المَبحَثُ الثَّاني: الأطوارُ التي مَرَّ بها التَّصَوُّفُ
مَرَّ التَّصَوُّفُ بأطوارٍ مُتَعَدِّدةٍ؛ إذ بَدَأ بالزُّهدِ في البَصرةِ وغَيرِها من أمصارِ المُسلمينَ، ثمَّ تَحَوَّل بَعدَ ذلك إلى طُرُقٍ صوفيَّةٍ لكُلٍّ منها مَعالِمُها الخاصَّةُ، وصارَت تَنحَرِفُ عنِ الإسلامِ وتَعاليمِه رُوَيدًا رُوَيدًا، ويُمكِنُ بإيجازٍ عَرضُ ثَلاثِ مَراحِلَ واضِحةٍ للتَّصَوُّفِ كما يَأتي:
المرحلةُ الأولى: كان يَغلِبُ على أصحابِها جانِبُ العِبادةِ والبُعدِ عنِ النَّاسِ، مَعَ التِزامِهم بآدابِ الشَّريعةِ، وقد يَغلِبُ على بَعضِهمُ الخَوفُ الشَّديدُ والبُكاءُ المُستَمِرُّ، وبَعضُ الباحِثينَ يُطلِقُ على أصحابِ هذه المَرحَلةِ صوفيَّةَ أهلِ الحَديثِ
[46] يُنظر: ((الاتجاهات العقدية عند الصوفية)) للسهلي (ص: 19-47). .
وكان من هؤلاء في المَدينةِ: عامِرُ بنُ عَبدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيرِ، الذي كان يواصِلُ في صَومِه ثَلاثًا، ويَقولُ له والِدُه: (رَأيتُ أبا بكرٍ وعُمَرَ ولم يَكونا هكذا)
[47] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (5/219). .
وكان في البَصرةِ طَلْقُ بنُ حَبيبٍ العَنزيُّ، وعَطاءٌ السُّلَميُّ الذي بَكى حتَّى عَمِش
[48] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (14/601). .
ومن هؤلاء الزُّهَّادِ: إبراهيمُ بنُ سَيَّارٍ، وبشرُ بنُ الحارِثِ الحافي الذي فاقَ أهلَ عَصرِه في الزُّهدِ وحُسنِ الطَّريقةِ واستِقامةِ المَذهَبِ وعُزوفِ النَّفسِ، كما قال الخَطيبُ البَغداديُّ في تاريخِه
[49] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) (7/67- 80). . ومن هؤلاء جُنَيدُ بنُ مُحَمَّدٍ الجُنَيد، الذي يَنقُلُ عنه الخَطيبُ البَغداديُّ قَولَه: (عِلْمُنا مَضبوطٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، ومَن لم يَحفَظِ الكِتابَ ولم يَكتُبِ الحَديثَ ولم يَتَفَقَّهْ، فلا يُقتَدى به)
[50] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) (7/241- 249). ويُنظر: ((التصوف في ميزان البحث والتحقيق)) للسندي (ص: 43 – 104)؛ حيث ترجَم لعَدَدٍ مِن مُعتَدِلي الصُّوفيَّةِ. .
إنَّ هذه المَذاهِبَ قد ظَهَرَت فيما بَعدَ القُرونِ المُفضَّلةِ رُوَيدًا رُوَيدًا، وكان أصحابُها الأوَّلونَ قدِ انفرَدوا بما أتَوا منَ الزُّهدِ والوَرَعِ، الذي لم يَكُنْ عليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه رَضِيَ اللهُ عنهم، ومَن تَبعَهم بإحسانٍ، وإلى هذا يُشيرُ قَولُه تعالى:
وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد: 27] .
