المبحثُ الخامِسُ: السَّماعُ والذِّكرُ
عُرِف لَدى الصُّوفيَّةِ ما يُسَمَّى بمَجلسِ السَّماعِ؛ إذ يَجتَمِعونَ في مَكانٍ مُعَيَّنٍ لسَماعِ مُنشِدٍ صاحِبِ صَوتٍ حَسَنٍ، مَعَ استِعمالِ بَعضِ الآلاتِ، فتُنشَدُ قَصائِدُ الزُّهدِ وتَرقيقِ القُلوبِ، أو قَصائِدُ الغَزَلِ، وذِكرُ (لَيلى) و(سُعدى) التي تُهَيِّجُ الحُبَّ.
ويَكونُ في تلك المَجالسِ أيضًا ذِكرٌ للَّهِ تَعالى بالرَّقصِ والدُّفِّ والغِناءِ، كذِكرِ اسمِ اللهِ المُفرَدِ (اللَّهُ) بصَوتٍ واحِدٍ، وعِندَما يَشتَدُّ ذلك يَرفَعونَ عَقيرَتَهم أكثَرَ، ويَتَحَوَّلُ اسمُ اللهِ إلى (هو)، ثُمَّ تَليها هَمهَمةٌ، وقد يَجتَمِعُ مَعَ هذا الصُّراخِ والقَفزِ في الهَواءِ أخلاطُ النَّاسِ مِنَ النِّساءِ والأولادِ؛ لرُؤيةِ ذلك!
قال القاضي عِياضٌ: (قال التِّنِّيسيُّ: كُنَّا عِندَ مالِكِ بنِ أنَسٍ وأصحابُه حَولَه، فقال رَجُلٌ مِن أهلِ نَصيبِينَ: عِندَنا قَومٌ يُقالُ لَهمُ الصُّوفيَّةُ، يَأكُلونَ كَثيرًا ثُمَّ يَأخُذونَ في القَصائِدِ، ثُمَّ يَقومونَ فيَرقُصونَ. فقال مالِكٌ: أصِبيانٌ هم؟ فقال: لا. قال: أمَجانينُ هم؟ قال: لا، هم مَشايِخُ وعُقَلاءُ! قال: ما سَمِعتُ أنَّ أحَدًا مِن أهلِ الإسلامِ يَفعَلُ هذا)
[317] ((ترتيب المدارك)) (4/5). .
واللهُ سُبحانَه وتَعالى وصف الذَّاكِرينَ له باطمِئنانِ قُلوبِهم وخُشوعِهم وإخباتِهم، فقال اللهُ تعالى:
إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عليۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَانا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَابا مُّتَشَابِها مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ [الزمر: 23] .
قال ابنُ القَيِّمِ: (فإن قال قائِلٌ: فهذا السَّماعُ قد حَضَرَه جَماعةٌ مِنَ الأولياءِ ومِمَّن لا يُشَكُّ في عُلُوِّ مَنزِلَتِه عِندَ اللهِ، مِثلُ الجُنَيدِ وأصحابِه، والشِّبليِّ وأمثالِه، مِثلُ يوسُفَ بنِ الحُسَينِ الرَّازيِّ، ومِن قَبلِه مِثلُ ذي النُّونِ المِصريِّ وغَيرِهم، فكيف يَسوغُ لَكُم تَخطِئَتُهم والإنكارُ عليهم؟
فالجوابُ من وجوهٍ:الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذا السَّماعَ المَسؤولَ عَنه على هذا الوَجهِ قد بَرَّأ اللهُ منه أولياءَه وأعاذَهم مِنه، وحاشاهم أن يكونَ أحَدٌ مِنهم حَضَرَه أو رَضيَه أو أباحَه، وإنَّما السَّماعُ الذي حَضَرَه مَن حَضَرَه مِنهم أنَّ جَماعةً كانوا يَجتَمِعونَ يَذكُرونَ اللَّهَ والدَّارَ الآخِرةَ، وأعمالَ القُلوبِ وآفاتِها، ومُصَحِّحاتِ الأعمالِ والأحكامِ والفُروقِ والوجدِ والإرادةِ، فإذا رَقَّت قُلوبُهم، وتَحَرَّكَت همَمُهم، واشتاقَت نُفوسُهم إلى السَّيرِ؛ قامَ حادٍ يَحدو أرواحَهم وقُلوبَهم؛ ليَطيبَ لَها السَّيرُ إلى اللهِ والدَّارِ الآخِرة، ويُذَكِّرُها مَنازِلَها الأولى، كما قيلَ:
