَرَ به إرضاءً للحُكومةِ التي شَتَّتَت كُلَّأُسرَتِه. وكان أكبَرُ أولادِه هو هَوَّاش، ثُمَّ نَفته مَعَ أُسرَتِه إلى جَزيرةِ رودسَ، وظَلَّ هناك حتَّى توفِّي.
وبما أنَّ تاريخَالنُّصَيريَّةِ في السَّنَواتِ الأخيرةِ قدِ ارتَبَطَ بحِزبِ البَعثِ فلا بُدَّ مِن إلقاءِ نَظرةٍ على تَأسيسِ هذا الحِزبِ وظُروفِ نَشأتِه، وكيف تَسَلَّقوا إليه وطَوَّعوه لخِدمَتِهم؟
لقد أسَّسَ حِزبَ البَعثِ رَجُلانِ اثنانِ أحَدُهما نَصيريٌّ مِن لواءِ الإسكندَريَّةِ اسمُه زَكي الأرسوزيُّ، والثَّاني اسمُه ميشال عَفلق نَصرانيٌّ صَليبيٌّ مِن نَصارى اليونانِ.
ويقولُ سامي أحَدُ تَلاميذِ الأرسوزيِّ: (كان الأُستاذُ الأرسوزيُّ يتَحَدَّثُ كثيرًا عنِ المَسيحِ، ويرى الجاهليَّةَ مَثَلَه الأعلى)
[3696] يُنظر: ((الإخوان المسلمون والمؤامرة على سوريا)) لجابر رزق (ص: 25، 26). .ويقولُ أيضًا: (ناقَشتُه سَنةَ 1946م بالقُرآنِ، فعابَ عَليَّ نَزعَتي الدِّينيَّةَ)
[3697] يُنظر: ((الإخوان المسلمون والمؤامرة على سوريا)) لجابر رزق (ص: 25، 26). .
وقد ضَمَّ حِزبُ البَعثِ في البدايةِ كُلَّ الطَّوائِفِ الحاقِدةِ على الإسلامِ من نُصَيريِّينَ ونصارى ودُروزٍ وإسماعيليِّينَ، ولكِنَّ النُّصَيريِّينَ بدؤوا يعمَلونَ شَيئًا فشَيئًا على تَصفيةِ الحِزبِ مِن غَيرِهم، إلى أن تَمَّ لهم ذلك.
ثانيًا: مَواطِنُهم وتَوزيعُهم السُّكَّانيُّلقد كانت مَواطِنُهم في البدايةِ تَتبَعُ مَقارَّ شُيوخِهم، وكان ألمَعُ رُؤَسائِهم هو حُسَين بن حَمدان الخصيبيَّ، وقد تَتَلمَذَ على الجُنبُلاويِّ في جُنْبُلا، فلمَّا ماتَ الشَّيخُ رَحَل إلى بَغدادَ، ثُمَّ اتَّخَذَ مَدينةَ حَلبٍ مَقَرًّا له، ولكِن في هذه الأيَّامِ لم يعُدْ يسكُنُها منهم إلَّا عَدَدٌ قَليلٌ، وإن كان عَدَدٌ غَيرُ قَليلٍ منهم يعيشُ في منبجَ وبابِ سروجٍ مِن أعمالِ حَلبٍ، فإذا ما اتَّجَهْنا مِن حَلبٍ إلى الجَنوبِ وجَدْنا عَدَدًا كبيرًا منهم يسكُنُ تلك المَناطِقَ، ثُمَّ يتَكاثَرُ العَدَدُ في أطرافِها في اتِّجاه تَدمُرَ. وإذا ما انعَطَفْنا إلى الغَربِ مِن حَلبٍ فسَوف نَلتَقي بمَناطِقَ صِرفةٍ لهم بحَيثُ أنَّ نِسبةَ غَيرِهم فيها لا تَزيدُ عن 10% ومِن هذه البلادِ اللَّاذِقيَّةُ وجَبلةُ وبانياسُ والعمرانيَّةُ وصافينا وتلكحُ، هذا فضلًا عنِ القُرى الكثيرةِ التي تُحيطُ بتلك البلادِ، والتي يصعُبُ حَصرُها.
أمَّا إذا اتَّجَهْنا إلى الحُدودِ التُّركيَّةِ حَيثُ المَناطِقُ التي اقتَطَعَتها فرَنسا مِن سوريَّةَ ومَنحَتها لتُركيَّةَ مِثلُ الإسكندَرونةِ وأنطاكيةَ وما حَولها مِن بلادٍ، وجَدنا عَدَدًا كبيرًا منهم يعيشُ فيها ويُشَكِّلُ نِسبةً مَرموقةً بَينَ سُكَّانِها. أمَّا المَناطِقُ التُّركيَّةُ أصلًا مِثلُ أضنة وطَرَسوسَ وقُراهما فهي بدَورِها عامِرةٌ بالنُّصَيريِّينَ، وقدِ استَقَرُّوا فيها مُنذُ زَمَنٍ غَيرِ بَعيدٍ
[3698] يُنظر: ((إسلام بلا مذاهب)) للشكعة (ص: 266) وما بعدها. .