ورُبَّما كان الصُّوفيَّةُ صادِقينَ في زُهدِهم في هذه المَرحَلةِ، مَعَ بُعدِهم عنِ الدُّنيا، إلَّا أنَّ التَّشَدُّدَ الذي فرَضوه على أنفُسِهم لم يَأمُرْ به الشَّارِعُ، ويَحتَمِلُ وُجودُ تَأثيرٍ للنَّصارى في تَكوينِ القَناعاتِ بتَرويضِ الجَسَدِ بأكثَرَ منَ الحَدِّ الذي شَرَعَه اللهُ تعالى لتَهذيبِ غَرائِزِه؛ كَي تَصفوَ الرُّوحُ
[51] يُنظر: ((الصوفية)) للعبدة وعبد الحليم (ص: 29). .
المرحلةُ الثَّانيةُ: أدخَل فيها المُتَصَوِّفةُ مُصطَلحاتٍ جَديدةً فتَحَدَّثوا أكثَرَ عنِ الفَناءِ والبَقاءِ، وعِلمِ الإشارةِ في المُكاشَفاتِ والإلهاماتِ. ومنَ الباحِثينَ مَن يُطلِقُ على أصحابِ هذه المَرحَلةِ صوفيَّةَ أهلِ الكَلامِ
[52] يُنظر: ((الاتجاهات العقدية عند الصوفية)) للسهلي (ص: 48-62). .
وفي هذه المَرحَلةِ: نَشَأ ما يُسَمَّى بعِلمِ الظَّاهِرِ والباطِنِ، وزَعَمَ بَعضُهمُ الاطِّلاعَ على عِلمِ الغَيبِ.
وقد نَشَأتِ الطُّرُقُ الصُّوفيَّةُ واتَّخَذَت لها رُموزًا منَ المَشايِخِ، كَأبي الحَسَنِ الشَّاذِليِّ، وأحمَدَ الرِّفاعيِّ، وعَبدِ القادِرِ الجيلانيِّ، وغَيرِهم. مَعَ ما حَصَل في هذه الطُّرُقِ فيما بَعدُ منِ انحِرافاتٍ عن مَنهَجِ مَشايِخِهم، وظُهورِ البدَعِ والغُلوِّ والشِّركيَّاتِ بما لم يَكُنْ لدى أوائِلِهم.
المرحلةُ الثَّالثةُ: تُعتَبَرُ هذه المَرحَلةُ -التي يُسَمِّيها البَعضُ بمَرحَلةِ الصُّوفيَّةِ المُتَفلسِفةِ
[53] يُنظر: ((الاتجاهات العقدية عند الصوفية)) للسهلي (ص: 63-90). - من أخطَرِ مَراحِلِ التَّصَوُّفِ؛ حَيثُ تَسَرَّبَتِ الفلسَفةُ اليونانيَّةُ، فابتَعَدَت بها عَمَّا سَبَقَها من أطوارِ التَّصَوُّفِ؛ إذ كان تَأثيرُ الفلاسِفةِ قويًّا بَعدَ تَرجَمةِ كُتُبِ اليونانِ، وفيها نَظَريَّةُ الفيضِ والإشراقِ، التي تَلعَبُ دَورًا خَطيرًا في فِكرِ التَّصَوُّفِ، خاصَّةً عِندَ السُّهرَوَرديِّ، وابنِ عَرَبيٍّ
[54] يُنظر: ((الصوفية)) للعبدة وعبد الحليم (ص: 40، 41). .
وقد ذَكَرَ عَدَدٌ منَ الباحِثينَ أنَّ الأفلاطونيَّةَ الحَديثةَ هي أحَدُ المَصادِرِ الأساسيَّةِ للتَّصَوُّفِ، وأنَّها المَصدَرُ الأوَّلُ بالنِّسبةِ إلى القائِلينَ بوَحدةِ الوُجودِ والحُلولِ. ويَرى آخَرونَ أنَّها مَأخوذةٌ منَ البوذيَّةِ وغَيرِها منَ الدِّياناتِ المُحَرَّفةِ، كاليَهوديَّةِ والنَّصرانيَّةِ
[55] يُنظر: ((التصوف المنشأ والمصادر)) لظهير (ص: 121). .