وحَيَّ على جَنَّاتِ عَدنٍ فإنَّها
مَنازِلُك الأولى وفيها المُخَيَّمُ
ولَكِنَّنا سَبيُ العَدوِّ فهَل تُرى
نَعودُ إلى أوطانِنا ونَسلَمُ؟
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ هذا السَّماعَ وإن كان قد حَضَرَه وفعَلَه مَن لا نَشُكُّ في دينِه وصِدقِه وصَلاحِه، فقد أنكرَه مَن هو أفضَلُ مِنهم عِندَ الأُمَّةِ، وأعلى شَأنًا، وأصدَقُ حالًا، وأعرَفُ باللهِ وبأمرِه، فإن كان قد حَضَرَه وفعَلَه مِائةُ وليٍّ للَّهِ فقد أنكَرَه عليهم أكثَرُ مِن ألفِ وَليٍّ للَّهِ، وإن كان قد حَضَرَه أبو بَكرٍ الشِّبليُّ فقد غابَ عَنه أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ، وإن كان قد حَضَرَه يوسُفُ بنُ الحُسَينِ الرَّازيُّ فلم يَحضُرْه الفاروقُ الذي فرَّقَ اللهُ به بَينَ الحَقِّ والباطِلِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، وإن كان قد حَضَرَه النُّوريُّ فقد غابَ عَنه ذو النُّورَينِ عُثمانُ بنُ عَفَّانَ، وإن كان قد شَهدَه ذو النُّونِ المِصريُّ فلَم يَشهَدْه عَليُّ بنُ أبي طالبٍ الهاشِميُّ، وإن كان قد حَضَرَه سَيِّدُ الطَّائِفةِ أبو القاسِمِ الجُنَيدُ فقد صَحَّ عنه أنَّه تابَ عنه وتَرَكَه قَبلَ وفاتِه.
وإن كان قد فعَلَه أضعافُ أضعافِ هؤلاء، فقد غابَ عنه المُهاجِرونَ والأنصارُ كُلُّهم، وأهلُ بَدرٍ، وأهلُ بَيعةِ الرِّضوانِ، وجَميعُ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ، وجَميعُ أئِمَّةِ الفِقهِ والإفتاءِ، وجَميعُ أئِمَّةِ الحَديثِ والسُّنَّةِ، وجَميعُ أئِمَّةِ التَّفسيرِ، وجَميعُ أئِمَّةِ القِراءةِ، وجَميعُ أئِمَّةِ الجَرحِ والتَّعديلِ الذَّابِّينَ عَن رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ودينِه، فمَنِ النَّاسُ إلَّا أولئك؟...
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّه لَوِ اتَّفقَ عليه جَميعُ الطَّائِفةِ، وحَضَروه مِن أوَّلِهم إلى آخِرِهم، لَما كان لَكُم في ذلك حُجَّةٌ أصلًا؛ فإنَّهم بَعضُ المُسلمينَ، واتِّفاقُهم لا يَكونُ حُجَّةً على مَن سِواهم مِن طَوائِفِ أهلِ العِلمِ الذين سَمَّيناهم.
فمَن قال مِن أهلِ الإسلامِ: إنَّ اتِّفاقَ السَّماعاتيَّةِ حُجَّةٌ شَرعيَّةٌ يَجِبُ اتِّباعُها؟ أوِ اتِّفاقُ الفُقَراءِ أوِ اتِّفاقُ الصُّوفيَّةِ حُجَّةٌ؟ فهذا لَم يَقُلْه أحَدٌ مِنَ المُسلمينَ، ومَن قاله فقد خَرَقَ إجماعَ المُسلمينَ، فإنَّ الحُجَّةَ كِتابُ اللهِ وسُنَّةُ رَسولِه، وأقوالُ أصحابِه، وإجماعُ الأُمَّةِ.
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّ الصُّوفيَّةَ والمَشايِخَ لَم تُجمِعْ على ذلك، بَل كَثيرٌ مِنهم أو أكثَرُهم أنكَرَه وعابَه وأمَرَ باجتِنابِه)
[318] ((الكلام على مسألة السماع)) (ص: 46- 56). .