ثالثًا: عَلاقَتُهم بالاستِعمارِإذا وعَينا جَيِّدًا الأهدافَ التي قامَت مِن أجلِها الفِرَقُ الباطِنيَّةُ -ومنها النُّصَيريَّةُ- وهي هَدمُ الإسلامِ وتَقويضُ أركانِه، وإزاحةُ السُّلطةِ التي تُمَثِّلُه وتَعمَلُ على حِمايتِه؛ إذا وعَينا هذا وتَفهَّمناه عَرَفنا أن النُّصَيريَّةَ سَتُرَحِّبُ بكُلِّ مُستَعمِرٍ مادامَ يخدُمُ تلك الأغراضَ، وتُمَهِّدُ له الطَّريقَ للدُّخولِ وللظَّفَرِ، وتَتَجَسَّسُ له على المُسلمينَ مِنَ الدَّاخِلِ، وتُؤَيِّدُه وتَحمِلُ مَعَه السِّلاحَ. وفِعلًا هذا ما أثبَتَه الواقِعُ وشَهدَ عليه التَّاريخُ مُنذُ القديمِ وإلى تَسليمِ مَناطِقِ الجولانِ الغاليةِ للعَدوِّ الإسرائيليِّ!
ومِنَ المَعروفِ أنَّ الفاطِميِّينَ الذين تَرَعرَعَ في ظِلِّهمُ النُّصَيريُّونَ لم يُساهموا في حُروبِ المَغولِ والحُروبِ الصَّليبيَّةِ، وبالتَّالي فإنَّ النُّصَيريِّينَ تَعاونوا مَعَ المَغولِ والصَّليبيِّينَ ضِدَّ المُسلمينَ
[3699]يُنظر: ((المسلمون في سوريا والإرهاب النصيري)) (ص: 6). .
وقد كانوا أثناءَ الهَجمةِ الصَّليبيَّةِ على العالمِ الإسلاميِّ والوطَنِ العَرَبيِّ عَونًا للصَّليبيِّينَ على المُسلمينَ. ولمَّا استَولى الصَّليبيُّونَ على بَعضِ البلادِ الإسلاميَّةِ قَرَّبوهم وأدنَوهم وجَعَلوا لهم مَكانًا مَرموقًا، وعِندَما تمَكَّن المُسلمونَ مِن طَردِ الصَّليبيِّينَ اعتَصَمَ النُّصَيريُّونَ بجَبَلِهم، واقتَصَرَ عَمَلُهم على تَدبيرِ المكائِدِ والفِتَنِ.
ولمَّا أغارَ التَّتارُ بَعدَ ذلك على الشَّامِ مالأهم أولئك النُّصَيريُّونَ كما مالؤوا الصَّليبيِّينَ مِن قَبلُ، فمَكَّنوا للتَّتارِ مِنَ الرِّقابِ، حتَّى إذا انحَسَرَت غاراتُ التَّتارِ قَبَعوا في جِبالهم قُبوعَ القواقعِ في أصدافِها لينتَهزوا فُرصةً أُخرى
[3700] يُنظر: ((المذاهب الإسلامية)) لمحمد أبو زهرة (ص: 95، 96). .
فالنُّصَيريَّةُ إذًا كأقَلِّيَّةٍ دينيَّةٍ لم تَستَطِعْ أن تُبَرهنَ على ولائِها وإخلاصِها للإسلامِ والمُسلمينَ، بَل على العَكسِ شَهدَ التَّاريخُ أنَّها كانت تُسانِدُ كُلَّ غازٍ للأرضِ العَرَبيَّةِ، وتُؤَيِّدُ كُلَّ قاصِدٍ لهَدمِ الإسلامِ والقَضاءِ على الحَضارةِ الإسلاميَّةِ، وقد يكونُ هذا ناتِجًا عن مَوقِفِ المُسلمينَ منهم واعتِبارِهم خارِجينَ عنِ الإسلامِ، أو عنِ اعتِبارِهم فِرقةً غاليةً استَمَدَّت أفكارَها مِن مَصادِرَ غَيرِ إسلاميَّةٍ بهَدَفِ القَضاءِ على الإسلامِ؛ وفي هذا يقولُ أمين الرَّيحانيُّ: (والغَريبُ العَجيبُ أن يجتَمِعَ الغَرَضُ بَينَ هاتَينِ الأقلِّيَّتينِ: المارونيَّةِ والعَلَويَّةِ، وكِلتاهما مُتَمَسِّكةٌ بعَقيدَتِها وبأوليائِها أشَدَّ التَّمَسُّكِ، فتَسلُكانِ مَسلكًا واحِدًا في الماضي والحاضِرِ، وتَكونانِ مَعَ السَّائِدينَ مِنَ الأجانِبِ على أهلِ البلادِ الوطَنيِّينَ)||hamish||3701||/hamish||.
وفي العَصرِ الحَديثِ كانت عَلاقَتُهم بالاستِعمارِ أشَدَّ وُضوحًا؛ فهم لا يُنكِرونَ ذلك بَل يتَبَجَّحونَ به أحيانًا، ومَكرُهم للإسلامِ والمُسلمينَ أدهى وأمَرُّ.